“أمريكا تعود إلى الطاولة”.. بايدن بدأ بالجزء السهل، لكن الشرق الأوسط هو التحدي الأصعب
تنصيب الرئيس الجديد جو بايدن ونائبته كامالا هاريس الأربعاء 20 يناير/كانون الثاني يمثل نقطة فاصلة بين رئاسة دونالد ترامب التي اتسمت بالانعزالية ورفعت شعار “أمريكا أولاً”، وبين رئاسة بايدن الذي يريد استعادة دور البطل على مسرح السياسة الدولية.
وبالفعل نفذ الرئيس الجديد بعضاً مما وعد به بشأن السياسة الخارجية في الساعة الأولى من رئاسته، حيث وقع على أوامر رئاسية أعادت الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس للمناخ والتي كان ترامب قد انسحب منها، كما ألغى قرار ترامب الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، ألغى أيضا قرار حظر دخول مواطني سبع دول إسلامية إلى أمريكا وهو القرار الذي كان ترامب قد اتخذه في بداية رئاسته قبل أربع سنوات.
وإجمالا وقع بايدن 15 قراراً رئاسياً في الساعة الأولى من رئاسته وصفت بأنها نسف لما اتخذه ترامب من قرارات في مجال المعاهدات الدولية والهجرة وغيرها، وكانت رسالة جين بيساكي المتحدثة باسم البيت الأبيض في مؤتمرها الصحفي الأول من غرفة الصحافة بمقر الرئيس الأمريكي هي عزم الإدارة الجديدة على أن تلعب الولايات المتحدة دوراً مؤثراً بالسياسة الخارجية، مضيفة “لقد عادت أمريكا إلى الطاولة العالمية”.
بايدن نفذ بالفعل الجزء السهل
وأشارت في تصريحاتها إلى أن الرئيس بايدن وقع 15 قرارًا تنفيذيًا، ألغى من خلالها العديد من القرارات التي اتخذت في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، معتبرة أن قيود السفر التي فرضت بحق بعض الدول الإسلامية خلال الإدارة السابقة “كرهاً للأجانب”.
كما أوضحت أنه بلادها عادت من جديد لمنظمة الصحة العالمية، بموجب الأوامر التنفيذية التي وقعها بايدن، لافتة إلى أن الدكتور أنتوني فاوتشي سيترأس الوفد الأمريكي للمشاركة ببرنامج تنظمه الصحة العالمية الخميس 21 يناير/كانون الثاني.
موقع Vox الإخباري الأمريكي وصف القرارات التي وقعها بايدن بأنها انطلاقة مشروع استعادة الدور الدولي للولايات المتحدة الأمريكية، مؤكداً أن تلك الإجراءات التي اتخذها بايدن في يومه الأول في المكتب البيضاوي أو الساعة الأولى بمعنى أدق هي الجزء السهل في المهمة الشاقة.
ويتمثل الجزء الصعب في مدى قدرة بايدن وإدارته على استعادة “ثقة الحلفاء” وإثبات أن أمريكا شريك يمكن الاعتماد عليه بالفعل؛ إذ إن رئاسة ترامب شهدت سياسة خارجية اتسمت ليس فقط بالانعزالية وترك فراغات في بؤر الصراع حول العالم استغلتها قوى عالمية وإقليمية في توسيع نفوذها، لكنها أيضاً شهدت عدم احترام الالتزامات الدولية لواشنطن مثل الانسحاب من منظمة الصحة العالمية في خضم جائحة كورونا الكارثية، وهو ما أصاب الحلفاء بإحساس عميق من عدم الثقة في الدولة التي يفترض أنها قائدة العالم.
والمقصود بأن بايدن نفذ الجزء السهل من المهمة هو أن العودة لمنظمة الصحة العالمية، على سبيل المثال، ليس الغرض الأساسي بل المهم هو مدى تأثير تلك العودة الأمريكية في معركة الوباء الجارية حالياً. وهذا ما عبر عنه مرشح بايدن للخارجية أنطوني بلينكين خلال جلسة مجلس الشيوخ للتصديق على تعيينه رسمياً حين قال إن واشنطن سوف تنضم إلى مبادرة “كوفاكس” الخاصة بمنظمة الصحة العالمية والمسؤولة عن إنتاج والتوزيع العادل للقاحات كورونا لجميع دول العالم.
ترامب كان قد قرر انسحاب بلاده من المنظمة، متهمة إياها بالتواطؤ مع الصين للتستر على الفيروس الذي وصفه الرئيس السابق مراراً وتكراراً “بالفيروس الصيني”، وبعد الإعلان عن التوصل للقاح فايزر/بيونتيك وموديرنا الأمريكيين، قال ترامب إنه يجب تلقيح الأمريكيين أولاً.
لكن بشكل عام، من المهم أن يدرك الأمريكيون أن المسرح العالمي الذي قررت الإدارة الجديدة العودة إليه ليس هو نفسه المسرح الذي كان موجوداً قبل أربع سنوات، وهذا ما عبر عنه بلينكين أمام مجلس الشيوخ بقوله إن “التواضع والثقة” يجب أن يكونا وجهي عملة القيادة الأمريكية؛ إذ إن محاولة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء عندما كانت الولايات المتحدة هي القطب الأوحد الفاعل على مسرح السياسة العالمي قد أصبحت مهمة مستحيلة وعلى بايدن أن يكون مدركاً لتلك الحقيقة، بحسب المراقبين.
الاتفاق النووي الإيراني
وربما تكون منطقة الشرق الأوسط وملفاتها وصراعاتها المتعددة والمتشابكة هي التحدي الأبرز الذي تواجهه إدارة بايدن، وأبرز تلك الملفات هو الاتفاق النووي الإيراني والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي والحرب في اليمن وملف حقوق الإنسان وصراع شرق المتوسط وليبيا وحقوق الإنسان والقائمة طويلة.
وإذا بدأنا بالملف الإيراني، حيث أعلن بايدن بالفعل عن عزمه العودة إلى الاتفاق النووي الموقع عام 2015 حينما كان نائباً للرئيس الأسبق باراك أوباما، نجد أن المهمة تكاد تكون شبه مستحيلة بالفعل في ظل عدد من الحقائق التي أصبحت موجودة على الأرض في المنطقة بفعل سياسات ترامب في السنوات الأربع الماضية.
أولى هذه الحقائق هي أن انسحاب ترامب بشكل أحادي من الاتفاق النووي الإيراني عام 2018 وفرض عقوبات اقتصادية صارمة على طهران بغرض إجبار قادتها على التفاوض من جديد بشأن اتفاق آخر لا يكون قاصراً فقط على البرنامج النووي ولكن يشمل أيضاً برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني ووقف تدخل طهران في شؤون الدول العربية وخصوصاً لبنان وسوريا والعراق واليمن والبحرين، قد فشل في تحقيق الغرض منه.
والآن تشعر إيران أن رحيل ترامب عن البيت الأبيض ومجيء إدارة بايدن بمثابة انتصار سياسي لها يجعلها في موقف أقوى، وبالتالي تضع شروطاً للعودة للاتفاق النووي أهمها رفع العقوبات التي فرضها ترامب فوراً ودون شروط ودفع تعويضات تقدرها بمليارات الدولارات كتعويض عن الأضرار التي أوقعتها عقوبات ترامب والأهم أنها – أي طهران – تعلن رفضها التام لأي مفاوضات بشأن اتفاق جديد.
بايدن بالطبع لا يمكنه أن يقبل بتلك الشروط الإيرانية، وحتى إن وافقت طهران على التغاضي عن دفع تعويضات، فإن عودة واشنطن للاتفاق النووي على حالته التي انسحب منها ترامب ستواجه بمعارضة عنيفة من جانب حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين في المنطقة خصوصاً إسرائيل والسعودية والإمارات، وهي مسألة معقدة في حد ذاتها، لكن أيضاً لا ننسَ أنه ستكون هناك معارضة لا تقل عنفاً في الداخل الأمريكي من جانب الجمهوريين بل وكثير من الديمقراطيين أيضاً.
ففي نهاية المطاف يرى غالبية الأمريكيين أن إيران عدو الولايات المتحدة، كما أن اللوبي الداعم لإسرائيل داخل واشنطن وداخل إدارة بايدن ذاتها سيكون معارضاً للعودة للاتفاق النووي دون وجود الحد الأدنى من الضمانات لإسرائيل وللسعودية وباقي دول الخليج كذلك بأن طهران لن تواصل سياستها المزعزعة للاستقرار في المنطقة من خلال دعم أذرعها العسكرية وخصوصاً حزب الله اللبناني والحشد الشعبي في العراق، وكذلك الحوثيون في اليمن.
وربما يكون التفجير الانتحاري الدامي الذي وقع في أحد أسواق العاصمة العراقية بغداد في اليوم الثاني لتولي إدارة بايدن، أي الخميس 21 يناير/كانون الثاني والذي أودى بحياة 28 شخصاً وأصاب أكثر من 73 آخرين، بمثابة تذكير بشع بمدى هشاشة الأوضاع ليس فقط في العراق ولكن في المنطقة ككل. وقد عبَّر وزير الخارجية العراقي عن هذا السياق عندما قال لقناة الجزيرة تعليقاً على التفجير إن “استمرار التوتر الإقليمي يوثر على الوضع الأمني الداخلي في العراق”.
الحرب في اليمن
وإذا تركنا الملف الإيراني وتطرقنا إلى الحرب المشتعلة في اليمن منذ ست سنوات نجد أن هذه الكارثة الإنسانية الأسوأ في العالم في العصر الحديث، بحسب توصيف التقارير الأممية، تمثل تحدياً آخر أمام الإدارة الأمريكية الجديدة، لا يقل تعقيداً ولا صعوبة عن الملف النووي الإيراني.
صحيح أنه عندما قام الحوثيون بالانقلاب على الحكومة الشرعية في اليمن في الربع الأخير من عام 2014، وتشكيل السعودية للتحالف العربي لإعادة الشرعية ودخول الحرب ضد الحوثيين في مارس/آذار 2015، كان جو بايدن موجوداً على الساحة السياسية كنائب للرئيس باراك أوباما وباركت الإدارة وقتها تلك الخطوة وقدمت الدعم للتحالف، إلا أن الوضع الآن مختلف بصورة جذرية عما كان عليه في بداية الحرب.
فمن ناحية أصبح واضحاً أنه لا يوجد مخرج عسكري للحرب، بمعنى أن الحوثيين لن يحققوا انتصاراً كاملاً يستولون من خلاله على اليمن ككل، ولا التحالف بقيادة السعودية قادر على حسم الحرب. ومن ناحية أخرى، أصبح التحالف السعودي-الإماراتي منقسماً على نفسه في ظل دعم أبوظبي للمجلس الانتقالي الجنوبي الساعي للانفصال بجنوب اليمن عن شماله وبالتالي هناك حرب داخل الحرب.
وفي ظل الكارثة الإنسانية التي أصبحت تتصدر المشهد، إذ فقد عشرات الآلاف من المدنيين حياتهم وتم تشريد الملايين، ويواجه أكثر من نصف سكان اليمن شبح المجاعة، تريد إدارة بايدن أن تضع نهاية للحرب، والسؤال هو أي نهاية؟ وكيف يمكن إقناع الإماراتيين بوقف دعمهم للانفصاليين في الجنوب؟ أو إقناع الحوثيين بالقبول بتوفير ضمانات للرياض التي لا تقبل بوجود دولة شيعية تابعة لإيران بالتواجد على حدودها؟ وهذه فقط الأسئلة الرئيسية للصراع.
وإذا كانت الحرب في اليمن والملف الإيراني بهذا التعقيد، فإن القضية الفلسطينية وإقرار السلام في المنطقة من خلال حل الدولتين يظل الملف القديم الجديد الذي يجمع المراقبون على أنه أصل غالبية قضايا وصراعات المنطقة والتي ستظل تراوح مكانها ما لم يكن هناك حل جذري لذلك الصراع.
والآن يتولى بايدن المسؤولية في وقت شهدت فيه رئاسة ترامب ما يمكن تسميته بمحاولات تصفية القضية الفلسطينية ومنح رئيس الوزراء الإسرائيلي واليمين المتطرف الداعم له كل ما يريده، من نقل للسفارة الإسرائيلية إلى القدس وضم معظم أراضي الضفة الغربية وباقي عناصر صفقة القرن، فما الذي يمكن أن يقدمه الرئيس الجديد وإدارته للفلسطينيين لإقناعهم بالعودة إلى طاولة المفاوضات وعلى أساس؟
هذا بخلاف ملف حقوق الإنسان وتوتر العلاقات الأمريكية مع تركيا العضو البارز في حلف الناتو، والقرارات التي اتخذها ترامب لتسهيل التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية مثل الاعتراف بمغربية الصحراء الغربية والموافقة على بيع طائرات الإف-35 للإمارات، وكلها ملفات توحي بأن بايدن يواجه صعوبة كبيرة في التعامل مع الحلفاء في الشرق الأوسط وليس فقط الأعداء التقليديين.