ثقافة وأدب

قصاصات وجع

القاصٌة هند يوسف خضر..سورية
 عضو اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين في سوريا

أوشك الفجر أن يطلع، أمطار غزيرة تلوح في الأفق مصحوبة بالرعد…
وصلت بسمة إلى العقد الرابع من عمرها بعد رحلة شاقة من تدريس اللغة العربية في إحدى مدارس مدينة الياسمين، امتزجت بآلام مرض خبيث فتك بخلايا جسدها الغض وفرقها عن جمال الذي جمعتها معه حكاية غلب عليها الطابع الإنساني فكانت سبباً في قصة حب لا مثيل لها..
جمال القروي الذي دفعه طلاق والديه إلى ترك الجامعة والانتقال مع والدته إلى دمشق للعمل فيها ماسحاً للأحذية، طبيعة عمله في المدينة لن تشعره بالخجل فلا أحد من المارة يعرفه وفي نفس التوقيت يعيل والدته المصابة بآلام مزمنة في المفاصل…
كانت بسمة متعجرفة و مغرورة، تحتقر العمال الدراويش و تعتبرهم ليسوا من مقامها، فجمالها المستفز وغناها الفاحش لا يسمحان لها بالارتباط بمن هو أقل من منها، بالإضافة إلى مستواها التعليمي…
التقت بجمال مرة وهي ذاهبة إلى الجامعة برفقة صديقتها المقربة هند، قام أحد المارة بجانبها بتوسيخ حذائها، استشاطت غضباً والتفتت يميناً، وجدت شاباً يمسح أحذية المارة، اتجهت نحوه، مدت حذاءها لينظفه بعد أن استعملت لهجة الأمر معه، وقفت هند جانباً كي لا تحرج الشاب، بينما بدأ جمال بعمله قام شاب مجرد من الأخلاق بمد يده إلى مؤخرتها وتفوه بألفاظ سوقية، لم يضبط جمال أعصابه فقد تبعه، أسقطه على الأرض وانهال عليه بالضرب إلى أن تمكن الشاب من الهروب وسط الزحام…
هذا الموقف كان كفيلاً بتغيير طريقة تفكير بسمة و كيفية النظر إلى الناس، شعرت نفسها أنها صغيرة جداً عندما شكرته وهي منذ لحظات عاملته بازدراء، تراجعت عن فكرة مسح الحذاء ومضت الصديقتان في طريقهما…
لم تنم ليلتها وهي تفكر بما حصل و قررت الذهاب إليه لتعتذر له عن طريقة معاملتها له، حصل ذلك في صبيحة اليوم التالي، كل منهما انتابه شعوراً مختلفاً تجاه الآخر تجاوز حدود الشكر والأسف، تعارفا على بعضهما بالتدريج، علمت بسمة أن هذا الشاب قست عليه ظروفه و دفعته إلى هذا العمل كي لا يجعل أمه محتاجة لعطف الناس، كبر في عينيها كثيراً، وقعت في حبه، كيف لا تحبه وقد أعطاها درساً لم تتعلمه في المدارس والجامعات،؟!
باح لها بحبه بعد تردد طويل، فالفوارق بينهما كبيرة ومن المؤكد لن يسمح لها أهلها بالارتباط بماسح أحذية، عاهدته على الدفاع عن هذا الحب- لكن المفاجأة التي حصلت أن أهل بسمة وافقوا على ارتباطها بجمال دون تعقيدات بشرط بعد تخرجها-
عاشا فرحة لا تقدر بثمن، رسما أحلاماً وخططا لتحقيقها…
بعد التخرج وخلال التحضير للخطوبة شعرت بسمة بوعكة صحية، عند ذهابها للطبيب وإجراء الفحوصات اللازمة تبين إصابتها بسرطان ثدي وبحاجة لعملية استئصال، لم تكن خائفة من المرض ولا من الموت فقد زودها جمال بجرعة أمل عالية، لكنها كانت خائفة على مشاعره عندما يعلم أنها ستضحي بحبها كي لا يربط مصيره بأنثى تعد أيامها، قررت إخفاء قصة مرضها عنه كي لا يغرق في حزنه مرتين، قابلته وأخبرته بأنها ستتزوج من ثري بحجة أن الحب لا يطعم الخبز، تركته يعتقد أنها مخادعة، ظل يراسلها دون أن يفقد الأمل، كانت تقابله بالصد،أخبرته أنها ستسافر في نفس التوقيت الذي تستعد فيه للدخول إلى العمليات، أكثر مشهد حول قلبها إلى قصاصات وجع عندما مرت مع شاب بجانبه وقدمته له على أنه خطيبها، أصيبت بعدها بانهيار عصبي، ناجته كثيراً في نفسها كي يغفر لها..
رافقتها هند خلال فترة عمليتها وعلاجها الكيماوي، استطاعت أن تتجاوز الآلام والصعوبات كي يبقى جمال بخير…
مرت عدة سنوات، توفي والديها في حادث سير، عاشت لوحدها في المنزل، باشرت دوامها في مدرسة على مدار أعوام طويلة، لم تفكر بالزواج مطلقاً رغم وصولها خبر زواج جمال كصفقة تجارية بامرأة ثرية وقد سافر معها خارج البلد…
نهضت ذات صباح متعبة، جلست في سريرها، تضعضع كيانها، أثقل السهاد جفنيها، أخذت إجازة، اتصلت بصديقتها هند وطلبت منها الحضور العاجل، خرجت هند من منزلها دون أن ترتدي معطفاً يقيها من البرد، لم تتعثر في الدخول لأنها تملك نسخة عن المفتاح، وجدت بسمة وكأن شبح الموت يدنو منها، حاولت أن تتصل بالطبيب لكن بسمة منعتها، أخبرتها أن هناك ما يستدعي الحديث عنه فقد لا يسعفها الوقت لذلك…
اسمعيني يا هند ..قصتي مع جمال تعرفينها جيداً ولكن..
تقاطعها هند: جمال ؟؟ ما الذي ذكرك به الآن؟
لا تقاطعيني أرجوك، لقد علمت أن جمال قد انفصل عن زوجته وعاد منذ مدة قريبة، وهو الآن يعمل في معمل للغزل والنسيج، اذهبي إليه، أبلغيه ما حدث معي وقولي له أن يسامحني كي يخف ألمي وترقد عينيّ بسلام…
فعلت هند ما طلبته منها صديقتها في نفس اللحظة ونجحت في إيصال الرسالة، بعد مضي عدة ساعات، سمعت صوت هند وهي تدخل، وعندما استدارت نحوها فتحت عيناها حد الاتساع، أصيبت بذهول تام وصرخت: جمال؟
اقترب منها باكياً، تأملها، ضمها إلى صدره مطولاً وقال:
مازلت جميلة كما عرفتك، لماذا لم تخبريني يا بسمتي بالحقيقة؟ لماذا تركتيني أعيش في دوامة بين حبك وخداعك؟ لقد مر العمر ولم تكوني معي،سأكمل معك كيفما كنت ولن أخذلك كما خذلك المرض…هل تسمعين؟
ابتسمت كعادتها كما يحبها وطلبت منه ومن هند أن يخرجا قليلاً من الغرفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى