“بيكفي حرب”.. حراك كسر حاجز الخوف 1/2

سليم الزريعي
كان لابد أن تكون هناك لحظة تفيض فيها كأس الصبر لدى أهل غزة ممن يتعرضون لحرب إبادة موصوفة، وأن يتجاوزوا خوفهم، بأن يفيض غضبهم على واقع فرض عليهم دون إرادتهم، وصل حد الموت جوعا، وكان يمكن تحمُل ذلك قياسا بمرات الحروب العديدة السابقة التي رافقت استيلاء حماس على قطاع غزة عام 2007، وأقامت نموذجها السلطوي بمعزل عن الضفة الغربية، لكن اللامبالاة وغياب أي دور جدي لوقف الحرب لحماية الناس، من قبل حماس، فيما هي تعيش في الأنفاق، جعل أهل غزة يدفعون الثمن دون أي أفق لحل يضع حدا لحرب الإبادة، مع أن حماس هي من قررت بمفردها ووفق أجندتها، خطة ومبادرة تفجير التناقض مع الاحتلال، وبمعزل حتى عن القوى الأخرى، التي التحقت بطوفان حماس على طريقة “الفزعة”، بأن سلمت موضوعيا بأجندة حماس الخاصة، التي أدارت الحرب والتفاوض وفقا لرؤيتها تلك، وهي الرؤية التي لم تقم وزنا لحياة الناس من أهل غزة، بأن تركتهم يواجهون المحرقة بسقوط المزيد من الضحايا مع كل يوم إضافي في عمر تلك الحرب، فيما هي بحكم الواقع السلطة الحاكمة، في حين أن القاعدة تقول: إن تولي المسؤولية يقرر واجبا على من يتولاها، بصرف النظر؛ إن كان هذا التولي قد جاء بطريقة مشروعة من عدمها، فكان أن ظهر سلوك حماس على ضوء الوقائع الملموسة، وكأنها غير معنية، بوقف هذه الحرب التي تحصد المئات يوميا بين قتيل ومصاب بسبب توحش الكيان جراء عمليتها العسكرية في 7 أكتوبر 2023. حتى بدا وطوال عام ونصف من المحرقة، أن الوقت لم يكن يعني لها شيئا، مع أنه من دم وخراب، بدعوى أنها تعد “نفسها لحرب استنزاف طويلة”، وفق ما جاء في رسالة يحيى السنوار لزعيم الحوثيين في 16/9/2024، بمعنى أنها تستدرج الكيان إلى حرب مفتوحة، في حين أن ميزان قوى للأسف ليس لصالح حماس بالمطلق، وبعيدا عن المكابرة وتضخيم الذات، فإن حرب الاستنزاف هي من جانب آخر، وصفة لسقوط المزيد من الضحايا على مدار الساعة. لتأتي دعوات الاحتلال بإخلاء المناطق الشمالية من القطاع، بعد إطلاق قذائف باتجاه مستعمرات غلاف غزة، لتكون تلك القطرة التي أفاضت كأس صبرهم ليس لأنهم ضد المقاومة كما تدعي حماس، ولكن لسوء التقدير والخفة وغياب المسؤولية لدى من قام بذلك، ارتباطا باللحظة التي كان العدو يبحث فيها عن ذريعة، ذرا للرماد في عيون المجتمع الدولي، للتغطية على مخطط تهجير أهل المنطقة من جانب. ومن جانب آخر للادعاء أمام الرأي العام الدولي أن حماس تقصف المدنيين في مستعمرات الغلاف كمبرر لاستهداف المناطق التي انطلقت منها تلك القذائف التي باتت بلا معنى من الناحية العسكرية.
جملة هذه المعطيات أنتجت موضوعيا حراك “بيكفي حرب”، الذي تحدى فيه الناس كل المخاطر، سواء تلك التي قد تأتي من قبل العدو، أو من قبل حماس، التي تعتبر أن أي رأي، أو موقف شعبي ينتقدها، هو موقف عدائي يجب مواجهته، سواء باستخدام العنف المادي، أو اللفظي باتهام من يقوم به في وطنيته، وهو ما حصل فعلا عندما ربطت بعض وسائل إعلامهما الحراك بأنه بترتيب من الكيان الصهيوني، بما يعني أنهم ضد المقاومة التي هي حماس.
في حين أن هذا التوصيف هو فعل غير مسؤول لجماعة باتت مفصولة عن الواقع، وهو نتاج ذهنية لا ترى أو تسمع إلا صوتها، وأي رأي آخر يخالفها فهو مدنس، ولديها ترسانة من الاتهامات الجاهزة لإعدامه معنويا، قبل أن تقوم بذلك ماديا عبر القمع والحجز وتكسير العظام، وهو سلوك يعكس ثقافة الولاء والبراء، التي مارستها طوال سيطرتها على القطاع بشكل أو آخر، قبل حرب الإبادة التي يشنها العدو على أهل غزة، ردا على طوفان حماس، وللتذكير لا بأس من استحضار كيف تعاملت حماس مع حراك شعبي كان قد جرى قبل عدة أعوام، تحت شعار “بدنا نعيش”، كما وثقته الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، وهو “أن الأجهزة الأمنية في قطاع غزة قد ارتكبت أثناء فض التجمعات السلمية جملةً من الانتهاكات طالت العديد من الحقوق والحريات جراء عمليات الفض بالقوة التي تقوم بها الأجهزة الأمنية، وطالت الحق في الحرية والأمن الشخصي (الاحتجازات التعسفية)، علاوة على الاعتداء على النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان”.
وأورد تقرير الهيئة أنه”منذ سيطرتها على قطاع غزة عام 2007، واجهت الحركة، مسيرات مختلفة الكثافة وبعضها كان تحت مسمى «حراك بدنا نعيش» في أعوام 2016 و2019 و2022، لكن في كل مرة كانت تستخدم القوة لقمعها، وتتهمهم بأنهم يعملون لأجندات سياسية إما مرتبطة بحركة «فتح»، أو “إسرائيل”، وتعتقل من يقف خلفها.
الشاهد أن القمع والتخوين هي سياسية مرتبطة بذهن حماس، لكن الفارق هذه المرة مقارنة بحراك “بدنا نعيش” في مضمونه الإنساني الاقتصادي، أن أهل غزة يعيشون نكبة بفعل العدوان المباشر من قبل العدو الصهيوني، الذي هو رد فعل، كان يجب أن يكون متوقعا ممن تسبب في تفجير التناقض مع الاحتلال، دون الاستعداد لرد فعله أو حتى توقع أبعاده، ويمكن القول إن غياب هذا التوقع عبر عن قصور معرفي وذهني، لمن قرر أن يقوم بهجوم 7 أكتوبر، في غياب أي رؤية لحماية الناس، أو مقاربة موضوعية بين الهدف من الهجوم، ونتائجه، التي كانت كارثية بكل المقاييس ليس على أهل غزة فقط، وإنما على الضفة الغربية، بما فعله ويفعله في مدنها ومخيماتها، وشروعه في ضمها للكيان، وفي والمناطق المحتلة عام 1948، بل وطالت الإٌقليم في لبنان وسوريا والعراق وإيران واليمن، وجعلت الكيان الصهيوني يتبجح بأنه غير خريطة الشرق الأوسط بالمعنى الجيوسياسي لصالح رؤيته، بعد أنهى ظاهرة ما يسمى بمحور المقاومة ووحدة الساحات، وبات يعربد دون رادع في لبنان وسوريا، وتراجع فصائل العراق ، وانكماش إيران.