الصحافة الفنلندية..بين حرية التعبير وإزدواجية المعايير
بقلم: لؤي عوض الله
من خلال متابعتي للصحف الفنلندية وقنواتها وكيفية تعاطيها مع مجريات بطولة كأس العالم لكرة القدم المقامة في قطر، وقُبيل بدأها استشرست بشاعة بهجومها على الدولة المستضيفة لمونديال كأس العالم 2022..حيث تعد أول دولة عربية تقام على أرضها مباريات كأس العالم منذ أن بدأ تنظيمها في ثلاثينيات القرن المنصرم.
وتأتي هذه الحملة مجاراة لمثيلتها الأوربية والتي لا تقل ضراوة عن غيرها من الحملات، بتركيزها بشكل فج على أحقية دولة قطر بتنظيم كأس العالم لكرة القدم، من خلال الادعاءات المكررة بدفع رشاوي لاتحاد كرة القدم الدولي “الفيفا”، والذي لو فرضنا جدلاً صحة هذه الإدعاءات، فإنه في المقام الأول يدين اتحاد كرة القدم الدولي قبل قطر.
وفي نفس السياق أثارت تلك الصحف عاصفة من الرسوم الكاريكاتيرية مسلطة بحبرها الأسود على قضية وفاة العمال هناك وانتهاكات حقوق الإنسان والظروف اللإنسانية التي كانوا يعملون فيها أثناء إنشائهم للملاعب والمرافق التابعة لها، ولأن المهنية شرط أساسي في الصحافة إستخدمت مصطلح “العبيد” دلالة لاستعبادهم وأكل حقوقهم، والتي جاءت في تقارير سابقة ولكن تم نفيها بشكل قاطع من خلال لجان دولية أكدت عدم صحتها.
ومع انطلاق صافرة الحكم معلنة بدء أولى المباريات، لا تزال الصحافة الفنلندية بشقيها الورقي والمرئي تعزف على نفس النغمة وتغني بنفس الوتيرة من خلال مراسلهم في الدوحة، بتكرار محاولاته في تسليط الضوء على بعض السلبيات الموجودة في المونديال، والتي قد تكون وجدت في كل البطولات السابقة، إذ قام بتسجيل لقاء مع مواطن استرالي الجنسية يشكو من استئجاره لمنزل صغير بمنافعه وصوره بقذارته، وادعى بأنه يدفع ما يعادل ٢٠٠ دولارا يوميا، ولأن المراسل لم يروي عطشه بإبراز مساويء هذا البلد العربي قام باستجداء بعض الإجابات من خلال طرحه لأسئلة تخدم مصلحته فالتقى ببعض المشجعين الإنجليز الذين حضروا لتشجيع منتخبهم، فجاءت أغلب ردودهم إيجابية فيما يخص تنظيم المونديال وأجوائه، وهذا مما تسبب في إحراج المراسل الفنلندي بقول أحد المشجعين “دعنا لا نخلط السياسة بالرياضة ولنركز على كرة القدم”، فاضطر المراسل إلى الاعتراف بأن الأجواء العامة مونديالية بامتياز وتسير بشكل سلس من خلال التنظيم، وهنا يستحضرني مافعله اللاعب المصري أبوتريكة حين رفع قميصه لدعم القضية الفلسطينية بعد انتهاء إحدى المباريات فهاجت الدنيا وماجت مطالبة بفصل السياسة عن الرياضة.
يبدو أن سيرورة البطولة والحفل الافتتاحي المبهر الذي لا يقل شأنا عن سابقاته وإشادة رئيس اتحاد الفيفا “جياني إنفانتينو” بالتنظيم وبالمجهودات التي بُذلت لإنجاحها قد وجهت صفعة مدوية للغرب المنافق وازدواجية المعايير المعهودة لديهم بمن فيهم فنلندا، التي تعاني من مشاكل جمة بانتهاكها لحقوق المهاجرين والعمال والعنصرية المبطنة أحيانا من خلال سنها لبعض القوانين المطاطية واللزجة، ناهيك عن النظام الصحي المعروف بمعاناته من مشاكل جدية لم تحل منذ سنوات طويلة، مما انعكس سلباً على البلد.
فبرغم التقارير الدولية التي تخرج علينا كل فينة وآخرى، لتُرينا نجاعة الأنظمة التعليمية في فنلندا والتي لا مثيل لها في العالم ، وبتصنيفها أيضا بالبلد الأسعد ، إلا أن إعلامهم يتجاهل كليا تسليط الضوء على ارتفاع نسبة معدلات الانتحار هنا وحالات الاكتئاب الحاد، ناهيك عن مشاكل أخرى سنتطرق إليها لاحقاً.
وبالعودة إلى عام 1890 حيث تأسست مؤسسة الصحافة الفنلندية، نجد أن فنلندا توجت بلقب الدولة الأكثر حرية للتعبير في العالم، وبالرغم مما تدعيه الصحافة الفنلندية العريقة من حرية التعبير وتعدد الآراء، فالنقيض هو خير دليل وما نطالعه في عناوينها العريضة خير برهان، فهي صحافة الرأي الواحد الذي يصب في اتجاه يخلط السياسة بالمجالات الأخرى مستخفا بجميع الآراء أو بتعبير أدق متجاهلا لها وموجها كل إمكانياته لخدمة سياساته وتوجهاته دون مراعاة للقيم الأخلاقية والمعايير المهنية متجاوزا إياها دون أن يرف له جفن، حيث يفتقد إلى الحيادية التي تعتبر سمة لا يجوز إنكارها أو تجاوزها وللأسف فقدت الصحافة مصداقيتها وهذا الملمح رأيناه حين تطرح الصحافة الفنلندية قضايا تتعلق بالمهاجرين فتسلط الضوء على جانب وزاوية ضيقة فيما يندرج تحت مسمى حرية الصحافة وتعمد تجاهلها للجوانب الأكثر حساسية وأهمية.
في النهاية فالمحاولات حثيثة والمساعي من قبل الصحافة الفنلندية بشكل خاص والصحافة الأوربية والغربية بشكل عام في تشويه أي إنجاز للعرب والمسلمين أو الشعوب الأفريقية لا تزال قائمة فمن وجهة نظرهم لا نستحق أن نحقق أي إنجاز يحسب لنا وهذا ما تعودنا عليه النظرة المتعالية التي تنم على حقد دفين لن ينتهي بمرور الزمن والعقلية الاحتلالية المترسخة في أذهانهم منذ الأزل وسمو أعراقهم على الأعراق الأخرى.
وحتى هذه اللحظة ما تزال المناوشات مستمرة والمساعي لإفشال البطولة من خلال صب الانتقادات الممنهجة سواء من الفرق، الدول أو الأفراد بالاعتراض على منع الدولة المضيفة لحقوق المثليين وإبراز شعارهم أو عدم السماح بشرب الخمور في الملاعب بالتهديد بالانسحاب من البطولة، وبفرض ثقافتهم التي لا تتناسب مع ثقافاتنا وقيمنا، مع ذلك نحن مطالبون باحترامها رغم تعارضها مع تقاليدنا وعاداتنا، وهنا يبدو أن الغرب لم يستطع أن يتخلص من عقليته الاستعبادية والاستعمارية إذا جاز أن نسميها كذلك فاحترام ثقافة الآخر ومبادئه لا تعدو سوى حبر على ورق في مواثيق الأمم المتحدة يطبقونها حينما يشاؤون ويخفونها أو يضربون بها عرض الحائط حينما يريدون.
فالعالم لم يعد حكرا على البعض دون الآخر، فقد جاء الوقت ليفرض كل نفسه بإمكانياته وأدائه وإنجازاته ويمارس حقه في الحياة دون أن يتجاوز حدوده أو يستعبد ويُتحكم به من قبل الآخر دون مسوغ يخوله لذلك أو أن يحدد مصيره وفقا لمصالحه وأهوائه، ومن هنا تبدأ نقطه التغير دون تراجع.