“المجاز” جسر بين اللغة والسياسة.. دراسة جديدة لعمار علي حسن
“إدارة التوحش”، “أرض الميعاد”، “الاغتيال المعنوي”، “الباب المفتوح” و”البطة العرجاء”.. نماذج من مسرد بأهم المجازات السياسية المتداولة التي أوردها الباحث المصري في ملحق بعد خاتمة كتابه الجديد “المجاز السياسي”.
الكتاب ثري بالأمثلة والنماذج والمصادر التي رجع إليها الكاتب باللغتين العربية والإنجليزية، وفيه يستكمل مهمة بدأها في كتاب “الخيال السياسي” الصادر عام 2017.
صدر الكتابان ضمن سلسلة “عالم المعرفة” الثقافية الشهرية التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت، وفيهما يتطرق الكاتب لمجالات غير مألوفة في الأدبيات السياسية العربية.
في كتابه الأول، يتحدى تعريفاً شائعاً للسياسة بأنها “فن الممكن” ليجعل منها أيضاً مادة للخيال، ويشاكس في الكتاب الثاني مَن يعتقدون أن السياسة تدور حول “حقائق” ليكشف وجهاً آخر يجعلها تحل بقوة هائلة في “المجاز”.
والهدف من الكتابين كما يشير عمار علي حسن، هو مساعدة ممارسي السياسة على فتح أذهانهم على “احتمالات وخيارات متعددة، تترتب عليها تصرفات مرنة في دنيا الناس”.
يطرح المؤلف في كتابه الثاني قضية شائكة في الدراسات الاجتماعية بشكل عام وفي علم السياسة على وجه الخصوص، وهي قضية “الحقيقة” التي تصبح أحياناً مناطاً للتلاعب، مما يعطي للمجاز حظاً أكبر بكثير من الحقائق، خصوصاً عندما يكون هناك تنازع حول الحقيقة التي “لا تخلو من إقامة للمجاز أو حلول مغرض له”، حيث تكون للبلاغة قدرة أكبر على التأثير في النفوس ودغدغة مشاعر الجماهير والتلاعب بها واستمالتها.
لكنه ينبه إلى أن “الاهتمام بالمجاز يجب ألا يقّل في وعينا عن الانشغال بالحقيقة”، فالمجاز لا يستخدم دائماً لإخفاء الحقيقة وإنما يستخدم أحياناً لإجلائها على نحو ما يشير الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر، كما أوضح مؤلف الكتاب في أكثر من موضع.
ويسعى حسن من خلال دراسته، التي يصنفها على أنها دراسة في مجال الاجتماع السياسي، للبرهنة على حضور المجاز في الحياة السياسية بقدر حضوره في المجتمع الذي تُشكل اللغة واسطة التفكير فيه والتعبير عنه.
ويشير إلى أن الصور المجازية تظهر في الاستعمالات العادية للغة كما نراها في عناوين الصحف وأن المجاز “منساب في تفاصيل حياتنا بشكل ظاهر للعيان”.
حرص المؤلف على أن يكون أكثر وضوحاً في تحديد مجال دراسته ومنهجيتها والهدف منها. ويقول: “لم أقصد بدراسة المجاز السياسي أن ألقي السياسة في مجاهل الابتعاد التام عن ملامسة الحقيقة، لا سيما أننا الآن في حاجة ماسة إلى تقريب السياسة، فكرا وممارسة، من الحقائق”.
ويمكن القول إن الكتاب محاولة لكشف المجاز في الخطاب والفكر السياسي المعاصر.
منهج
وتكشف فصول الكتاب الستة عن منهجية صارمة اعتمد المؤلف من خلالها على إسهامات اللغويين وتقسيماتهم كنقطة انطلاق للتطبيق في المجال السياسي الأوسع.
في دراسته التي استفاض فيها للاستعارة، يشير الكاتب إلى تزايد استعمال الاستعارة، خلافاً للتصوّر الذي يعتقد أن الخطاب السياسي تخلص من الرطانة ويعتقد ميل هذا الخطاب إلى استعمال لغة وظيفية مباشرة لا تحتمل تأويلات عديدة.
ويعزو الكاتب ذلك التوظيف للاستعارة إلى تراجع الخلافات الجوهرية بين الأحزاب السياسية في الغرب بعد انتهاء الاستقطاب الأيديولوجي وصعود الطريق الثالث الذي مزج بين خطابي الحرية والعدالة، ويكشف عن وظيفة أخرى ممكنة للاستعارة بوصفها وسيلة معرفية مركزية لا غنى عنها لفهم العالم وفهم أنفسنا وإعطاء معنى لما يدور حولنا وبداخلنا وإبداع معان وحقائق جديدة نظرا لارتباط الاستعارة بالأنساق الفكرية.
ويؤكد المؤلف أهمية المجاز في مجال السياسة وضرورة الاهتمام بدراسته نظرا لحضور الاستعارة والمبالغة والصور الجمالية والذهنية والفكرية وكذلك الفراغات التي يصنعها الصمت بإيماءته وإيحاءاته في الخطاب السياسي المتداول وفي الأفكار والنظريات التي تركها مفكرون وفلاسفة، رغم فقر المجاز في الخطاب السياسي العربي، سواء في خطابات الساسة المحترفين أو فيما يكتبه الصحفيون والباحثون والكتاب في قضايا السياسة وشؤونها.
ويشير المؤلف إلى أهمية وخطورة “المجاز السياسي” سواء وظّفته السياسة في لعبة الإلهاء والإغواء والإغراء، أو استخدمته في التمرير والتنوير. وهو يرى أن المجاز لا يقتصر دوره على التبرير والتضليل، وإنما يلعب دورا مهما في التحليل وتقريب الواقع للأذهان.
يفتح الكتاب آفاقاً جديدة في تحليل الخطاب السياسي، إذ ينقلنا من تقنيات تحليل المضمون والخطاب التي تبحث عن تكرار مفردات معينة إلى جوانب أكثر عمقا وشمولا في تحليل لغة السياسة كما يعبر عنها الخطاب السياسي المتداول أو كما وردت في معظم الأدبيات السياسية، كما أنه يمثل إضافة في التحليل السياسي بشكل عام بالتركيز كذلك على مكونات مثل الصورة وتحليل الصمت.