جبران خليل جبران.. من عربية الكاهن إلى إنجليزية “النبي”
أنجز الراحل جبران خليل جبران في سنوات عمره القصيرة (48 عامًا) ما توّج اسمه كواحد من أشهر أدباء وشعراء ورسامي لبنان، وعلامة في تاريخ أدب المهجر الذي ترك في رصيده العديد من العناوين اللافتة، لعل أشهرها واحدا من الكتب التي ما زال يقرأها العالم حتى اليوم، وهو كتاب “النبي” الذي بيع منه عشرات الملايين من النسخ منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
بلغت شهرة جبران الآفاق، وهو الطفل الذي وُلد 10 أبريل نيسان عام 1883 ونشأ فقيرًا في بلدة بشري شمالي لبنان، لم يلتحق بمدرسة نظامية.
وكان كاهن بلدته الأب جرمانوس يأتي لمنزله ويعلمه العربية والسريانية إضافة إلى الإنجيل، وقد لقنه مبادئ القراءة والكتابة الطبيب الشاعر سليم الضاهر.
مرّت الأيام حتى هاجر برفقة عائلته في فترة صباه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك نبتت علاقته الأولى بالأدب، وما لبثت أن توطدت بعدما قرر دراسته وممارسة الكتابة التي جمع فيها بين اللغتين العربية والإنجليزية وطغى عليها الطابع الرومانسي.
تعرف جبران في المهجر على شعراء من بني موطنه، فالتقى هناك إيليا أبو ماضي والأمين الريحاني وميخائيل نعمة، وهم جميعا من أبرز من تحدثوا بالشعر في المهجر في أوائل القرن العشرين، وأسسوا له رابطة في الولايات المتحدة الأمريكية، وأطلق عليهم “شعراء المهجر”.
وكان كتاب جبران “النبي” طفرة في الكتابة، صدر عام 1923، وهو كتاب صاغ فيه الكاتب اللبناني ألوانًا من الفلسفة “الجبرانية” المدموغة بالنثر الشعري.
وما زال هذا الكتاب من كلاسيكيات الأدب التي يُعاد طبعها، لما له من قيمة أدبية وروحية، حتى أن ترجمته تعدت 100 لغة إلى الآن في العالم، ليقرأه ملايين القراء بعد سنوات طويلة تفصلنا عن وفاته.
كما تحول إلى فيلم سينمائي بطريقة الرسوم المتحركة يحمل نفس اسم الكتاب، وعرض وقتها في مهرجان “كان” السينمائي، وهو من إنتاج عام 2014 من سيناريو وإخراج روجر أليرس وبطولة ليام نيسون والفنانة اللبنانية الأصل سلمى حايك، التي شاركت في إنتاجه أيضًا، وقالت في معرض تصريحاتها الصحفية عن مشاركتها في إحياء هذا العمل الأدبي اللافت: “جبران خليل جبران أثار مرارا وتكرارا مسألة التسامح، ومن خلال تذكيرنا بالأمور الجميلة في الحياة التي تجمعنا، وهذا مهم اليوم.”
تمر فلسفة جبران في “النبي” ما بين دفتي الحياة والموت، يتأمل مفردات حياتية بسيطة، وأخرى موغلة في التعقيد، فهو يتحدث فيه عن الحب، الزواج، الأبناء، الحرية، البيوت، الثياب، الأخلاق، الكرم، الجمال وغيرها من فروع الحياة.
ولأنه كتاب عمره، فقد ترسخّت فيه المعان والفلسفات التي جمعها جبران في “النبي” منذ سنوات طفولته الأولى، التي أعادت تجربة الهجرة تشكيلها من جديد، فحاول استيعاب اتساع العالم وذوبان حدوده المكانية والإنسانية في تجربة كتاب وصفه أنه “ولادته الثانية”، وكرّس من أجله العمل منذ عام 1919 حتى 1923، وكتب ذات مرة عنه قائلًا: ” شغل هذا الكتاب الصغير كل حياتي. كنت أريد أن أتأكد بشكل مطلق من أن كل كلمة كانت حقاً أفضل ما أستطيع تقديمه”.
وتتسع دائرة الاهتمام بتراث جبران خليل جبران في العالم الغربي بشكل لافت، فإلى جانب الاحتفاء بأعماله، تم اقتباس سيرته إلى عدد من الأعمال المسرحية التي عرضت خلال السنوات الأخيرة على مسارح الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، ويجد صناع المسرح في أعماله وسيرته نزوع واحتفاء بالإنسانية والتسامح والمحبة.
كانت مراسلاته مع الأديبة الفلسطينية اللبنانية مي زيادة من علامات أدب المراسلات، ظل يراسلها حتى وفاته، كانت تراسله إعجابًا بمقالاته الأدبية، وكذلك أرسلت له إعجابًا بروايته “الأجنحة المتكسرة” التي نشرها عام 1913، ونشأت بينهما حالة من الألفة والروحية على الورق، رغم المسافات الطويلة التي كانت تفصل بينهما، ورغم أنهما لم يلتقيا وجهًا لوجه قط، حتى أنه كتب لها ذات مرة: “أنت تعيشين في وأنا أعيش فيك، تعرفين ذلك وأعرفه.”
عانى جبران مع المرض، فتوفي من مضاعفات مرض السل وتليف الكبد، ودفن في الولايات المتحدة إلى جوار أمه عام 1931، وتمنى لو أنه يموت في لبنان.
وتم بالفعل تنفيذ وصيته نقل رفاته إلى مسقط رأسه في بلدة بشري لبنان عام 1932، وحيث دُفن تأسس هناك “متحف جبران” الذي يحتوي على عدد من مقتنياته ونحو 440 لوحة ورسومات ومخطوطات أصلية له، ويقدر عدد زواره سنويّا بنحو 50 ألف شخص بين عرب وأجانب، تثمينًا لقدره الفكري والأدبي الذي لا يزال حيًا.