سر التصعيد السوداني ضد إثيوبيا.. الملايين مهددون من سد النهضة أم أن الجيش يبحث عن مجد يبقيه بالسلطة؟
تدفع مواقف الخرطوم القوية تجاه إثيوبيا مؤخراً، إلى التساؤل حول أسباب هذا التصعيد السوداني مع إثيوبيا، وهل ترجع فقط لتعرض البلاد لمخاطر جسيمة جراء ممارسات أديس أبابا، أم أن الجيش السوداني يبحث عن شرعية تمكنه من البقاء في الحكم، أم أن الأمر يأتي بتشجيع مصري.
وتصاعد الحديث مؤخراً عن احتمال وقوع حرب بين السودان وإثيوبيا، خاصة بعد تحذير رئيس مجلس السيادة السوداني، عبدالفتاح البرهان، من أن بلاده جاهزة لأي احتمال، رداً على ما قال إنه احتلال إثيوبي لأراض سودانية في القفشة.
وقال البرهان في اجتماع عقده في أم درمان، حسبما نقلت قناة العربية الحدث، إنه لن تكون هناك أية مفاوضات مع أديس أبابا حول ترسيم الحدود، إلا إذا اعترفت بسودانية الفشقة محملاً إثيوبيا عواقب ما يجري في المنطقة.
“سنقتلهم إذا جاءوا إلى الفشقة”
كما أعرب مسؤولون عسكريون ومراقبون من السودان وإثيوبيا عن قلقهم من إمكانية تطور النزاع الحالي بين البلدين حول منطقة الفشقة الحدودية، إلى حرب إقليمية شاملة، بحسب صحيفة واشنطن بوست الأمريكية.
العقيد عبادي الطاهر، القائد الميداني في الجيش السوداني، قال لواشنطن بوست: “نعمل ليل نهار لاستعادة الفشقة بالكامل”.
وقال اللواء إبراهيم جابر، عضو مجلس السيادة السوداني، لواشنطن بوست: “إن كل الخيارات على الطاولة لاستعادة أراضي الفشقة بالكامل” وأضاف: “إذا جاءوا إلى الفشقة سوف نقتلهم”.
ووفقاً لاتفاقية 1902 بين منليك الثاني، إمبراطور إثيوبيا آنذاك، والاستعمار البريطاني في السودان، فإن الفشقة تعتبر أرضاً سودانية.
وانتقل جنود ومزارعون إثيوبيون (من قومية الأمهرة)، إلى المنطقة في منتصف الستعينيات بينما كان الجيش السوداني يخوض العديد من الحروب الداخلية.
وبدأت اعتداءات العصابة الإثيوبية المنظمة في التوغل من خلال عناصرها داخل المساحات الزراعية السودانية، وبدأت بالسيطرة على مساحة 840 ألف فدان خلال الفترة من 1992 وحتى عام 2014 بواسطة 1659 مزارعاً إثيوبياً.
واستمر بعدها غزو عصابات الفشقة الإثيوبية بحسب تحقيق استقصائى لصحيفة “السودانى”، فى غزو الأراضي السودانية حتى تمكنت من السيطرة على نحو 2 مليون فدان من الأراضي الزراعية الخصبة بمنطقة الفشقة.
ويرى مراقبون أن ميليشيات الأمهرة في الفشقة خارجة عن سيطرة الحكومة الإثيوبية.
سد النهضة أم التوتر الحدودي؟
ومن الواضح أن الخلافات حول سد النهضة تتداخل مع النزاع حول منطقة الفشقة.
ويقول مسؤولون سودانيون إن إثيوبيا تحاول إرغام السودان على مغادرة الفشقة من خلال التهديد بملء سد النهضة في يوليو/تموز القادم، دون تفاوض.
ويقول الكاتب ماكس بيراك إنه مع بدء العدء التنازلي للملء الثاني لسد النهضة، وحشد قوات إثيوبية في الفشقة، فإن فرص تطور التوتر إلى حرب مفتوحة، تظل قائمة.
يأتي ذلك في وقت تحدثت فيه تقارير إعلامية مصرية وسودانية عن أن الخرطوم تستعد للحرب مع إثيوبيا بسبب سد النهضة.
وقال الكاتب الصحفى السوداني، شوقي عبدالعظيم، لبرنامج تليفزيوني مصري إن السودان يهيئ نفسه للحرب بسبب تعنت إثيوبيا خلال المرحلة الحالية لمفاوضات سد النهضة، والإقدام على اختراق الحدود السودانية والخلط بين ملفى الحدود وسد النهضة، مبيناً: “السودان الآن يهيئ نفسه للحرب إذا تعنتت إثيوبيا وأصرت على فرض الأمر الواقع ما لم يتحرك المجتمع الدولى وينجح في لجم أديس أبابا”.
وكان المتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية دينا مفتي قد اتهم السودان بالعمل على تأجيج الوضع، وحذر في تصريحات صحفية منتصف يونيو/حزيران من نفاد صبر بلاده حيث قال: “إلى متى ستستمر إثيوبيا في حل القضية باستخدام الدبلوماسية؟ حسناً، لا يوجد شيء بلا حدود. كل شيء له حدود”.
وأعرب الناشط الأثيوبي أبوقايا أيلي عن أسفه لما سماه “لغة تهديد من دولة جارة”. وأضاف لموقع الحرة الأمريكي إن “إثيوبيا تحاول حل المسألة سلمياً، لكن إذا فرضت الحرب علينا، نحن لها، والكل يعرف تاريخنا من إيطاليا إلى الصومال”، حسب تعبيره.
دوافع التصعيد السوداني مع إثيوبيا
واللافت هنا أن السودان كان قد صبر عقوداً على احتلال الميليشيات الأمهرية الإثيوبية، واليوم حسب التصريحات السودانية فلقد تم تحرير معظم الشفقة، ولكن تصريحات البرهان، تشير إلى أنه ما زالت هناك أراض سودانية محتلة، وأن السودان يعطي القضية أولوية، وحديثه عن أن بلاده مستعدة لأي احتمال في هذه القضية فُهم أنه تلويح بالحرب.
وتتضمن تصريحات البرهان أيضاً تأكيداً موجهاً إلى الداخل بأن الجيش السوداني لا يريد الانقلاب على الديمقراطية وحريص على بناء البلاد من خلال التعاون مع القوى المدنية الشريكة في السلطة.
ولكن بغض النظر عن التمادي الإثيوبي سواء في ملف التوتر الحدودي أو أزمة سد النهضة، فإنه يبدو أمراً مثيراً للانتباه أن هذا التصعيد السوداني مع إثيوبيا جاء بعد سنوات من المهادنة في عهد البشير وحتى بعد عزله، وفي ظل ضعف الدولة السودانية بعد سنوات من الأزمات آخرها الثورة على البشير.
فهل هذا التصعيد السوداني مع إثيوبيا سببه أن ممارسات أديس أبابا سواء على في الفشقة أو في أزمة سد النهضة أصبح لا يمكن تجاهلها وباتت تشكل خطراً حقيقياً على السودان أم أن قيادة الجيش السوداني ترى في وقوع حرب أو أزمة مع إثيوبيا فرصة لتعزيز سيطرتها أم أنه كما تزعم إثيوبيا فإن مصر تحرض السودان؟
مخاطر سد النهضة على السودان
“حياة وسلامة نصف سكان منطقة النيل الأزرق مهددة جراء خطوة الملء الثاني لسد النهضة”.
هكذا قال وزير الري والموارد المائية السوداني ياسر عباس، الأحد الماضي، خلال لقائه مع مبعوث مفوض الاتحاد الأوروبي الخاص وزير الخارجية الفنلندي، بيكا أولافي هافيستو.
وذكر أن القرار الإثيوبي يؤثر بشكل مباشر على سد الروصيرص السوداني وعلى كل الحياة على النيل الأزرق خلف سد الروصيرص، بما في ذلك توليد الكهرباء من خزان الروصيرص وسد مروي، ومحطات مياه الشرب على النيل الأزرق والنيل الرئيسي حتى مدينة عطبرة في شمال البلاد.
كما شرح الوزير التأثير السلبي الذي ستحمله هذه الخطوة على مشاريع الري على النيل الأزرق والنيل الرئيسي، وفوق كل ذلك تهديد حياة وسلامة نحو نصف سكان السودان على ضفاف النيل الأزرق، حسب قوله.
وتفيد تقارير متعددة بأن الملء الثاني يمثل خطراً على السودان أكثر من مصر.
وقال الرئيس الأسبق لقطاع الموارد المائية بوزارة الري المصرية عبدالفتاح مطاوع في تصريح لوكالة الأنباء الروسية “سبوتنيك”: “إن التأثير السلبي لملء السد على مصر لن يكون بدرجة تأثيره المباشر على السودان، لأن السد العالي بإمكانه تعويض أي نقص حالياً بالنسبة للقاهرة”.
وقد يفسر هذا سر أن قلق السودان من الملء الثاني يبدو أكبر من القلق المصري.
ويمكن القول إن آثار سد النهضة بدأت تظهر بالفعل على السودان، فلقد أكد وزير الطاقة السوداني جادين علي عبيد، أن عدم التوصل لاتفاق بشأن تعبئة وتشغيل سد النهضة أثر على توليد الكهرباء في مناطق مختلفة بالسودان.
وأضاف أنه جرى اتخاذ إجراءات تحسباً للسيناريو الأسوأ من تشغيل سد النهضة مما يؤثر على التوليد المائي لإنتاج الكهرباء في السودان.
موعد تسليم البرهان لرئاسة مجلس السيادة اقترب
رغم كل المخاطر السابقة لا يمكن استبعاد رغبة الجناح العسكري من السلطة السودانية في الاستفادة من الأزمة، سواء بالبقاء في السلطة، أو نيل مجد يتيح له الترشح لأي انتخابات رئاسية قادمة، خاصة أن وثيقة الاتفاق السياسي التي تحدد أطر مؤسسات الحكم تنص على أن يترأس العسكريون أولاً الهيئة الانتقالية المعروفة باسم مجلس السيادة لمدة 21 شهراً، على أن تنتقل الرئاسة إلى المدنيين لـ18 شهراً بعد ذلك.
ولقد تسلم المجلس السلطة في أغسطس/آب 2019 أي قد مر أكثر من 18 شهراً على تولي البرهان رئاسة المجلس السيادي وبقي نحو 3 أشهر أو أقل على موعد تسليمه رئاسة المجلس للمدنيين.
ومن شأن إشعال التصعيد السوداني مع إثيوبيا أو حرب محدودة أن يفتح الباب لتأجيل تسليم السلطة، فعادة تلتف الشعوب حول قادتها في الأزمات، وخاصة إذا كانوا من العسكريين مثل البرهان.
كما أن العلاقة القديمة بإثيوبيا بين قطاع من المكون المدني للحكم في السودان وعلى رأسهم عبدالله حمدوك الذي كان مقيماً بحكم مصبه الأممي في أديس أبابا، قد تكون مبرراً يقدمه العسكريون لمنع تسليم السلطة لهذا المكون المدني، لاسيما وأن رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد قدم نفسه باعتباره مقرباً للجناح المدني في الحكم السوداني خلال وساطته لحل الأزمة السودانية عقب الإطاحة بالبشير.
النقطة الأهم التي تزيد من احتمالات هذا السيناريو وقد تفسر التصعيد السوداني مع إثيوبيا، هي أن تاريخ القادة العسكريين الذين يحكمون السودان حالياً، يلقي بشكوك حول مصداقية وعودهم بتسليم السلطة.
فلقد تقلبوا من الولاء للبشير وإظهار التوجه الإسلامي إلى التقارب مع اليسار السوداني، ثم ارتكاب مذبحة القيادة العامة ضد المتظاهرين، والتحالف مع مصر والسعودية والإمارات، كما أن لديهم مصالح اقتصادية كبيرة (خاصة مصالح الفريق محمد حمدان دقلو في مناجم دارفور، وتجنيد السودانيين في حرب اليمن).
وفي الأحوال العادية، فإن عدم تسليم البرهان رئاسة المجلس إلى عضو من الجناح المدني قد يؤدي إلى غضب شعبي ودولي، ولكن الأمر قد يكون مختلفاً إذا حدث ذلك في خضم أزمة أو حرب مع إثيوبيا.
ولكن حتى لو كان البقاء في السلطة هو هدف البرهان وغيره من العسكريين من التصعيد السوداني مع إثيوبيا، فإن هذا لا يقلل من المخاطر الهائلة التي تمثلها الممارسات الإثيوبية في أزمة سد النهضة على مصر والسودان.
والمفارقة هنا أنه في الأغلب أن دافع رئيس وزراء إثيوبيا آبي الرئيسي لهذا التعنت في أزمة سد النهضة، هو أيضاً البقاء في السلطة عبر اصطناع تحد خارجي لصرف النظر عن إلغائه الانتخابات التشريعية بدعوى إغلاقات كورونا، ولتوحيد قوميات شعبه التي باتت تنظر إليه على أنه يعيد بناء هيمنة الأقلية الأمهرية على بقية شعوب إثيوبيا.
التشجيع المصري للسودان على التصعيد
اتهمت إثيوبيا مصر مراراً بتحريض السودان على إثيوبيا، وتسميها عادة الطرف الثالث، الذي يقف وراء التصعيد السوداني مع إثيوبيا.
وبالفعل نظمت مصر والسودان، مناورات عسكرية بالتزامن مع الحرب التي شنها آبي أحمد على إقليم تيغراي، كما تبادل البلدان الزيارات حيث قام الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بزيارة للسودان هي الأولى منذ الإطاحة بالرئيس السوداني السابق عمر البشير.
وتحدث البلدان عن خطط للتعاون الاقتصادي، إضافة إلى عروض مصرية لدعم الخرطوم، مع تزايد وتيرة التعاون بين البلدين بالتزامن مع التصعيد السوداني مع إثيوبيا.
وتصدر وسائل الإعلام مؤخراً، خبر إعلان الإعلام العسكري السوداني، أن سلاح المهندسين المصري أهدى نظيره السوداني معدات وآليات وصلت مؤخراً لميناء بورتسودان.
وذكر أن هذه المعدات تستخدم في بناء وتشييد الطرق والأعمال المدنية الأخرى وتعتبر إضافة حقيقية لسلاح المهندسين السوداني.
ولكن من اللافت أن رغم أن كلا البلدين متضرران من أزمة سد النهضة، ورغم أن الخرطوم كانت أقل حدة في السنوات الماضية في مواقفها من السد من مصر، إلا أنه خلال الأشهر الماضية، بات السودان يسبق القاهرة خطوات كبيرة في صلابة مواقفه في أزمة سد النهضة، وهو ما ظهر في أنه السودان هو الذي طلب من خلال رئيس وزرائه عبدالله حمدوك وساطة رباعية دولية بديلة لوساطة الاتحاد الإفريقي مع تأييد مصري شفهي لهذا المطلب.
وعلى عكس الاتهامات الإثيوبية للقاهرة بتحريض الخرطوم، فإن الواقع يشير إلى أن الدعم المصري للسودان في أزمته يجب أن يكون أكبر من ذلك وأكثر علانية (إذا كان جزء منه سرياً)، لأن العلاقات التاريخية أصلاً بين مصر والسودان تعني أن القاهرة يجب أن تدعم الخرطوم حتى لو لم تكن لها مصالح في الأزمة، فما بالنا وهي المتضرر الأشد من سد النهضة، ودعمها للخرطوم هو بمثابة دعم لنفسها.
كما يجب تذكر العلاقة التاريخية بين البلدين اللذين كان ملكهما واحداً حتى عام 1952، والجيش المصري حتى قيام ثورة يوليو/تموز 1952 كان يضم أعداداً هائلة من الضباط والجنود السودانيين، أو ضباطاً من أمهات سودانية أو لهم زوجات سودانيات.
كما لا يجب ألا يُنسى دور السودان في دعم مصر خلال حربي 1967 و1973 سواء عبر استضافة مؤتمر الخرطوم المعروف بعد هزيمة 5 يونيو/حزيران 1967 المعروف باسم مؤتمر اللاءات الثلاثة، واستضافة السودان للكلية الحربية المصري حتى تكون بعيدة عن غارات الطيران الإسرائيلي.
تلزم العلاقة التاريخية بين البلدين أي نظام حاكم في مصر بدعم السودان في أزماته الخارجية، والعكس.
ولكن في حالة التصعيد السوداني مع إثيوبيا، فإن الدعم المصري المتوقع نابع من مصالح القاهرة قبل أن يكون نابعاً من الأخوة العربية، لذا يجب أن يكون هذا الدعم كبيراً وواضحاً.
فوضوح هذا الدعم، وفاعليته من شأنه أن يجعل إثيوبيا تفكر قبل أن تتورط في مهاجمة السودان، وقد يمثل أداة الضغط الوحيدة في يد القاهرة والخرطوم في ملف سد النهضة.
ويظل الحديث الإثيوبي عن تحريض مصري للسودان، محاولة لإبعاد النظر عن سبب الأزمة الرئيسية وهي سياستها الاستعلائية في التعامل مع دول الجوار، من الصومال إلى إريتريا للسودان، وصولاً للقاهرة البعيدة، وبحث قادة إثيوبيا عن مشروع قومي وتحد خارجي يوحد شعوب البلاد بدلاً من تحقيق حكم يلبي تطلعات المكونات الإثيوبية التي عانت من مظالم تاريخية كبيرة.