سلطة رام الله..”فاقد الشيء لا يعطيه”
سليم الزريعي
يبدو أن السلطة الفلسطينية التي أنتجها اتفاق أوسلو ما تزال بعد ثلاثة عقود من تلك النكبة التي كانت ربحا صافيا للكيان الصهيوني على حساب برنامج الحد الأدنى المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي شكل ناظما للوحدة الوطنية الفلسطينية حينذاك، تعيش وهم أن يمنحها الكيان الصهيوني حلا سياسيا في ظل حكومة يمينية هي الأكثر فاشية في تاريخ الكيان، فيما سلطة أوسلو، لا تملك شرط الوحدة السياسية أو الجغرافية، أو الحاضنة الشعبية أو حتى وحدة حزب السلطة؛ أو السيطرة بالمعنى السيادي على أي مدينة في الضفة الغربية.
في جذر الانحراف
في حين أنه كان عليها أن تتعلم لو كان لديها حسا بالمسؤولية، من نتائج خطيئة القيادة السابقة في أوسلو الأم، التي تسببت في ارتفاع عدد الدول التي اعترفت بـ”إسرائيل” من 110 في 1993 إلى 166 اليوم؛ ليرتفع 88 في المئة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تعترف بالكيان ، مقابل 60 في المئة فقط قبل “أوسلو”. كما ارتفع عدد المستوطنين في أراضي الضفة الغربية من 115 ألفا قبل أوسلو إلى 485 ألفاً الآن؛ أي 4.2 ضعف . كما ارتفع نصيب جمهور المستوطنين في عموم سكان الكيان من 2 عام في المئة في ذلك الحين إلى 5 في المئة منهم.
والمفارقة أن سلوك سلطة رام الله المعزولة نسبيا عن الشعب يشير إلى أنه ليس لديها استعداد للتعلم من درس نكبة أوسلو، ربما لأن جذر الانحراف بدأ من هناك عندما استبدلت القيادة المتنفذة عام 1993 فكر وثقافة الثورة والتحرير بثقافة التعاون والتنسيق الأمني وما يسمى بالسلام، الذي سوّغ لها التسليم بحق الكيان الصهيوني في 78% من فلسطين والاعتراف بنتائج نكبة 1948، وإلغاء ميثاق منظمة التحرير. وضمن ذلك الفكر وثقافة المقايضات تصر سلطة رام الله على إعادة إنتاج أوسلو جديد في نسخة سعودية أكثر تشوها من أوسلو النرويج، مع أن هناك فرقا شاسعا بين ” الخلف والسف”، سواء على مستوى الحضور القيادي أو الحاضنة الشعبية، أو الإرث الكفاحي وشرف الرصاصة الأولى، وبين قيادة سلطة رام الله الحالية الضعيفة التي لا تملك أيا من مفردات القوة النسبية التي كانت لدي فريق منظمة التحرير آنذاك.
عوز قيادي وشعبي
وإذا كان ذلك كان حال القيادة المتنفذة حينها وتمخضت صفقتها عن نكبة أوسلو بكل النتائج الكارثية التي أنتجتها حتى الآن؛ فما الذي ينتج عن صفقة سلطة رام الله التي تفتقد إلى كل ما كانت تتمتع به القيادة التي عقدت صفقة أوسلو 1993؛ ذلك أن سلطة رام الله تعاني من حالة الضعف في كفاءات الأشخاص ارتباطا بتجربتها البائسة، أو على صعيد الحاضنة الشعبية أو الإرث الكفاحي، أو الحضور القيادي لمن جاءت بهم الصدفة ليكونوا في مركز القرار الفلسطيني في ظل الاحتلال أو لتناقضاتها الداخلية، وهذا يعني أنهم أعجز من أن يكونوا في مستوى تحقيق حتى مطالبهم المتهافتة من العدو والراعي الجديد السعودية، الذي لا يهمه سوى مصلحة السعودية.
فمحمد بن سلمان كما كتب ناحوم شيلو في صحيفة معاريف 28/9/2023 أقل التزاماً من والده الملك سلمان، ومن الملوك الذين سبقوه. ومن المحتمل ألّا يصرّ على المطالبة بحلّ الحد الأقصى للمشكلة الفلسطينية الذي يشمل قيام دولة فلسطينية ضمن حدود سنة 1967، عاصمتها القدس الشرقية، وحلّ مشكلة اللاجئين، وسيكتفي بثمن إسرائيلي أقل، من نوع الامتناع من فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، والحد بصورة كبيرة من البناء في المستوطنات.
وهو ما بدا واضحا في محادثات وفد السلطة مع الجانب السعودي الذي لوّح خلال اللقاء الأخير مع حسين الشيخ بالورقة الماليّة، بأن أبلغ وفد رام الله أن ما يُسمى “حل الدولتين” صعب المنال حاليًا، وأن هناك ما يمكن اعتبارها “رشوة صغيرة” ستعمل عليها السعودية وواشنطن تتعلق بـ”تحسين الأوضاع المعيشيّة”، إذا ما استغلت السلطة الفرصة بتحسين الموارد كما نقلت بوابة الهدف عن مصدر فلسطيني.
باسم من تفاوض؟!
والسؤال هنا إذا كانت الغالبية العظمى (72%) من الشعب الفلسطيني تعارض دخول السلطة فيما يمكن تسمينه (أوسلو2)، حسب استطلاع أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في الضفة الغربية وقطاع غزة وذلك في الفترة ما بين 6-9 أيلول (سبتمبر) 2023، وفي وقت تنظر غالبية الشعب بقواه السياسية والكفاحية الفاعلة، إلى من يتصدرون المشهد في رام الله بأنهم ليسوا مؤهلين وطنيا أو شعبيا للتحدث باسم فلسطين، في ظل انقسام سياسي حاد بين القوى الفلسطينية وغياب شرط ميزان القوى، الذي يسمح لها، القيام بأي دور يتعلق بمستقبل القضية الفلسطينية، أو يرتب التزامات سياسية أو قانونية على الشعب الفلسطيني، تتعلق بالمناطق المحتلة، مع الكيان الصهيوني، كما لا يمكنها الالتفاف على الشعب وقواه السياسية والكفاحية عبر الهيئات التمثيلية التابعة للسلطةـ، التي تدعي أنها تمثل الشعب الفلسطيني في حين أنها هيئات حزبها وبعض القوى الانتهازية التي تبحث عن مصالحها أو تلك القوى التي هي عبارة عن هياكل شكلية دون حواضن شعبية أو أدوات كفاحية، فباسم من تفاوض أو ستفاوض سلطة رام الله”؟!!.
في حل التناقض الداخلي
إن رهان السلطة وفريقها على السعودية والولايات المتحدة يعبر عن عسر في القراءة وتقدير للموقف في بعدة المرحلي والاستراتجي، من الممكن أن يجعل القوى الرافضة لسلوك السلطة المدمر، اللجوء إلى البحث في مشروعية استمرار السلطة في قيادة منظمة التحرير والتحدث باسمها، وربما تبرر لتلك القوى الوطنية العمل على استعادة منظمة التحرير ببرنامجها وميثاقها من خاطفيها، وهي من جانب آخر قد تكون وصفة لأولئك الذين طالما حاولوا استبدال المنظمة بهياكل تمثيلية تتبعهم أن يعملوا على ذلك خاصة وهم يشعرون بفرط القوة داخليا وربما خارجيا.
هنا يبدو مفيدا للفهم تفكيك طبيعة الفكر والخيارات السياسية للسلطة التي تمارس التنسيق الأمني وتعتقل المقاومين والنشطاء السياسيين، ومع ذلك تسعى لعقد صفقة أكثر تهافتا مع السعودية لتكون بمثابة أوسلو 2 ، في الوقت الذي تشهد فيه فلسطين المحتلة تنامي الكفاح المسلح حتى بات ظاهرة ضمن ميزان قوى جديد يتشكل في مواجهة الاحتلال في مسار مناقض حتى الصدام مع ما تعمل عليه السلطة بتشجيع سعودي أمريكي.
ونقدر أن سلوك سلطة رام الله المهووسة بالتفاوض والمعادية للكفاح المسلح هو فكر مشوه يستجدي الحل بأي ثمن، وهو لا يمثل الشعب الفلسطيني المكافح، وإنما يعبر عن رؤية أولئك الذين أفلسوا سياسيا وفكريا من حزب السلطة، ومن أصحاب المصالح ممن ارتبطت مصالحهم بأوسلو والاحتلال، وهذا ربما ينبئ بتدحرج المشهد الداخلي الفلسطيني نحو الأسوأ إذا ما استمرت سلطة رام في استجداء السعودية وأمريكا في استبدال الأولويات الوطنية في كنس الاحتلال بالبحث عن الفتات، وقبولها أن تكون قنطرة رسمية فلسطينية للـ”تصهين” السعودي ودول أخرى عربية وإسلامية.
اليوم ليس الأمس
ومع ذلك إذا كان التدليس والتضليل السياسي والإعلامي واستخدام المال في الترغيب والترهيب والاستقواء بالخارج قد نجح في تمرير صفقة أوسلو الأم حينها، فإن الزمن الآن غير ذلك الزمن، بفعل العامل الذاتي الداخلي الفلسطيني سواء على صعيد الشعب أو القوى والأحزاب التي تخوض كفاحا مسلحا في مواجهة الاحتلال، ونتائج أوسلو الأم الكارثية التي يحصد الشعب نتائجها المرة حاليا، فإن هذا من شأنه أن يضع علامة استفهام حول قدرة السلطة حتى بالشراكة مع الكيان الصهيوني في فرض رؤية سياسية مناقضة أو تنتقص من تمامية المشروع الوطني في حده الأدنى, وإن أصرت؛ فإن ذلك سيكون عبر محاولة فرض إرادتها بالعنف بالتنسيق مع الاحتلال والتحالف الصهيوني الجديد مما يضعها في مواجهة أغلبية الشعب الفلسطيني وقواه السياسية والكفاحية ، وهذا ما لا يمكن للشعب أو القوى السياسية والقوى المشتبكة المستقلة، والقوى الحزبية ذات الحضور الكفاحي المسلح الذين يقودون الاشتباك مع الاحتلال أن تقبل به تحت أي عنوان .. لأن الأمس ليس هو اليوم.