مشاركات وترجمات

صرخة

وفاء حميد .. قاصة فلسطينية. سورية

صرخاتها تؤجج حتى النفوس الميتة، بكاء مرير يوقد كل قلب، تنادي بحرقة والدموع تنهمر وكأنها انفجار سد أبى أن يهدأ، هل من مجيب ؟ تحيط أخاها الرضيع بذراعيها تحاول بحجمها الصغير أن تهبه كل الحماية، فلا يكاد يُرى وجهها من سيلان الدم الذي صبغ ملامحها الملائكية .
مسحت بعينيها الباكيتين المكان المدمر من حولها علها تلقى يد مساعدة، جثت على ركبتيها مستسلمة لمصيرها، ترمقه بنظرات الألم وقطرات من دمها تنهال لتصبغ وجهه محاولة تنظيف وجنتيه بيدها الصغيرة التي غطست برماد البارود والتراب فزاد من ملامح أخيها المجمدة، لتحتضنهما الأرض ويهدأ روعها ….
يد من الفرو تداعب خدها الناعم، تستيقظ سارة على عينين كأنهما بستان فُرشَ ببساط أخضر وفرو صبغه لون الشمس، تنظر إليها بعينيها البلوريتين مع انعكاس البستان الأخضر وأذنها كرادار يترصد أي حركة عن بعد وكأنها تقول لها : ألم يحن موعد نهوضك؟
وتغادرها بقفزة رشيقة إلى حافة النافذة، عندما فتحت أم سارة باب الغرفة وبين ذراعيها طفلها الرضيع: هيا يا حبيبتي، سيكون اليوم حافلاً، إنه يومك، انهضي وجهزي نفسك لنذهب ونحضر ما يلزم للاحتفال بيوم ميلادك.
تقفز سارة من سريرها متجهة نحو أمها وتقترب من أخيها الرضيع وتطبع قبلة على خده، يبتسم لها بعينيه البراقتين ويحرك قبضتي يديه الصغيرتين مع نغمات السعادة، تبتسم أمها وبحنو تطبع قبلة على جبينها وتهمس لها: يا صغيرتي سوف ترعينه وتعلمينه، لقد أصبحت كبيرة. اليوم ستكملين عامك التاسع، تغلق الأم الباب فتقفز صديقتها وتحوم حولها وتلصق جسدها بإحدى قدميها وتقول لها : لا تنسي هديتي أيضاً، تهبط سارة درجات السلم والفرحة لا تسعها، تتنقل عيناها يمينة ويسرة كأنها تبحث عن شيء مفقود تحاول إيجاده داخل كومة قش، وأخيراً وجدت ضالتها، تترك مقبض عربة أخيها، تلصق يديها وتسند جبهتها الصغيرة على زجاج محل للألعاب من خلفه دمية “باربي” مستعرضة خزانة ملابسها وفساتينها ذات الألوان الزاهية، وتسريحة الشعر، وصندوقها الزهري المليء بأنواع جميلة من المكياج والعطور ، يتسلل إليها صوت أمها، هل أعجبتك ياحبيبتي ؟
قبل أن تفتح سارة فمها وتومئ بالإيجاب كانت أمها قد دخلت المحل وغلفت الهدية بورق ملون لامع يحيطها شريط زهري عريض على شكل وردة … تفرح سارة بهديتها وهي تحملها، ولم تنسَ أن تشتري علبة سردين هدية لصديقتها، يأتي المساء ويجتمع الأقارب والأصدقاء بحفل ميلاد سارة هي بين والديها تغمر قلبها الصغير السعادة وتزداد سعادة حين ترى صديقتها مشغولة بالتهام هديتها الجديدة، يغادر الجميع الحفل والفرح يملأ الوجوه، تشعر سارة بتعب فيحملها أبوها إلى غرفتها لتنام مع أحلامها الوردية محاطة بهداياها…
مع إشراقة صباح صاخب ممزوج برعب العصافير التي تعلن عن خطر قادم، تفزع سارة وتنظر خلال النافذة لترى الدخان وأزيز رصاص يتطاير هنا وهناك تنظر للأسفل نحو الحديقة تلمح شيئاً أحمر مكوماً بين الزهور، يا إلهي! إنها صديقتها راقدة على جنبها وفروها يسبح في بحر من الدماء يبدو أنها فشلت بالهروب من غدر الرصاص، تهرع خارج غرفتها والدموع تسيل على خديها تنادي والديها لتتفاجأ بوجود أمها ملقاة على الأرض وبين ذراعيها أخوها، وكأنه يستجدي، تنادي أمها تحاول أن تهزها لتستفيق لكن عبثاً، تحتضن أخاها وتنادي أباها والمنزل ينهار تحاول اللجوء إلى ركن يحميها وأخيها، لكن البيت أبى أن يصمد، ركضت إلى الخارج تنادي المساعدة، تنادي أباها، تركض بين الزهور الميتة والأشجار المتساقطة لتتعثر بشيء، تنظر تحت قدميها وبقوة تضم أخاها الذي لم يعد يُسمع منه لا نغماته ولا بكائه، إنها يد رجل، تهبط على ركبتيها وتبعد أغصان الشجر وأوراقه المترامية ليظهر وجه أبيها تصرخ بأعلى صوتها استيقظ يا أبي لا تتركني أنت أيضاً لا تتركني، ويرتفع هدير الرصاص والمدافع، وتركض سارة وبين ذراعيها أخوها الرضيع و(باربي) المضرجة بالدماء…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى