لماذا تبدو سياسة بايدن الخارجية مترددة ودون بوصلة تحكمها؟ فورين بوليسي تقدم الإجابة
مجلة Foreign Policy الأمريكية نشرت تحليلاً بعنوان “هل بدأت سياسة بايدن الخارجية تفشل؟”، أعده ستيفين ولت، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد والكاتب السياسي في المجلة، رصد ما حققه وما لم يحققه بايدن حتى الآن في السياسة الخارجية، وأسباب ما يبدو أنه بداية الفشل.
إذ افترض الكثيرون أنّ إدارة بايدن سوف تُدير العلاقات الأمريكية مع الدول الأخرى بأسلوبٍ منضبط ومتوقع ومتطور، على عكس أسلوب سلفه ترامب الذي اتسم بالعشوائية والتقلب إلى حد كبير.
لكن الأمور حتى الآن، منذ تولي بايدن المسؤولية في يناير/كانون الثاني الماضي، لم تسِر على هذا المنوال تماماً، رغم أن بايدن وشركاه يحق لهم التفاخر ببعض النجاحات الأولية، مثل العودة إلى اتفاق باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية واستئناف المحادثات النووية مع إيران وغيرها، وهي ليست بالنجاحات الهيّنة.
السياسة الخارجية تحتاج لبوصلة وصبر
نادراً ما تتحقق نجاحات دبلوماسية بين ليلةٍ وضحاها، إذ إن إنجاز تقدم حقيقي ودائم في القضايا المهمة والعلاقات بين الدول يتطلّب عادةً بذل جهودٍ صبورة ومستدامة على مدار عدة أشهر، إن لم يكُن سنوات. فالتوصّل إلى اتفاقيات مفيدة مع الحلفاء والخصوم يتطلّب دائماً درجةً من الأخذ والعطاء، كما أنّ دولةً نافذة مثل الولايات المتحدة نادراً ما تحصل على كل ما تريده.
خلاصة القول هنا هي أنه لا يجب على أي شخص أن يتوقع حدوث معجزات في السياسة الخارجية خلال السنة الأولى من فترة الرئيس بايدن، أو أي رئيس آخر بشكل عام.
ومع ذلك، فإنّ هناك بعض الجوانب بعينها تُثير القلق في أداء بايدن، وتدفع العديد من المراقبين إلى المقارنة غير اللطيفة بينه وبين سلفه ترامب، بل وصلت الأمور إلى حد تشبيه بايدن بترامب، في أعقاب الانسحاب من أفغانستان، وتناولت صحيفة The Guardian البريطانية هذا النهج في تقرير لها بعنوان “هل يتبع بايدن خطى ترامب بشأن أفغانستان واللقاحات؟”، تناول كيفية اتباع بايدن لشعار “أمريكا أولاً”، الذي كان قد هاجم سلفه ترامب بسببه.
وكان الخطاب السياسي الذي ألقاه بايدن بمناسبة مرور 100 يوم على توليه منصبه شهد تركيز الرئيس بنسبة تخطت 80% على الشؤون الداخلية للولايات المتحدة، بينما تقلصت مساحة قضايا السياسة الخارجية بشكل واضح، وتركزت على المنافسة- أو بمعنى أدق الصراع- مع الصين، إضافة إلى حديث عام عن قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية حول العالم.
وعلى الرغم من نجاح إدارة بايدن في الجلوس مع الإيرانيين في فيينا، فإن المحادثات مع إيران لم تحرز أي تقدم، بسبب مزيجٍ من الشك المتبادل والعناد الإيراني وتردد الإدارة نفسها.
لذا فقد بات من المنطقي الآن التنبُّؤ بعدم التوصل إلى اتفاقٍ جديد قريباً. ويبدو بالطبع أنّ بايدن يدفع بنسخته الخاصة من “استراتيجية الضغط القصوى”، وهي الاستراتيجية التي تمت تجربتها مراراً وتكراراً دون نجاح، بحسب تحليل فورين بوليسي.
الانسحاب من أفغانستان و”أوكوس”
وكان تعامل الإدارة في ملف الانسحاب من أفغانستان مثاراً لانتقادات عنيفة من أغلب المراقبين، إذ كان المتوقع من فريقٍ بهذا القدر من التطور والمهارة أن يقوم بمهمةٍ أفضل في تفكيك مخاوف الحلفاء أثناء الانسحاب بطريقةٍ أكثر منطقية وتوقعاً.
وعلى نفس المنوال، فإن اتفاقية أوكوس تُمثّل خطوة مهمة نحو الحفاظ على توازن القوى المناسب في منطقة الهندي والهادي، ولكن هل كان من الضروري حقاً أن توجه واشنطن تلك الضربة العمياء لفرنسا؟ بحسب تحليل فورين بوليسي.
علاوةً على أنّ فريق بايدن كان بطيئاً في ملء الوظائف الدبلوماسية الأساسية، رغم أنّ إدارته قالت إنّها تريد وضع الدبلوماسية في محور أولوياتها. ويرجع سبب بعض تلك التأخيرات إلى التمسّك غير الوطني بالمواقف من جانب بعض الساسة المهتمين بمصالحهم فقط، لكن المشكلة تتعلّق ببطء بايدن في ترشيح الأشخاص لمناصب السياسة الخارجية المهمة أكثر من أنانية بعض الساسة الجمهوريين.
ولا شكّ أنّ سجل بايدن غير المثالي هو أبعد ما يكون عن الدبلوماسية التدميرية النشطة لدونالد ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو، فعلى النقيض في حالة بايدن سنجد أننا أمام سياسات منطقية، لكن متابعتها تجري بلا مبالاة عن طريق فريقٍ كان يُفترض أن يُقدّم أداءً أفضل بكثير في إدارة العلاقات مع الأصدقاء والخصوم على حد سواء.
ومع ذلك فإنّ النتائج هي الأهم، ولا يجب أنّ يتردد أشد أنصار إدارة بايدن في تحميله المسؤولية عند التقصير. ففي الوقت ذاته، تكشف الفجوة بين تطلعات الإدارة وبين أدائها عن الكثير فيما يتعلّق بصعوبة تنفيذ استراتيجية سياسة خارجية ناجحة، وخاصةً بالنظر إلى الطموحات المتفائلة التي تجد الإدارة الأمريكية مقاومتها أمراً شبه مستحيل.
انتهى زمن القطب الأوحد
انتهى عصر أحادية القطب ويعيش العالم الآن في عالمٍ غير متوازن متعدد الأقطاب، ويُدرك منظرو العلاقات الدولية منذ وقتٍ بعيد أنّ العلاقات بين القوى الكبرى في حالة تعدد الأقطاب تكون أكثر تعقيداً وعرضية في صميمها، وأصعب في إدارتها، مقارنةً بالعلاقات في عالم ثنائي أو أحادي القطب.
ففي وجود العديد من القوى العظمى، تقل أرجحية توافق مصالح الأطراف البارزة معاً بشكلٍ متسق ومتوقع. وخير مثالٍ على ذلك هو موقف ألمانيا شبه الغامض اليوم، فمن ناحية سنجد برلين ملتزمةً تجاه حلف الناتو التزاماً صارماً، كما يُولي زعماء ألمانيا قيمةً كبيرة للعلاقات المتينة مع الولايات المتحدة.
ولكن من ناحيةٍ أخرى، ترفض برلين الاصطفاف بشكلٍ كلي وراء موقف الولايات المتحدة من روسيا والصين، بسبب بنائها خط أنابيب نورد ستريم 2 مع روسيا، ورغبتها في الحفاظ على أسواق التصدير مع الصين لحماية مصالحها القومية.
ويبرز تحد آخر من المشكلات العالمية التي تتجاوز التنافس التقليدي بين القوى العظمى، والتي لا يمكن حلها بدون تعاونٍ مكثف على طول خطوط الصدع الجيوسياسية القائمة، وأكبر مثالٍ على هذه المشكلات هو تغير المناخ، فضلاً عن الجائحة، والإرهاب الدولي، وإدارة الاقتصاد الكلي العالمي.
ففي الماضي كانت المخاوف المشتركة من هذا النوع تُخفّف أحياناً حدة النزاع بين القوى العظمى، لكن المشكلات العالمية ذات التداعيات صارت أكثر اليوم. ومع الأسف فإنّ محاولة مواجهة منافس نظير تكون مباشرةً وأكثر سهولة حين لا تكون مضطراً للتعاون معه من أجل حل القضايا المعقدة والمتفجرة سياسياً، مثل انبعاثات الكربون.
هل يعيش بايدن في الماضي؟
ومن ثم تأتي مشكلة الغطرسة المزمنة، إذ إنّ إدارة بايدن ربما تسعى لإنجاز أجندة سياسة خارجية أكثر واقعية من بيل كلينتون وجورج بوش الابن، وحتى باراك أوباما، لكنها لا تلعب بأسلوبٍ هجومي، حيث أنهى حملة أمريكا غير المثمرة في أفغانستان، لكنه لا يريد إصلاح الشرق الأوسط.
بل يرغب بدلاً من ذلك في بذل جهدٍ كبير داخل الهندي الهادي، وتنشيط حلف الناتو، وحل مشكلة تغير المناخ، كما يحاول حتى توحيد ديمقراطيات العالم ضد الاستبداد. ألم يقل وزير الخارجية أنتوني بلينكن أيضاً إنّ الإدارة ستضع حقوق الإنسان في محور سياستها الخارجية؟ كل هذه الأمور معاً تظهر أجندة سياسة خارجية من أروع ما يكون، لكنها أجندةٌ من الصعب تحقيق كل أهدافها حتى لو توحدت كافة أركان الحكومة وراء جميع تلك الأهداف.
وهو ما يصل بنا إلى مشكلةٍ أخرى أكثر ارتباطاً، فبالنظر إلى التزامات أمريكا العديدة وطموحاتها التي لا تزال كبيرة، فمن المستحيل ببساطة وضع استراتيجية سياسة خارجية خالية من التناقضات الداخلية، فكلما زادت الأهداف التي تريد واشنطن تحقيقها زادت احتمالية أن يؤدي النجاح في أحد المجالات إلى إخفاقٍ في مجالٍ آخر.
وهذا ليس كل شيء! فالمنظومة السياسية الأمريكية لا تزال ساحةً مفتوحة لكافة أشكال التأثيرات الخارجية المشينة، سواء من جماعات الضغط المحلية والأجنبية أو أصحاب المصالح أو حتى بوتات الإنترنت على الشبكات الاجتماعية، وجميعها تعمل على تغيير السياسة الخارجية الأمريكية في الاتجاه الذي يتوافق مع مصالحها.
أضف إلى ذلك السياسة الأمريكية الغريبة المتمثلة في منح أكثر من 30% من كافة مناصب السفراء للمانحين الأثرياء في الحملات الانتخابية، بدلاً من الدبلوماسيين المحترفين المدربين، وحينها لن تتعجب حين تجد نفسك أمام أداء سياسةٍ خارجية أقل من المثالي.
كما أنّ الولايات المتحدة فريدةٌ من نوعها في معدل دوران الموظفين كلما تغير الحزب المسؤول عن البيت الأبيض، ما يُؤدي عملياً إلى ترك المناصب الأساسية شاغرة طيلة شهور، ويُجبر كل إدارةٍ جديدة على تدريب الكثير من الموظفين أثناء العمل.
وتزيد الأمور سوءاً لأنّ العديد من المعيّنين رئاسياً لا يقضون السنوات الأربع بالكامل في المنصب، لذا تستمر هذه المشكلة طوال الفترة الرئاسية. وهو وضعٌ يُشبه إقالة شركة أبل أو أمازون لكامل فريق إدارتها كل أربع سنوات أو أقل، مع وجود الكثير من المناصب الإدارية المهمة الشاغرة في كل الأوقات. وربما لن تمثل هذه المشكلات عائقاً كبيراً لو كانت الولايات المتحدة دولةً لها أهداف سياسية خارجية متواضعة، لكنها تُمثل عبئاً خانقاً لبلدٍ يتطلّع إلى ما هو أكثر من ذلك بكثير.
ولا تُعفي أيٌّ من هذه الاعتبارات بايدن وفريقه من الخطأ، ولكن الأفضل بشكلٍ عام أن تكون هناك إدارةٌ تحاول فعل الشيء الصحيح، بدلاً من التقدم بشكلٍ نشط على العديد من الأصعدة الخاطئة في نفس الوقت.
وربما سيُفيدهم وضع أولويات أكثر وضوحاً وعدم بذل جهود أكبر من اللازم؛ وذلك لتوفير الإمكانات -مثل الوقت- من أجل التعامل مع المفاجآت التي لا مفر من أن تواجهها أي إدارة، ففي السياسة الخارجية، مثل غيرها من الأنشطة، نجد أن محاولة فعل القليل تساعد على الإنجاز بشكلٍ أكبر.