ما قصة الفساد في الجيش الأوكراني وهل انتهى بعد الهجوم الروسي وتدفق “الأموال” الغربية؟
الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي يصفه الرئيس فلاديمير بوتين بأنه عملية عسكرية خاصة بينما يصفه الغرب بأنه غزو غير مبرر، بدأ يوم 24 فبراير/شباط الماضي، حيث هاجمت القوات الروسية أوكرانيا من جميع الجهات، وفرضت حصاراً على جميع المدن الأوكرانية، بما فيها العاصمة كييف.
وقبل أسبوعين قالت وزارة الدفاع الروسية إن موسكو ستنتقل إلى “المرحلة النهائية” من العملية العسكرية بعد “إنجاز جميع المهام الرئيسية” في شمال أوكرانيا، وأضافت أن القوات تنسحب من كييف لـ”تحرير“ إقليم دونباس في الشرق، لكن كاد الشهر الثالث من الحرب ينتصف دون أن تبدو لها نهاية وشيكة.
الفساد في أوكرانيا
كانت أوكرانيا واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق وصوّتت لصالح الاستقلال عام 1991 وكان من المفترض أن تلتزم الحياد، بحسب دستورها في ذلك الوقت، لكن منذ عام 2004 بدأت حالة الانقسام داخل أوكرانيا تزداد عمقاً بين معسكرين؛ الأول يريد الانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو والآخر يريد أن يصبح أقرب إلى روسيا.
وكانت قضية الفساد المستشري في أوكرانيا أحد أبرز العقبات في طريق سعي كييف الانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ووصف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أوكرانيا بأنها واحدة من أكثر الدول “فساداً على الإطلاق”، وكان ذلك عام 2020 خلال محاولة الكونغرس عزل ترامب في المرة الأولى فيما عرف وقتها باسم “فضيحة أوكرانيا”.
كان ترامب يريد من نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن يفتح تحقيقاً في معاملات تجارية سابقة لنجل جو بايدن (الرئيس الحالي ومنافس ترامب وقتها)، هانتر بايدن، والتي زعم ترامب بأنها معاملات شابها “الفساد”. خسر ترامب الانتخابات وفاز بايدن واشتعلت أزمة أوكرانيا حتى انفجرت بالفعل وتحولت إلى حرب لا تزال مستمرة وتهدد العالم بمواجهة نووية بين روسيا والناتو، فهل اختفى الفساد من أوكرانيا؟
الإجابة جاءت في تقرير لصحيفة The Times البريطانية عنوانه “الفساد يترك قوات الاحتياط الأوكرانية بلا أسلحة أو إمدادات”، رصد رحلة الفساد في صفوف الجيش الأوكراني والتي يبدو أن الهجوم الروسي قد أصابها بالتباطؤ لفترة قصيرة للغاية قبل أن تعاود سرعتها المعتادة.
كان ملازم احتياط في أحد ميادين القتال على حدود أوكرانيا الشمالية الشرقية مع روسيا يتكئ على مجرفته ويلعن المطر فيما كان يشاهد الخنادق التي حفرتها وحدته حديثاً تمتلئ بالمياه، بحسب التايمز.
كانت القوات الروسية قد غادرت المكان الموجود في منطقة سومي في الشمال الشرقي لأوكرانيا وعادت القوات النظامية الأوكرانية للسيطرة عليه، بعد أن قررت روسيا سحب قواتها من شمال وغرب أوكرانيا وتركيز هجومها على الأقاليم الشرقية والجنوبية، وكانت كتيبة ملازم الاحتياط الأوكرانية مُكلَّفة بالحفاظ على هذا الخط في حال عادت القوات الروسية مرة أخرى.
وتُعَد مفرزة الملازم جزءاً من قوة الاحتياط الأوكرانية المتطوعة البالغ قوامها 900 ألف متطوع. لكنَّ الملازم صرَّح لصحيفة The Times البريطانية بأنَّ بعض الرجال على وشك مغادرة الجيش لأنَّهم يشعرون بالاشمئزاز من الفساد الذي واجهوه. ولم يحدد تقرير الصحيفة البريطانية إذا ما كان الـ900 ألف متطوع يشملون المرتزقة الأجانب الذين وصلوا استجابة لدعوة زيلينسكي في الأيام الأولى للحرب أم لا.
فخلال الأسبوع الأول من الهجوم الروسي، أعلن فولوديمير زيلينسكي عن فتح بلاده البابَ أمام “من يريد القتال للدفاع عن أوكرانيا”، مضيفاً أنه سيتم تشكيل “الفيلق الدولي”، وعلى الفور بدأ تدفق مئات “المتطوعين” من أوروبا والولايات المتحدة ومناطق أخرى حول العالم.
ومع بداية الهجوم الروسي، انهالت المساعدات الغربية والأموال الضخمة على كييف لمساعدتها في التصدي لما يراه الغرب غزوا واعتداء على “الغرب الديمقراطي”، لكن معدات وتدريب حلف شمال الأطلسي (الناتو) تركزت على تعزيز وحدات الجنود ذوي العقود، التي تتولى معظم القتال، لكن كثيراً ما يجري تجاهل وحدات الاحتياط ودورها المساند بعيداً عن الأضواء، وهو ما يجعل منها أهدافاً رئيسية للاحتيال، بحسب تقرير التايمز، ويتم فقدان الأموال المخصصة للمشتريات التي قد تمثل الحد الفاصل بين الحياة والموت بصفة روتينية.
الجيش الأوكراني و”ضياع الأموال”
الملازم الأوكراني، الذي لم تذكر التايمز اسمه، قال للصحيفة البريطانية: “هناك سرقة حتى على مستوى الكتيبة، فعلى سبيل المثال، من المفترض أنَّه تم شراء ألواح خشبية ومعادن لتدعيم الخنادق بقيمة نحو 20 ألف دولار. لكنَّ أياً من قادتنا لا يمكنه تفسير أين ذهب هذا المال فعلاً”.
وأضاف أنَّ رجاله لم يتلقوا أي تدريب تقريباً وتُرِكوا ليتدبرو أمرهم بأنفسهم بمعدات قديمة. يتولى الملازم قيادة مفرزة مدافع رشاشة، لكنَّه مُنِحَ مدافع رشاشة من طراز Maxim جرى تطويرها في نهاية القرن التاسع عشر. ويرجع تاريخ أحدث سلاح بحوزة الملازم ورجاله إلى عام 1942، أي أثناء الحرب العالمية الثانية.
“أسلحتنا هي عبارة عن مدافع رشاشة سوفيتية قديمة لا تطلق النيران. لم يكن هناك مدربون، ولا تدريب عادي على إطلاق النيران. … علينا أن نعيش في ميدان قتال أو في غابة. ولا توجد حقائب نوم ولا ملابس تدفئة. وقد مَرِضَ نصف الرجال نتيجة لذلك”.
بذلت كييف جهوداً متضافرة للتضييق على الكسب غير المشروع في الجيش منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وغزوها الهجين لإقليم دونباس عام 2014، فتبنَّت قانوناً للأمن القومي، ووفرت ميزانية يشرف عليها وزير مدني. وجعل قانون آخر مشتريات الدفاع أكثر شفافية.
ووفقاً لـNako، وهي جهة رقابة لمكافحة الفساد في القطاع الدفاعي، ذهب الرئيس زيلنسكي خطوة أبعد من سلفه، الرئيس بوروشينكو، من خلال استهداف شخصيات بارزة كان يتم التساهل معها سابقاً.
قالت أولينا تريغوب، مديرة Nako: “لدى المكتب الوطني لمكافحة الفساد في أوكرانيا مجموعة خاصة من المحققين مكرسة للفساد في مجال الدفاع”.
ما تأثير الحرب على “السرقة” في الجيش الأوكراني؟
مع ذلك، استمرت المشكلة في المستويات الأدنى. إذ قالت تريغوب إنَّ تقريراً نشرته Nako قبل الحرب قدَّر أنَّ نحو 30% من ميزانية الدفاع تُفقَد بسبب “أوجه القصور”، بما في ذلك الفساد.
وتعتقد تريغوب أنَّ الوطنية ساعدت في إبطاء السرقات في الأسابيع القليلة الأولى من الحرب، لكن من المرجح أن يصبح الفساد مشكلة أكبر مع استمرار الحرب، بما يضر بالاقتصاد ويحرم الناس من دخلهم المعتاد.
وحذرت تريغوب من أنَّ السرقة التي يحركها اليأس ستُقابَل في الغالب بغضب من جانب أولئك الذين يضعون حياتهم على المحك. وأضافت: “يضع الفساد أرواح الجنود في خطر، إنَّها خيانة. سمعتُ قصة حاول فيها أحد الملازمين سرقة صندوق أجهزة لاسلكية، وكان هناك رد فعل كبير من زملائه لدرجة أنَّه بالكاد نجح في الفرار”.
بل إنَّه جرى التعرف على أنَّ بعض المعدات المسروقة مُعدَّة للبيع لروسيا، وذلك بحسب جهاز أمن الدولة الأوكراني. فقال الجهاز الشهر الماضي، أبريل/نيسان، إنَّه داهم مخزناً يضم قطع عربات مدرعة و60 محرك دبابة و26 صاروخاً جو-جو بقيمة 200 مليون دولار في منطقة خاركيف. وكانت المعدات قد سُرِقَت من مخازن الجيش على مدار عدة سنوات تحت أعين كبار المسؤولين في المنطقة.
وقال جهاز أمن الدولة: “كانت المعدات المتوفرة هناك مخصصة للمعدات الروسية المتضررة، والتي كان العدو سيصلحها خلال الهجوم”.
وفيما يُنتَظَر أن تتحول الحرب إلى معركة استنزاف طاحنة شرقي إقليم دونباس، سيتعين على كييف التضييق على الفساد في أي مكان يطل فيه برأسه كي تُبقي على مقاتليها متحفزين على المدى الطويل، كما تقول التايمز.
وبالنسبة للملازم ورجاله في ميادين القتال الموحلة في مقاطعة سومي، لابد من اتخاذ إجراء عاجل وليس آجلاً. فقال الملازم: “هذه المجموعة الكاملة من المشكلات تؤثر بصورة كبيرة على حافز مقاتليّ. جاءوا إلى هنا جاهزين للقتال، لكنَّهم الآن يفكرون بالفعل في كيفية العودة إلى منازلهم أو أن ينضموا إلى القوات الرديفة”. ويقول إنَّ البعض يرى المعركة من أجل أوكرانيا فرصة للكسب. ويضيف: “بالنسبة للبعض، هي (أوكرانيا) حرب. وبالنسبة لآخرين، هي كالأم”.