مزيد من الانقسامات وخروج عن “الوصاية الأمريكية”.. ما الذي ينتظر الاتحاد الأوروبي بعد انفصال بريطانيا عنه؟
خسائر متبادلة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
فمن جانبٍ، يخسر الاتحاد الأوروبي إحدى أكبر الدول الأعضاء فيه، باقتصادها المهم وجيشها القوي وتقاليدها الليبرالية، وإن شهدت تعثراً في وقت تنحرف فيه دول أخرى في الاتحاد، مثل المجر وبولندا، إلى مزيد من القومية والتمركز حول الذات.
ومن الجانب الآخر، تخسر بريطانيا ثقلاً دبلوماسياً في عالم يضطرم فيه التنافس المتجدد بين القوى العظمى، إضافة إلى احتمالات النمو الاقتصادي الذي كان متوقعاً في المستقبل، والوضوح فيما يتعلق بنفاذ قطاع الخدمات المالية الضخم لديها إلى أوروبا وسوقها، علاوة على فرص لا حصر لها للدارسة والحلم والعيش والعمل في جميع أنحاء القارة، كما تقول صحيفة The New York Times الأمريكية.
وخفتت الصرخة الوطنية الرامية إلى “استعادة السيطرة” بعد أن أطلقت التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، في فورة اتّقادٍ لمشاعر العداء للمهاجرين والمظالم العشوائية، وفي غمار أربع سنوات ونصف السنة من المفاوضات المؤلمة التي حاولت فيها “سمكة صغيرة قضم أجزاء من حوت عملاق”، تمخّضت الأمور ليطلَّ الواقع بحقائقه، الاقتصاد البريطاني يمثل أقل من خُمس حجم اقتصاد الكتلة الأوروبية. والآن يغادر ترامب منصبه، ويذهب معه أي أمل في اتفاقية تجارية بريطانية أمريكية فورية تعوّض سريعاً ولو جزءاً من الخسائر.
هذا ما دفع ميشيل بارنييه، كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي، إلى القول لصحيفة Le Figaro الفرنسية: “إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو عمل من أعمال الإضعاف المتبادل”.
“الجانب الإيجابي” المحتمل لأوروبا من البريكست
لكن الضعف متفاوت، إذ بريطانيا أقرب الآن إلى الانقسام، وقد زادت احتمالية أن تختار اسكتلندا وأيرلندا الشمالية مغادرة المملكة المتحدة، وبوسائل مختلفة، إعادة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. على النقيض من ذلك، أصقلت الكتلة تماسكها من بعض النواحي بسبب صدمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فقد أسهمت الأزمة في تغلب الاتحاد على عقبات طويلة الأمد، وزادت من طموحاته وأعادت إشعال “المحرك الفرنسي الألماني” للاتحاد ليصبح تحالفهما أوثق.
وتعليقاً على ذلك، قال الأمين العام لشؤون الخارجية الفرنسية: “خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليس خبراً جيداً لأي شخص، لكنه أسهم بلا شك في إعادة توحيد أوروبا، وهو ما أظهرته وحدتها طوال المفاوضات”، حسب تعبيره.
تقول الصحيفة الأمريكية، إن الاتحاد الأوروبي -بدافعٍ من خروج بريطانيا من الاتحاد، ومحاربة جائحة كورونا، ومواجهة عداء ترامب- فعل أشياء لم يكن من الممكن تصورها في السابق.
وهكذا شهدنا تخلي ألمانيا عن سياسة التقشف العنيدة، وأصبحت فيدرالية الديون الأوروبية، التي كانت من المحرمات طويلة الأمد لدى الألمان، ممكنة. وبات من الممكن للاتحاد الأوروبي الآن الاقتراض كما تفعل الحكومات، وهي خطوة عناية بالمكانة السيادية للدول ووسيلة لتمويل صندوق التعافي من الأوبئة البالغ 918 مليار دولار، والذي كان من المحتمل أن يعرقله الوجود البريطاني في الاتحاد.
تغييرات جذرية قادمة في بنية وأهداف الاتحاد الأوروبي بعد البريكست
وشملت عملية المراجعة تلك إعادةَ التفكير في دور أوروبا في العموم. وفي هذا الخصوص يتحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الآن كثيراً عن الحاجة إلى ما يصفه باستعادة “الاستقلالية الاستراتيجية”، وفي قلب هذه الفكرة تكمن قناعة بأن أوروبا، التي تواجه روسيا والصين وتتعامل مع أمريكا لا يمكن الوثوق بالاعتماد عليها، بات يتحتم عليها تطوير ذراعٍ عسكرية لها لدعم سياساتها وأهدافها المستقلة، وأن الاقتصار على القوة الناعمة الأوروبية “قد بلغ أقصاه”.
ومع ذلك، فإن “الاستقلالية العسكرية” تظل أمراً بعيد المنال، وربما حلماً عصياً على البلوغ، إذ إن ارتباط دول وسط وشرق أوروبا بحلف الناتو، ومن خلاله بالولايات المتحدة بوصفها أحد أركان القوة الأوروبية، ارتباطٌ شديد القوة. وألمانيا تدرك الحاجة إلى موازنة ثقل التحالف عبر الأطلنطي، لكنها لا تسائل جدواه وأهميته، ولا فرنسا تفعل ذلك أيضاً، في نهاية الأمر.
على الرغم من ذلك، فإن الاتحاد الأوروبي وافق في عام 2020، من خلال صندوق الدفاع الأوروبي الخاص به على استثمار مشترك لأكثر من 10 مليارات دولار في معدات عسكرية متقدمة وتكنولوجيا عسكرية وتقنيات مناورات ودعم قدرات أكبر على الانتشار وتحريك القوات العسكرية. وهذا الاستثمار، وإن لم يكن كبيراً بالقدر اللازم وأقل من المخطط له، فإنه يكفي مع ذلك للإشارة إلى اجتماع أوروبا على “رؤية ذهنية واحدة”. فعندما تخطط فرنسا وألمانيا لطائرات مسيّرة أوروبية، يجب أن ندرك أن شيئاً مهماً ما قد تغيّر، كما يقول روجر كوهين المحرر الأجنبي في صحيفة نيويورك تايمز.
الخروج الأوروبي عن الوصاية الأمريكية
على الجانب الآخر، من شبه المؤكد أن هذا التغيير سيؤدي إلى توترات بين الاتحاد الأوروبي والإدارة الأمريكية القادمة بقيادة جو بايدن. ويرجع ذلك إلى أن بايدن، الذي كان عضواً منتظماً في مؤتمر ميونيخ للأمن طيلة عقود، يبقى بتشكيله وخبرته، رجلاً ذا رؤية تقليدية للتحالف الأمريكي الأوروبي: الولايات المتحدة تقود، والحلفاء وراءها في الصف، لكن العالم قد تغيّر، ولا يمكن التخلص من تأثير سنوات ترامب، ولا تجنب تداعيات الصورة التي لا تنفك تلحق بأمريكا بوصفها الحاضر دون مشاركة حقيقية، وهو التصور الذي كانت ذروته الأبرز خلال الأزمة العالمية التي سببها الوباء.
وفي حين أن معظم الحكومات الأوروبية سعيدة برحيل ترامب واعتقاد أكثرها بأن اللياقة الأمريكية ستعود مع بايدن، فإنهم لا ينظرون بالضرورة إلى ارتياحهم هذا على أنه شهر عسل طويل بين أوروبا والولايات المتحدة.
وفي هذا السياق، عندما يتعلق الأمر بالمواقف السياسية من الصين وإيران والصراع الإسرائيلي الفلسطيني وقضايا المناخ، فإن الرؤية الأوروبية لا تملك إلا التأثر بتجربة الرئيس الأمريكي السابق الذي ازدرى الناتو ودلل روسيا وانحاز إليها، ومن ثم الأرجح أن تكون أوروبا أشد حزماً حيال هذه القضايا. وقد تعاونت فرنسا وألمانيا بالفعل في إنتاج ملف ضخم يتناول رؤيتهما للقضايا الدولية الرئيسية وجرى تسليمه إلى مسؤولين في إدارة بايدن المستقبلية.
الانقسامات لن تختفي من الاتحاد الأوروبي
بطبيعة الحال، لم يختفِ الاتحاد الأوروبي المريض الذي أدت سياساته جزئياً إلى خروج بريطانيا وتصاعد القومية، الاتحاد الذي يُنظر إليه على أنه شديد البيروقراطية وغير ديمقراطي بما فيه الكفاية. كما لن تختفي الانقسامات التي تلحق بكيان مؤلف من 27 عضواً، مع 19 دولة تتشارك عملة واحدة، لكن لا يتقاسم أي منها حكومة واحدة.
ومع ذلك، فإن الأزمات الأخيرة دفعته دفعاً إلى “إحساس جديد بقيمته” كما يقول كوهين. فقد رأت دول أوروبا عن كثب أن الانفصال هو دائماً هزيمة، وأن حتى الخروج بمفاوضات سيأتي بحواجز جديدة في نهايته أيضاً. لقد فقد الجميع في أوروبا وبريطانيا شيئاً ما بهذا الانفصال.