مطالب “تعجيزية” وسط معركة تكسير عظام بين العسكر والمدنيين.. ماذا يحدث في شرق السودان؟
تزامن تفجّر الأوضاع في شرق السودان مع محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت صباح الثلاثاء 21 سبتمبر/أيلول، والتي نتج عنها تبادل الاتهامات بين الشقين المدني والعسكري داخل مجلس السيادة الذي يقود الفترة الانتقالية في السودان في أعقاب الإطاحة بالرئيس المعزول عمر البشير.
الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع وجَّها اتهامات للسياسيين المدنيين بالتسبب في “الانقلابات العسكرية” من خلال التنازع على المناصب وعدم الالتفات لمطالب الشعب، حسب ما قالاه تصريحاً. بينما تتهم الحكومة برئاسة عبدالله حمدوك وقيادات الحرية والتغيير (المكون المدني في الفترة الانتقالية) العسكريين بعرقلة الانتقال المدني الديمقراطي في البلاد.
وتزامناً مع تلك المحاولة الانقلابية الفاشلة، صعد المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة خطواته في شرق السودان ضد حكومة حمدوك منذ 17 سبتمبر/أيلول الجاري حين أعلن إغلاق عدد من الطرق التي تربط بين شرق السودان وباقي مناطق البلاد، كما أغلق عدداً من الموانئ على البحر الأحمر، بما فيها ميناء بورتسودان، وواصل الخطوات التصعيدية بصورة لافتة.
مَن يقود التصعيد في شرق السودان، ولماذا؟
المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة هو مكون سياسي في شرق السودان نشأ أثناء انعقاد مفاوضات جوبا بين الحكومة السودانية والجبهة الثورية، ويتألف من قيادات أهلية وحزبية ومجموعات شبابية غير منظمة.
ويضم المجلس قبائل في شرق السودان أبرزها قبيلة الهدندوة التي يتزعمها محمد الأمين ترك، الذي يقود المجلس الأعلى لنظارات وعموديات قبائل البجا، وتطالب تلك القبائل التي يتزعمها ترك بإلغاء اتفاقية مسار الشرق، المنضوية في اتفاقية جوبا لسلام السودان الموقّعة بين الأطراف السودانية في الثالث من تشرين الأول/أكتوبر 2020.
كما تطالب قبائل المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة بضرورة إلغاء “لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد واسترداد الأموال لنظام انقلاب 1989 [نظام عمر البشير]”، مشددين على أنهم لا يعترفون بأعمال وقرارات هذه اللجنة.
وكانت اتفاقية “جوبا” الموقعة في العاصمة الجنوب سودانية في تشرين الأول/أكتوبر 2020، بين الحكومة السودانية وأطراف سياسية وحركات مسلحة، قد اعترفت بأن مناطق شرق السودان عانت لعقود من التهميش وشح الخدمات الأساسية مما أدخلت مواطني شرق السودان في دائرة الفقر والجهل والمرض.
ومنذ استقلال البلاد عن بريطانيا قبل أكثر من ستة عقود، تعاني مناطق شرق السودان من قلة الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها، وهو ما لا يختلف كثيراً عن أقاليم غرب البلاد التي تعاني من نفس الأوضاع تقريباً، ونصت اتفاقية السلام في جوبا على وضع الحكومة الاتحادية خططاً لمواجهة تلك المشاكل المزمنة.
ما أسرار التصعيد في شرق السودان؟
كان حمدوك رئيس الحكومة قد تطرق في تصريحاته تعليقاً على محاولة الانقلاب الفاشلة الثلاثاء الماضي إلى “تحركات غريبة وإغلاق طرق”، في إشارة إلى ما يحدث في شرق السودان، وهو ربط مباشر بين تلك الأحداث وبين الموقف العام في البلاد من “محاولة لعرقلة الانتقال المدني الديمقراطي”.
وتشهد الفترة الانتقالية في السودان، مع مرور الوقت، زيادة في العنف في كل من دارفور، في غرب السودان، وكذلك شرق البلاد، ويعزو محللون ذلك في جانب كبير منه إلى عملية السلام التي أفضت إلى اتفاق وقعته السلطات الانتقالية مع بعض الفصائل السياسية والمسلحة في أكتوبر/تشرين الأول 2020.
إذ على الرغم من إشادة كثيرين بهذا الاتفاق كخطوة أولى في معالجة النزاعات الداخلية طويلة الأمد، تشكو مجموعات وقبائل مختلفة من استبعادها بينما يتنافس آخرون على السلطة والأراضي والترشيحات للتعيينات الرسمية.
وأشار الساسة المدنيون مراراً إلى أن للموالين للنظام السابق يداً في إثارة التوتر العرقي، واتهموا الجيش بالفشل في احتواء الاضطرابات، بل وبدعمها في محاولة لزعزعة استقرار الحكومة، وهي تهمة يرفضها القادة العسكريون.
وفي هذا السياق، قال عضو مجلس السيادة السوداني الصديق تاور لوكالة سبوتنيك الروسية إن التصعيد من جانب المحتجين في شرق البلاد “غريب ومفتعل”، مؤكداً أنه لا يستبعد ضلوع أطراف خارجية وداخلية في تلك الأزمة.
وأضاف أنه وارد جداً أن تكون هناك أطراف خارجية وداخلية تزيد الأزمة اشتعالاً، لأن التصعيد هو تصعيد مفتعل، فلم تغلق الأبواب أمام المجموعة المحتجة من جانب الحكومة، بل سمح لهم بحضور جلسات المجلس الأعلى للسلام وطرح وجهة نظرهم، وفي البداية وافق محمد الأمين ترك نفسه وقال إنه سوف يحضر، ثم عاد وقال إنه سوف يبعث من ينوب عنه لمناقشة وجهة نظره مع الحكومة، ثم عاد واعتذر عن حضوره أو من ينوب عنه وواصل عملية التصعيد.
وأشار عضو مجلس السيادة إلى أن الأمور أصبحت واضحة الآن، بأن كل عمليات التصعيد مفتعلة، فلو كانت الحكومة قد أغلقت الأبواب ربما كان هناك مبرر للتصعيد، لكنها فتحت الأبواب وأعلنت استعدادها لتلبية طلباتهم حتى وإن كانوا يريدون منبراً تفاوضياً خاصاً بهم من أجل مناقشة مظالم الشرق، لذا فمن الواضح أن هناك أطرافاً وأيادي ليس لها علاقة بالشرق ولا بقضاياه تسعى للتصعيد وسوف تنكشف الأمور خلال الأيام القادمة.
خطوات التصعيد في شرق السودان
وكان وزير الطاقة والنفط السوداني جادين علي عبيد قد حذر السبت 25 سبتمبر/أيلول من وقوع كارثة في البلاد نتيجة إغلاق خط الأنابيب الناقل لمشتقات النفط للخرطوم وميناءي تصدير النفط في مدينة بورتسودان (شرق) من قِبَل المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة.
وقال عبيد -في تصريح للجزيرة- إن هناك خطراً بتعرض خطوط نقل النفط للتلف إذا استمر هذا الإغلاق، الذي وصفه بالخطير ولا يمكن تخيله، وأضاف أن تدفق النفط الخام من مناطق الإنتاج إلى موانئ التصدير تحكمه اتفاقيات دولية، وهو مصلحة عليا للدولة لا يمكن المساس بها.
كان أفراد ينتمون للمجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة قد أغلقوا خط أنابيب البترول عند منطقتي دهنت وهيا (شرقي السودان)، في سياق تصعيد المجلس احتجاجاته، وقال القيادي في المجلس محمد أوشيك للأناضول، إنه في إطار خطتنا التصعيدية أغلقنا أنبوب النفط الذي ينقل البنزين والجازولين إلى العاصمة الخرطوم في محطة هيا بولاية البحر الأحمر (شرق). وأضاف أن لدينا خطوات تصعيدية أخرى تشمل خطوط الإنترنت والاتصالات في البحر الأحمر ما دام ليست هناك مبادرات للحل من قِبَل الحكومة.
وكان المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات أعلن الإقفال التام للطريق المؤدية إلى مدينة بورتسودان (شرقي البلاد). وقال المجلس إنه سيمنع عبور السيارات والحافلات من مدينة بورتسودان وإليها عند منطقة العقبة، لكنه -في المقابل- أعلن رفعاً جزئياً للإغلاق عن مطار بورتسودان لمدة 72 ساعة.
والجمعة، شنَّ محمد الأمين ترك هجوماً عنيفاً على رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وطالبه بالاستقالة، قائلاً إن على حمدوك محاكمة من يتهمهم بمحاولة الانقلاب أو الاعتراف للشعب والمجتمع الدولي بالكذب.
واللافت هنا هو التطابق بين تصريحات الأمين ترك وتصريحات البرهان وحميدتي تعليقا على المحاولة الانقلابية الفاشلة، إذ قال نائب رئيس مجلس السيادة السبت إن الترويج بوقوف العسكريين وراء المحاولة الانقلابية هدفه استعطاف الشعب السوداني والمجتمع الدولي، واصفاً ذلك بأنه “نفاق”.
جاء ذلك في خطاب للمسؤول السوداني خلال تقديم واجب عزاء شرقي العاصمة الخرطوم، وفق بيان وزعه إعلام قوات “الدعم السريع”، التي تتبع الجيش، ويقودها حميدتي.
وأضاف حميدتي: “المحاولة الانقلابية حقيقية ومكتملة الأركان، والترويج بوقوف العسكريين وراء الانقلاب محاولة لاستعطاف الشعب السوداني والمجتمع الدولي. الحديث عن دعمنا للسيولة الأمنية (الانفلات الأمني) لتسهيل الانقلاب نفاق، ونحن منحناهم القوة (المكون المدني بمجلس السيادة)، ولن نسكت عن الحق”.
ومنذ 21 أغسطس/آب 2019، يعيش السودان فترة انتقالية تستمر 53 شهراً تنتهي بإجراء انتخابات مطلع 2024، ويتقاسم خلالها السلطة كل من الجيش وقوى مدنية وحركات مسلحة وقعت مع الحكومة اتفاق سلام، في 3 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وتدير البلاد خلال الفترة الانتقالية حكومة مدنية، ومجلس سيادة (بمثابة الرئاسة) مكون من 14 عضواً؛ 5 عسكريين و3 من الحركات المسلحة و6 مدنيين.
وكان محمد الفكي سليمان، وهو أحد أعضاء مجلس السيادة من المكون المدني، قد وجَّه اتهاماً صريحاً للمكون العسكري، شريك السلطة الانتقالية في البلاد، بمحاولة السيطرة على الأوضاع السياسية. وقال الفكي خلال مقابلة مع تلفزيون السودان الرسمي: “هناك محاولة من المكون العسكري لتعديل المعادلة السياسية وهذا مخل بعملية الشراكة”، معتبراً أن ذلك “هو الانقلاب الحقيقي وهو انقلاب أبيض”.
متى يتسلم المدنيون رئاسة مجلس السيادة؟
بموجب اتفاق تقاسم السلطة في الودان، يفترض أن يكون الدور العسكري شرفياً إلى حد كبير، إلا أن المدنيين قد اشتكوا مراراً من تجاوزات عسكرية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، خصوصاً لقاء البرهان ورئيس وزراء إسرائيل السابق بنيامين نتنياهو سرا وإطلاق مسار التطبيع، إضافة إلى مفاوضات السلام الداخلية التي أفضت إلى اتفاق جوبا.
وتلوح في الأفق الآن عدد من نقاط التوتر الرئيسية أبرزها السعي لتحقيق العدالة بشأن مزاعم ارتكاب الجيش السوداني وحلفائه جرائم حرب في الصراع في دارفور منذ عام 2003.
وتسعى المحكمة الجنائية الدولية إلى محاكمة البشير وأربعة سودانيين آخرين مشتبه بهم بشأن الأحداث في دارفور التي وقعت بينما كان كبار قادة الجيش الحاليين يخدمون هناك أيضاً، ووافق مجلس الوزراء المدني على تسليم المشتبه بهم، لكن مجلس السيادة العسكري المدني لم يفعل ذلك.
ونقطة التوتر الأخرى تتمثل في التحقيق في قتل المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية في الثالث من يونيو/حزيران 2019، والذي تورطت فيه قوات عسكرية، ويثير التأخر في نشر نتائج هذا التحقيق غضب ناشطين وجماعات مدنية.
وفيما يتعلق بالموقف في شرق السودان وعلى عكس موقف مجلس نظارات البجا والعموديات المستقلة، جدد قادة بالمجلس الأعلى للإدارة الأهلية في شرق السودان تأييدهم لمسار الشرق في اتفاق جوبا، ورفضهم إغلاق الطرق والمرافق.
وأظهرت مقاطع فيديو توافد الآلاف من القبائل السودانية في شرق السودان إلى منطقة شمبوب في ولاية كسلا، للتعبير عن تأييدهم لمسار الشرق والتحول الديمقراطي في البلاد.
وقال قادة من المجلس أمام تجمع جماهيري السبت بولاية كسلا إن على الحكومة تنفيذ المسار؛ لأنه يمثل جميع أقاليم الشرق، وسيتم الدفاع عنه بكل الوسائل. كما حمّلوا الحكومة الاتحادية المسؤولية عن الوضع الراهن، بعدما تحولت إلى حكومة محاصصات وأحزاب، وفق وصفهم. وطالبوا القوات النظامية بالقيام بدورها في حماية المؤسسات الحيوية القومية في شرق البلاد، حسب تعبيرهم.
الخلاصة هنا هي أن ما يحدث في شرق السودان ليس أمراً منفصلاً بل هو جزء أصيل مما يحدث من توتر بلغ درجة الغليان بين العسكر والمدنيين، وبحسب وصف محمد الفكي سليمان “العلاقة بين الأعضاء المدنيين والعسكريين بالمجلس بأنها ليست بخير”، مضيفاً أن اجتماعات مشتركة بشأن عدة موضوعات لم تتوصل إلى توافق في الأسابيع الأخيرة.
وأضاف أن هناك حاجة إلى مناقشات سياسية وفتوى من وزارة العدل لتحديد موعد لتسليم السلطة. ففي خطاب له يوم الأربعاء انتقد البرهان سليمان وغيره من الزعماء المدنيين، ووصف البرهان الجيش بأنه وصي على عملية الانتقال، وهو وصف رفضه سليمان. وقال سليمان إن الهدف من هذا هو إنتاج وضع سياسي يتحكم فيه المكون العسكري، معتبراً أن هذا غير مقبول، وأضاف أن على أعضاء مجلس السيادة العسكريين تقبّل النقاش والانتقادات.
وحدد الإعلان الدستوري، المُوقع في أعقاب انتفاضة 2018-2019 التي أطاحت بالرئيس عمر البشير، موعداً لتسليم قيادة مجلس السيادة في مايو/أيار 2021. غير أن اتفاق سلام تم توقيعه في أكتوبر/تشرين الأول عدل المواعيد بشأن تسليم السلطة دون تحديد تاريخ جديد. وقال سليمان إن تسليم السلطة للمدنيين ليس شيئاً ثانوياً، مضيفاً أنه يفضل اقتراحاً بأن يتم ذلك في نوفمبر/تشرين الثاني.
لكن المعطيات الحالية واللغة التصعيدية التي ينتهجها البرهان وحميدتي، والخطوات التصعيدية في شرق السودان، لا تشير إلى أن عملية تسليم رئاسة مجلس السيادة إلى المدنيين قد تتم بصورة سلسة كما يريد المدنيون، وعلى الأرجح لن تتم في نوفمبر/تشرين الثاني كما اقترح سليمان.