تحليلات و آراء

من الأسر

الأسير المحرر أحمد أبو السعود
عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

ربما أكثر شيء يفتقر إليه المناضل قبل الاسر هو الوعي والخبرة الأمنية، لأنه لا يتم تدريسهما لا بالمدرسة ولا بالجامعة، خاصة أن دافع المواطن لمقاومة الاحتلال هو الدافع الوطني، حب الوطن صحيح أنه مكتسب وليس وراثي, لكنه يكبر مع الطفل منذ ولادته، ليصبح مسقط الرأس مقدساً للإنسان حتى الممات، ولأنه يحتك بكل تفاصيل بيته وهو طفل ثم حارته والمدرسة ومعظم أبناء جيله من حارته وسواها فيرتبط بالأم والأهل والأصدقاء والبيت والأرض والمدرسة، وامتداداً لكل مساحة الوطن، ويصبح عاشقاً له، ومن يعتدي على وطنه كمن يعتدي عليه وعلى معشوقه، إن الوازع الوطني يكفي كي يسارع الشاب والفتاه والإنسان عموماً للدفاع عن بيته وأرضه وأبناء جلدته، لذلك الغالبية الساحقة من المعتقلين ليسوا على دراية أو خبرة لا سياسية ولا أمنية ولا تنظيمية، مما يوقع البعض منهم فريسة للاعتراف بالتحقيق أو حتى للسقوط الأمني لذوي النفوس المريضة، لذلك يعتبر السجن محطة للتزود بالوقود كي يقلع ويواصل مشوار النضال، لأن السجن يوفر بيئة للتعليم سواء للعامل أو للجامعي ولكل فئات الشعب، وأكيد هناك تفاوت بين أسير وآخر كما هو التفاوت بين بني البشر جميعاً من حيث الذكاء وشغف التعلم والاهتمام، فمن قال أن السجن مدرسة فقد صدق، ومن قال أنه جامعة فقد صدق أيضاً، لأنه يهيئ ظروفاً للمعتقل للتعليم كتحد لسجانيه، وفيه ملكات في شتى مجالات الحياة، وفيه تجميع للخبرات والتجارب وتلخيصها في كراريس وكتب، عدا عن الوقت الذي لا يمكن أن يتوفر بهذا القدر إلا في السجن، إنه بيئة وطنية وثورية نظرياً وعملياً، فيعتبر الأسرى في خندق المواجهة الدائم.

بعد شهور من وصول صديقنا إلى سجن عسقلان تم نقل عدداً كبيراً نسبياً من الرفاق إلى معتقل النقب، حيث لم يتبقَ لهم من محكوميتهم إلا القليل، أي أقل من ثلاثة سنوات لأنهم سيعيشون بالخيام، وأن يتم نقل كادرات مضى على وجودهم سنوات وتمرسوا بالعمل يعني أن فراغاً نسبياً قد وقع في المنظمة، ولما كان صديقنا متوسط المرتبة وذو حكم عالي (مدى الحياة)، فقد تم اختياره ليشغل موقعاً في قيادة المنظمة ولم يكن قد مضى على وجوده بالسجن عامين، يعني أنه سيتحمل مسؤولية مع افتقاره للخبرة اللازمة من كافة النواحي، لكن لا مفر فهو كما يبدو بنظر رفاقه مناسب، وأن يعمل في القيادة الأولى يعني سوف يطلع على أسرار، وعليه أن يشارك في صناعة قرارات هامة مثل إعلان الاضراب، أو المواجهة مع إدارة السجن أو دراسة ملفات القادمين الجدد…الخ، هو والرفاق عموماً يؤمنون بقانون التراكم، وإن العامل الذاتي هو الحاسم بالتطور، أي مراكمة الخبرات تدريجياً وإن التطور قانون الحياة، فمن عمل وسعى لاكتساب الخبرة والمعرفة وفنون القيادة قادر على تحقيق ذلك، خاصة حينما يتحلى بصفات كالموضوعية والنزاهة والصدق والايثارية وغير ذلك من الصفات الاخلاقية، الواجب توافرها بالقائد.

شرع بالعمل كواحد من الطاقم القيادي وشرع بالعمل باهتمام كبير جداً، فأي موضوع يتم طرحه للنقاش بهدف اتخاذ قرار فيه يعيد قراءته مرة وأخرى وربما ثالثة، ويفكر في إبعاده، وبعدها يسجل رأيه، أحياناً كثيرة يكتشف آراء غيره أنضج من رأيه فيتقبلها بسرور ويتفق معها وأحياناً يجادل فيها، المهم من القضايا الحيوية عمليات الاستقطاب لرفاق جدد قدموا للسجن وتم إغرائهم من قبل تنظيم فتح، فتم تكليف صاحبنا أن يبحث في إطار اللجنة الوطنية العامة موضوع استقطاب رفيقين لنا، وفعلاً اجتمعت اللجنة وقدم مداخلته قائلاً هذين الاثنين رفاق ومعهما لوائح اتهام تؤكد ذلك، ونحن نطالب الأخوة في فتح بإعادتهما لنا، ونحن سوف نقف على تقاريرهما الاعتقالية لانهما جزء من تنظيم ولهم ربما شركاء خارج السجن، نريد أن نعرف هل عليهم اعترافات وغير ذلك، رد مندوب فتح هاذان الشخصان لم يكون من الرفاق ولا صلة لهم بالرفاق، وحديث من هنا ومن هناك فقام صاحبنا بعد أن تحدث بصوت عال، قال سوف نأخذهم شئتم أم أبيتم وانسحب من الاجتماع، فقام أحد الاعضاء من الفصائل الاخرى باللحاق به وتهدئته واعادته للاجتماع، واستكمل النقاش بلا نتيجة، فتوترت العلاقة بين التنظيمين، واجريت حوارات ثنائية وجماعية لحل المشكلة، لكن تنظيم فتح بقي مصراً على موقفه، مع أنهم في داخلهم مقتنعون أنهما رفيقان تم استقطابهما بإغراءات على شاكلة تزويدهما بأغراض من الكانتينا كإعطائهما سجائر.. الخ.

توترت العلاقة كثيراً إلى حد أن العديد من الرفاق لبسوا أحذيتهم الرياضية تجهيزاً لإمكانية حدوث مواجهة بين التنظيمان، وكذلك أعضاء فتح، أي أن الأجواء باتت مشحونة جداً، ووضع كهذا لا يغيب عن الإدارة لأن السجانين يتواجدوا على أطراف الساحة ويشاهدوا كل حركة غير طبيعية ويواصلون شكوكهم لضباط الأمن أولاً بأول، بل عدا عن مراقبتهم للأسرى وحركتهم عبر الكاميرات، ويتمنون حدوث مواجهة، طبعاً إذا ما حصلت تلك المواجهة فإن قوة القمع جاهزة لضرب الجميع بدون استثناء، في الفورة المسائية تجمعت قيادة المنظمة في الساحة ودعت معها عدداً من الكادر لتبحث الأمر وتتدارسه، طرحت آراء متعددة أبرزها أن سلوك فتح فيه عنجهية ولا يمكن قبوله، وعلينا الحزم بإعادة الرفيقين، لكن جاء رأي المسؤول، ماذا لو تعنتوا لحد الاصطدام، هل ننجرّ للصدام معهم ونقبل بتدخل إدارة السجن بيننا، ونوصل الأمر للضرب؟ أم نتنازل لأن أحداً لن يستوعب أو يتقبل موقفنا وفي المقدمة رفاقنا بالسجون الأخرى وخارج السجون، فكان أن قبلت القيادة عدم التصعيد عبر التصويت واعتباره قراراً لقيادة المنظمة، وتجاوزنا الأزمة التي امتدت لشهور، فكانت تجربة لصاحبنا أن الخلافات الأخوية هي ثانوية بينما مع أعدائنا هو صراع رئيسي ولا مساومة مع الأعداء.

بعدها أرسل الرفاق رسالة لفتح تخبرهم أننا واثقون أن الشابين رفاق لنا، ولكن لم ولن نسمح بايصال الأمر لصدام معكم وكما لن نسمح بتدخل إدارة القمع الصهيونية بيننا، وعقدت جلسة مصالحة وعادت العلاقة كما كانت اصطفاف وطني وعلاقات وطنية، وطبعاً خلافات وتفاهمات ولكن الطابع العام توافق وطني.

الحدث الثاني الذي واجه صديقنا في بداية مشواره هو الاطلاع على تقارير الجدد وعلى كل ما حصل مع كل واحد بالتحقيق والمقارنات بين هذا وذاك، الجلوس مع كل واحد وسماع قصته ونقاشه بتقريره والوقوف على الاخطاء التي وقع فيها، والمواقف الصحيحة . الاولى اثارتها لكي يتعلم درساً منها طوال حياته ويحاول ايصالها للآخرين باعتبارها تجربة قاسية، أما الثانية فلكي يتم تعزيزها وتعميمها، ومن خلال قراءة تقارير لمجموعات تبين أن واحد من إحدى المجموعات تشكلت حوله ملاحظات ودارت حوله تساؤلات بإمكانية أن يكون ارتبط مع المخابرات وأصبح عميلاً لهم، وهذه أضحت ظاهرة بالسجون، إذ يسعى السجان لزرع عملاء وسط الأسرى ليعرف بأمورهم الداخلية، بماذا يفكرون وماذا يخبئون وخاصة عمليات الهرب، تمت قراءة تقريره مراراً وظهر فيه تناقضات، وغياب الانسجام بروايته، ومن خلال تقارير من عمل واياهم بمجموعة واحدة إن اختلافاً كبيراً بين ما حصل معه بالتحقيق وما حصل واياهم، إضافة لأنه اعترف عليهم بوجوههم، تم وضعه تحت المراقبة أولاً وانتظار أية معلومات عنه تم طلبها من الرفاق في منطقة سكنه وعمله، جاء ما يعزز الشكوك حوله من ملاحظات من خارج السجن، وبعد اعادة دراسة موضوعه اتخذت القيادة قراراها باخضاعه للتحقيق، وفعلاً تم تسجيل الأسئلة التي عليه أن يجيب عليها، وتسلسل الأسئلة وصولاً إلى ما سيقدمه من تناقض بين اجاباته الأولى والأخيرة، ومواجهته ببعض الملاحظات عليه وما تفسيره لها، طبعاً كان لدى الرفاق سياسة تختلف عن الآخرين وهي وضع المتهم في أجواء مخيفه ولكن ممنوع مسه بأي شكل من العنف لا الجسدي ولا المعنوي خوفاً من أن يكون بريئاً، وأي عنف يمارس بحقه يجيء بعد اقراره بالعمالة والارتباط بالعدو، أخذ الأمر معه ليلة كاملة وهو يجيب على التساؤلات ولكن اجاباته تؤكد الشكوك أكثر فأكثر، في اليوم التالي وطبعاً نهاراً لا يتم استجوابه الا بهدوء وكأن الحديث تفاعلاً بين رفيقين حتى لا يلفت نظر أي أحد، بالليل، تمت مواجهته ببعض المعلومات وإذا لم يخبر التنظيم بصدق فسوف يتم الإعلان بأنه عميل، وتم ربط يديه إلى الخلف وتعصيب عيونه، وايهامه أنه إذا لم يتحدث بصدق قد يتم طرده إلى الإدارة، وحتى ساعات الليل الأخيرة أقر بأنه فعلاً تعاون مع المخابرات وأنه كان مزروع في المجموعة وهو من أوقع بها، وكتب بخط يده اعترافاته كاملة دون أن يتم ضربه ولو كف واحد، كان صاحبنا واحداً من المحققين معه، ودارت في رأسه تساؤلات كثيرة كيف لفلسطيني أن يتعاون مع سارقي أرضه وقاتلي أبناء شعبه، وخلص بتجربته فيما بعد أن هناك من هم مرضى وضعاف النفوس، أو جبناء يقبلون الارتباط خوفاً من تهديدات أعدائهم، منهم من يسقطون بفخ المخابرات عن طريق الجنس، وآخرين بإغرائهم بالمال أو بوظيفة أو السماح لهم بالسفر… الخ. طبعاً هذه تجربة عملية إلى جانب ما درسه وتعلمه صاحبنا يومياً من المواجهة والصدام مع إدارة القمع، بعد إقراره بالارتباط تمت معاقبته بالعديد من العصي على قدميه ويديه، وحرمانه من السجائر، وتهديده بأنه إذا هرب إلى رجالات إدارة السجن فسوف يتم التشهير به في السجون وخارج السجون باعتباره عميلاً، والأفضل أن يقبل بالعيش بدون حقوق العضو وإنما الحقوق الأساسية، وسلوكه إذا ما انصلح حاله يمكن أن يعاد النظر بوضعه، إذا اثبت فعلاً أنه قطع علاقته بالإدارة وعاد إلى أبناء شعبه وأهله فسوف تتم مساعدته على ذلك، وتلقى محاضرة طويلة حول هذا الأمر، مع ذلك تم إنزال تعميم على أعضاء المنظمة بأنه مرتبط وعمل لصالح المخابرات الصهيونية وأن على الرفاق استيعابه لكي يعود نظيفاً ومعاملته بشكل إنساني، وبيان عام للأسرى في السجن، فعادة ما يجري ذلك أن يتم التعميم بهكذا أمور.

يتبع…

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى