آهٍ يا أمي
ما أقسى الذّكرى عندما تكون على عتبات الذين غادرونا وتركوا كلّ تفاصيلهم هنا، رائحتهم، أشياءهم، هداياهم، لمسة أياديهم، صوتهم الذي يأتي من كلّ مكان ومن خلف كلّ زمان عبر أعمار المارّين.
آهٍ يا أمي.
ما أكبر الحزن عندما نروي حكاياتنا مع راحلٍ منذ أمدٍ بعيد!
آهٍ يا أمي ما أبعد الزّمن الذي كانت فيه معاطف الحكايات التي تحاك في كلّ شتاءٍ على ذاك السّطح الذي ما زال يحمل بعضًا من خطانا يوم كان الحبّ ينام ويصحو على الشّبابيك.
آهٍ يا أمي!
ما أعذب العمر حينما كانت دالية العنب، وشجيرات التّوت التي يعصفها ريح الخريف حينما تكتب أسماءنا على سيقان عمرها، ولكن تخبّئها كي تبقى عمر خلود.
آهٍ يا أمي!
ما أبعد الزّمن الذي كانت تأتي فيه بائعة الحليب، وتقصّ علينا حكاية حزنها يوم غادر الفرح قلبها، وغدت للأزقّة زائرة صباحٍ وهي تحمل الحليب على كتفها الذي أثقلته السّنين.
وأنتِ يا أمي كم كنتِ تصغين لها، وكأنّك لأنفاق حزنك الكبير بصمتٍ تعودين، ولكنّي أراه في عيونك التي حملَته عمرًا وما كنتِ به تبوحين.
تصغين وتمنحينها الأمل؛ لتحيا وتدقّ الأبواب كلّ يومٍ، وتكون قصصها ملح الصّباح الذي نفتقده إن غابتْ، وذاك المكيال بين يديها، وكأنّه يروي كلّ ما تريد.
آهٍ يا أمي!
ما أجملكِ وأنت تمسحين غبار الوجع عن قلوب المارّين!
وما أرحم يديك عندما تنسج من الشّمس رداء الأمان كي يرتديه العابرون في شتاء الجليد!
آهٍ يا أمي!
لو تدرين كيف غدا الحبّ وكيف غاب عن القلوب بعد أنْ غادرتِ الأمكنة، وتركتِ ذاك الزّمن الذي كان فيه الأمان سيّد اللّيل والنّهار وتلك المدن التي ما عادت تعرف شيئًا ممّا كان.
غدا الخوف، غدا القهر يدقّ أبواب قلوبنا كلّ يومٍ، غدا الظّلم أبعد من كلّ الحدود. وقصص الأمان أضاعتها عتمة الصّحاري، وما عاد هناك أيَ ضوءٍ في عالمٍ لم ندركه من قبل يا أمي.
عالمٍ مهول، كلّ ما فيه يدعوكِ لأن تتقيّئي هذا الزّمن، وتعودي لرحيلك الذي كنتِ تتمنينه.
آهٍ يا أمي!
تعالي لننسى قذارات هذا العالم الموبوء، عودي لنكتب حروفًا من شجن أيلول للغيم والمطر وشجرة الزّيتون وتلك الدّالية وشجيرات التّوت، وأحواض النّعناع والزّعتر وشجرة التّين التي كنت تستفقدين لعبي حولك، فأكون تحتها مع قلمي ودفتري ويدي الصّغيرة تكتب حروفًا على سيقان السّنين التي ستأتي، ولن أكون فيها هنا، ولا تكونين،
وستكبر كذلك شجرة التّين يا أمّي، ولكن ربما تبقى الحروف لألف زمنٍ آخر إنْ لم يمرّ الثّلج يومًا، ولا الرّيح الذي لا يترك المكان كما تركه آخر المستظّلين يوم كانوا يتفيّؤون هنا بحنين الرّوح.
هو ذاك الزّمن البعيد يا أمي،
يحفظ عهد العابرين ولا يشبه هذا الحِمل الثّقيل الذي وصلنا به منهكين، ولا القلوب فيه عادت مرفأ أمانٍ، ولا الأخلاق يا أمي عادت كالأخلاق، ولا شيء به سوى الضّجر والصّرخة والصّمت والقاع.
تركتِ الأمكنة ورحلتِ يا أمي، وعبر الرّيح بعدك، وما بقي للمكان روحٌ بعدك، وما سوى رائحتك التي أشمّها هنا وهناك، وذاكرة تعيدني لكلّ الذي كان.
آهٍ يا أمي!
لو تدرين كم من عمقٍ أحتاج لأخرج تلك الآهات التي تحمل وجع صمتي وقهري الكبير.
آهٍ يا أمي! لو تدرين كم من العمر يكفي لأن تسمعيها، وتشفي القلب الذي خوى بما فيه.
آهٍ يا أمي!
كلّ الأزمنة لا تكفي لأن تصغي لصرخاتي منذ الأزل البعيد.
آهٍ يا أمي!
فما الصّراخ وما الكلام وما شيءٌ بنا سيصل الآفاق؛ ليعيد لنا ضوء القناديل في ليلة العيد.
ولكن نكتب ليكون أول السّطر بدايةً، وما أن تطول الرّواية حتى نصل آخر نقطةٍ في فصول الأعوام التي مرّت على خطى عمرنا بين ربيعٍ وصيفٍ وخريف يختزل كلّ الفصول.
نكتب لنشفى، ليموت الحزن فينا، لنكون نحن أبطال الرّواية الأولى والأخيرة وكلّ ما في قصص المعذّبين، وما في مرافئ حكايا الخريف، وإن أتى بعده الشّتاء فربما يكون المطر والغيم ومطرٌ آخر لا يشبه أيّ مطرٍ ترك الحزن على بوابات الرّاحلين.
أسمى وزوز ، كاتبة وشاعرة.. فلسطين