أسد الدين عويسي.. قصة المحامي المسلم الذي يقض مضاجع رئيس وزراء الهند
وفي صباح يوم أحد بشهر ديسمبر/كانون الأول عام 2019، عكف مديرو حملته على تهيئة الجمهور في مسيرةٍ بولاية جهارخاند الشرقية في الهند؛ حيث صرخ أحدهم: “يا مسلمي الهند، لقد حانت نهاية عصر تضليلكم”، بينما اقتربت مروحيةٌ من الأرض وهو يُتابع: “لقد وصل قائدنا”. لتنفجر الحشود بعدها بالهتاف على نغمةٍ واحدة: “انظروا، انظروا من وصل! إنّه الأسد قد وصل”.
وخطب عويسي أمام حشد من خمسة آلاف مؤيد مسلم، وهو يرتدي زي الشرواني الهندي التقليدي بلحيةٍ مقصوصة وقبعة. وأمام بحر البشر الذين يحملون اسم حزبه وشعاره، رفع الزعيم السياسي (51 عاماً) يده في حركةٍ سياسية مُحنّكة ليسود الهدوء في المكان. ثم أغلق عينيه قبل أن يستهل الخطبة بـ”بسم الله الرحمن الرحيم”. وبنهاية خطبته بعد 30 دقيقة، كان قد وصل إلى الذروة وهو يقول: “نحن المسلمين، رفضنا باكستان لتكون الهند وطناً لقلوبنا. والآن، حان دور الهندوس ليُثبتوا وطنيتهم ويرفضوا مودي”.
لماذا دخل عويسي معترك السياسة؟
وفي وقتٍ لاحق من ذلك اليوم، كرر عويسي انتقاداته لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الذي ضيّق حزبه السياسي بهاراتيا جاناتا بأغلبيته الهندوسية على مسلمي البلاد البالغ عددهم 200 مليون نسمة. لكن عويسي لا يُحمِّل مودي المسؤولية وحده؛ إذ قال لمراسل مجلة Foreign Policy الأمريكي إنّ دخوله مُعترك السياسة الهندية كان بغرض “زعزعة التوازن السياسي الذي لطالما تعامل مع المسلمين باعتبارهم أمراً مفروغاً منه”.
وقد شق عويسي طريقه نحو الشهرة عبر الخطب الرنانة، ونظريات المؤامرة الجامحة التي تدور حوله، ودوافعه القوية لزعزعة الاستقرار السياسي بين حزب مودي ومنافسه الرئيسي حزب المؤتمر الوطني الهندي، إلى جانب كونه محامياً وعضواً في برلمان الهند.
وعويسي هو رئيس مجلس عموم الهند لاتحاد المسلمين (اتحاد المسلمين) الذي لا يتمتع سوى بنفوذ محدود نسبياً، رغم اسمه. وفي انتخابات الربيع الجاري، يحلم عويسي ببسط انتشار حزبه حول البلاد ليمنح المسلمين صوتاً أكبر؛ إذ يُمثّل المسلمون 15% من إجمالي سكان البلد الديمقراطي الضخم، وقد تعرّضوا للتمييز في ظل صعود شعبوية مودي وحكم الأغلبية الهندوسي.
فقبل أن تُغلق الهند بسبب الجائحة، اندلعت احتجاجات بطول البلاد وعرضها ضد تعديل قانون الجنسية، مما أسفر عن وقوع أعمال شغب في العاصمة. وقد أوجد عويسي قناةً لتنفيس ذلك الغضب بإلقاء خطبٍ ساخطة داخل البرلمان، والرد على مؤيدي مودي عبر القنوات الإعلامية. وفي ديسمبر/كانون الأول عام 2019، وصل به الأمر إلى تمزيق نسخةٍ من تعديل قانون الجنسية داخل البرلمان حتى يراه الجميع. وفي الشهر ذاته، قاد الآلاف من أنصاره في مسيرة بحيدر أباد، حيث قرأ المشاركون مقدمة الدستور الهندي باللغتين الأردية والإنجليزية.
حامي حمى الإسلام أم منشق؟
ولا عجب إذاً في أنّ جمهوره يرى فيه حامي حمى المسلمين داخل الهند؛ أما بالنسبة لمنتقديه، فهم يرون فيه منشقاً جامحاً يُثير الشكوك، ويهدف إلى زعزعة استقرار الحسابات الانتخابية عميقة الجذور في السياسات الهندية من أجل تحقيق مكاسب شخصية.
إذ تُقسّم الأحزاب السياسية مجتمعات البلاد حسب الطائفة والدين واللغة. ولطالما كان التمثيل السياسي للمسلمين كجماعةٍ واحدة أمراً غائباً عن الساحة. وحتى العام الجاري، لا يشغل المسلمون سوى 27 من أصل 543 مقعداً في مجلس النواب، وهو ثاني أقل إجمالي مقاعد لهم منذ السبعينيات. أما أقل عدد مقاعد للمسلمين فقد كان أثناء ولاية مودي الأولى.
ويُمكن القول إنّ أحد عومل قلة التمثيل ترجع إلى عدم وجود حزبٍ قومي مسلم. فعلى النقيض من الصور النمطية عن تصويت المسلمين ككتلة واحدة، نجد أنّ المسلمين متباعدون جغرافياً حول الهند، ولا يُصوّتون باعتبارهم كتلةً وطنيةً واحدة. وفي أعقاب التقسيم العنيف لشبه الجزيرة الهندية على أساسٍ ديني، اصطف غالبية المسلمين وراء حزب المؤتمر الوطني الهندي العلماني، وذلك من أجل تهدئة المخاوف من الانفصالية الدينية. وقد استنكر الزعماء المسلمون الهنود البارزون أي طموحات أو حديث عن سياسات المسلمين المنفصلة.
ورغم أنّ الأحزاب السياسية الدينية قائمةٌ على المستويين المحلي والإقليمي، لكن القليل من القادة المسلمين هم من يحملون حتى الآن لواء السياسة الهندية العلمانية على المستوى الوطني. ولا يُوجد بالطبع حزبٌ قائم بالكامل على الهوية الدينية الإسلامية في الهند، رغم أنّ مودي دعم القوميين الهندوس في عهد حزبه بهاراتيا جاناتا.
وهنا يرى عويسي الفرصة سانحة؛ إذ قال عدنان فاروقي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة نيودلهي، إنّ حزب المؤتمر الوطني الهندي “لطالما تعامل مع المجتمع المسلم مثل الخراف التي يجب رعايتها. لكن مع صعود أسد الدين، لم يعُد الحال اليوم كما كان عليه في السابق”.
وقد تجلى بالفعل التحول الواضح في دعم المجتمعات المسلمة الذي تحول من الأحزاب العلمانية التقليدية إلى حزبه اتحاد المسلمين؛ إذ توسّع عويسي بالفعل خارج حيدر أباد ليبلغ ماهاراشترا وكارناتاكا وجوغارت غرباً وبهار شرقاً.
مشروع عويسي السياسي
ومجلس عموم الهند لاتحاد المسلمين الخاص بعويسي هو مجرد نسخة معدلة ومطورة من حزب “اتحاد بين المسلمين”، الذي تأسّس عام 1927 بحيدر أباد في عصر الهند البريطانية لدعم سلالة “نظام” المكونة من الأمراء المسلمين المتمردين في المنطقة.
وقمعت الحكومة الهندية المستقلة الجديدة التمرد بكل وحشية، حتى أجبرت أمراء النظام على الاستسلام. وحينها جرت مصادرة مقرات اتحاد المسلمين في حيدر أباد، ثم اختبأ قادته أو طلبوا اللجوء لباكستان.
ومع رحيل الحرس القديم، أخذ المحامي الشاب عبدالواحد عويسي بقايا الحزب وحوّله إلى مجلس عموم الهند لاتحاد المسلمين، ثم وضع دستوراً جديداً للحزب، ورفع علم الهند فوق مكتبه، وأقسم بالولاء للجمهورية الجديدة.
ولم يستطع العديد من مسلمي حيدر أباد النافذين أن يسامحوه على هذه الخيانة. وداخل المدينة القديمة بحيدر أباد، ووسط قطاعٍ كبير من النخب المسلمة، ظل مجلس عموم الهند لاتحاد المسلمين مثاراً للشكوك، بينما توافد المسلمون في المعتاد على حزب المؤتمر الوطني الهندي.
لكن عبدالواحد واصل نشاطه الانتخابي بكل إخلاص، قبل أن يصل نجله صلاح الدين (والد أسد الدين) إلى السلطة التشريعية عام 1962. وتولى صلاح قيادة الحزب عام 1975. ورغم أنّ خطابه المجتمعي استقطب حيدر أباد، لكنه عمل أيضاً على كسب قلوب مجتمعه بالاستثمارات الخيرية، مثل بناء مدارس ومستشفيات جديدة في المدينة القديمة.
ومع صعود حزب بهاراتيا جاناتا اليميني المتشدد شمال الهند، تصاعدت التوترات الطائفية أكثر في الثمانينيات. وفي التسعينيات، لقي مئات الأشخاص مصرعهم في اشتباكات داخل حيدر أباد بسبب “حركة معبد راما” التي طالبت ببناء معبد هندوسي فوق أنقاض مسجد تاريخي شمال الهند. وصارت الحركة هي المغذي السياسي للسياسات الطائفية في الهند طيلة عقود، قبل أن يُمكن في النهاية مودي من الصعود والقفز بمكانة حزب بهاراتيا جاناتا إلى المستوى الوطني.
إذ قال عويسي عند سؤاله عن تاريخ الحزب: “لقد رحل الحرس القديم إلى باكستان. وهذا هو حزب اتحاد المسلمين الذي يُؤمن في شكل الحالي بالدستور الهندي ويُقاتل من أجله”.
ويحرص عويسي على تلميع تاريخ حزبه العنيف. ويرسم الآن صورته باعتباره مجموعةً جديدة من المسلمين الذي يُدافعون عن دستور الهند العلماني.
وباعتباره محامياً تدرّب في لندن، فقد خاض معركته الانتخابية الأولى وفاز بها عام 1994، بعد إتمام دراسة القانون وطلب والده منه أن يعود إلى الهند. وفي خضم ثورةٍ هائلة بسبب القيادة داخل الحزب، خاض أسد الدين المعركة وفاز بثلاثة انتخابات في البرلمان والولايات، وتعلّم حيل اللعبة من كبار الحزب، قبل تجهيزه من أجل السياسة الهندية العاصفة التي دخل أبوابها للتو. وقد وصف تجربته بالكامل على أنّها كانت أشبه بـ”التعميد بالنار”.
لكن تلك الجهود بدأت تؤتي ثمارها في حيدر أباد عام 1999، حين هاجمه منافسوه السياسيون وأصابوه بقطعٍ في رأسه. وعندها احتشد آلاف المؤيدين أمام المستشفى، وجاء والده لزيارته، وقال: “حين طلبت من والدي الانتقام، أمرني بابتلاع كبريائي والعودة إلى المنزل”.
هل ينجح في إحداث تأثير؟
وعملياً، يمكن القول إنّ غالبية مسلمي الهند لا يزالون يصوّتون للأحزاب التي تتمتع بموقعٍ أفضل لهزيمة بهاراتيا جاناتا. وقد تركت هذه الحسابات الأحزاب المسلمة السبعة المتبقية في الهند بنفوذٍ محدود. لكن اتحاد المسلمين قد يكون الحزب الذي يُحدث الفارق؛ إذ بدأت بصمته تظهر خارج ولايته الأم داخل ولايات تصل نسبة المسلمين فيها إلى 30%.
وبالنسبة لعويسي، ليس هناك سبب لعدم تغيير الحسابات الانتخابية القديمة. فرغم أنّ أحزاباً مثل المؤتمر الوطني الهندي تتحدث كثيراً لحماية مصالح المسلمين، لكنهم لا يفعلون ذلك حين تتعقد الأمور. وفي هذا الصدد، يقول: “أولويتي ليست الفوز بالانتخابات، بل تقديم سياسات بديلة للمسلمين الهنود”.
وفي حملته الوطنية نجد أنّ تلك السياسات البديلة هي سياسات علمانية. رغم أنّ عويسي يلعب داخل حيدر أباد دور رجل الدين أيضاً؛ إذ اتّخذ عدة موافق محافظة تجاه العديد من القضايا مثل والده. وفي الوقت ذاته، يُعتبر شقيقه المُنتخب أكبر الدين أكثر تشدداً منه بمراحل. ويتمتع أكبر الدين بنجوميةٍ كبيرة على الإنترنت، حيث تعرض للسجن في وقتٍ سابق عام 2013 بعد إعلانه أنّه في حال إزالة الشرطة لـ15 دقيقة “فسوف يقضي المسلمون على مليار هندوسي”.
وربما نجح عويسي بين العديد من المسلمين، وخاصةً الشباب، لكنه لا يزال يُثير حفيظة الآخرين.
وشاهد صديقي هو عضوٌ سابق في البرلمان، وكان لفترةٍ طويلة هو المتحدث المسلم باسم بعض الأحزاب العلمانية ومنها المؤتمر الوطني الهندي. ويعتقد صديقي أنّ تهاون الأحزاب العلمانية هو ما يدفع المسلمين للتقرب من عويسي. لكنّه يُؤمن بأنّ حزبه لن يستطيع تحقيق تغيير هائل وملموس في النظام على المدى البعيد: “يُدرك المسلمون أنّ الذهاب إلى حزبٍ مسلم منفصل سيكون قراراً كارثياً، لأنّ فكرة الأحزاب المسلمة لطالما قُوبِلَت بالرفض. وعويسي مصيره هو الفشل”. كما يُتّهم عويسي بأنّه يُفسد الانتخابات، لدرجة أنّ البعض يعتبرون الانفصالي المسلم الجديد. وبالنظر إلى العلاقة الثنائية المنقسمة بين الأحزاب الهندوسية اليمينية والأحزاب المسلمة، فقد أشار العديدون إليه باعتباره شبيهاً بحزب بهاراتيا جاناتا.
لكن عويسي لا ينزعج من ذلك، لأنّ لديه خططاً على المدى البعيد؛ حيث قال: “نخوض أول انتخابات لنخسر، ثم الثانية ليخسر المنافس، ثم الثالثة لنكسب”. ويهدف عويسي إلى تشكيل تحالفٍ من المهمشين في الهند، حيث قدم حزب العديد من مرشحي الطوائف الأخرى في الماضي.
وبنهاية المطاف، فإنّ قرار عويسي بخوض الانتخابات خارج منطقته يعني أنّه يضع نفسه في مكانة الحليف المحتمل للأحزاب العلمانية مستقبلاً، وهذا أمرٌ لا يمكن تجاهله. فبهذه الطريقة باتت المخاطر كبير. وربما تقبله الديمقراطية الهندية أو ترفضه، لكن عليها التعامل معه في جميع الأحوال -وهو محامٍ مسلم شهير يتحدث الإنجليزية ويُدير حزبه الخاص. وهذا نوعٌ من القادة لم تتمخض عنه الهند منذ عقود، وهو يأمل في إعادة تعريف العلمانية الهند نفسها.