أقلام مسمومة ولقمة عيش مغموسة بحبرها
جَر شَكَل
لؤي عوض الله
من ذاكرته الوعرة، يستنجد الحاج أبو ثائر في اتصال هاتفي له على أحد البرامج الحوارية لإحدى القنوات الفضائية بالماضي، فيقول “شاركت في العمل الفدائي ضد اليهود الصهاينة وعصاباتهم، بعد أن بعت قطعة من أرض أملكها لشراء بندقية أدافع بها عن أرضي وعرضي، وحين جاء المتطوعون من الدول العربية وجيوشها ضمن ما سُمي بجبهة الإنقاذ العربية، قاموا بتجريدي وسلبي بندقيتي بدعوى أني لا أُحسن استخدامها، كما أنهم طالبونا بمغادرة قُرانا لعدة أيام كون معارك التحرير ستحتدم، غادرنا على وعود قطعية منهم بعودتنا بعد ذلك بفترة وجيزة، وللأسف حدثت الهزيمة المدوية ولم نعد من حينها إلى يومنا هذا”.
ومابين أول هزيمة وآخرها، مرّ زمننا ببطء قاتل فمازال المشهد يتكرر ولكن بسيناريوهات مختلفة وتحت مسميات وذرائع متنوعة أما القاسم المشترك فهو مصلحة الشعب الفلسطيني وخدمة القضية.
والسؤال المطروح هنا: ما هي الآليات المستخدمة لتطويع سياسة التطبيع مع المحتل وأوراق الضغط لتطبيقها ؟، قد نتفهم أحيانا معاهدات واتفاقيات أبرمت بين الكيان الصهيوني المحتل ودول الجوار بحكم الأمر الواقع وحدودها المشتركة معه كمصر والأردن وتسهيلا لتنقل الفلسطينيين من والى الأراضي المحتلة، بالإضافة إلى تنسيق عبور البضائع بمختلف أنواعها من غذاء ووقود ودواء ومستلزمات الحياة الأخرى، لكن من المستهجن أن نرى دولاً، وهنا مقصدي يقع على حكومات عُرفت برفضها لوجود هذا الكيان المحتل والمغتصب والقاتل للأطفال؛ كما كانت تنعته، كما اشتهرت بدعمها الكبير للشعب الفلسطيني في حقه لاسترداد أرضه.
ومابين ماهو معلن وغير معلن ترتطم الحقيقة بالفضيحة فتنكشف النوايا المستورة لهذه الأنظمة التي لم تكن تجرؤ في حينها على إعلانها، رغم أنها كانت تدور منذ زمن في السر وتحت الطاولة، وكان آخرها دولة الإمارات راعية الفساد والخراب أينما وجدت، والتي سعت بقوة لشراء منازل المقدسيين وبيعها للصهاينة، والآن تتناقل الأنباء عن المملكة العربية السعودية ومباحثاتها الجارية للتطبيع شريطة إقامة دولة للشعب المنكوب والمظلوم الذي لم يجد من يحنو عليه إلا هي، يبدو أن الكثيرين يمتلكون ذاكرة السمك القصيرة وينسى أن من قدم فلسطين على طبق من ذهب عميل الانجليز المخلص الملك المقبور عبد العزيز بن سعود الذي وقع على وثيقة منح أرض فلسطين ليهود العالم، وهكذا يكون “أعطى من لا يملك لمن لا يستحق” دون وجه حق، وهم الآن يطبقون حرفيا المثل القائل “يقتلون القتيل ويمشون في جنازته” وأضف عليها يأخذون عزاءه.
واستمرارا لهذه المسيرة المخزية والمشينة في تاريخ الحكومات العربية والمليئة بالخيانة والعمالة والتآمر وترسيخا لسياسة مبدأ ألا مبدأ وتسويغا للا مسوغ ولا يستساغ.
جاءت الفضيحة المدوية للقاء وزيرة الخارجية الليبية المنقوش مع وزير خارجية الكيان الصهيوني ايلي كوهين الذي كشف عنه الصحفي الإسرائيلي، وهنا لسنا بصدد مناقشة دوافع كشفه سر هذا اللقاء ، ولكن من المؤكد أن هذه المباحثات للتطبيع جرت بعلم ومباركة عبد الحميد الدبيبة رئيس الحكومة الليبية الحالي وبتنسيق مع الحكومة الأمريكية منذ عامين، وفقا للمتحدث باسم الخارجية الأمريكية وللتسريب الذي فتح الأبواب السرية والمغلقة لهذه اللقاءات.
وبالرغم من كل ما توضح فيما يخص هذا اللقاء؛ سارع السيد الدبيبة إلى نفي علاقته به وعدم علمه بهذه الخيانة، مؤكدا أن وزيرة خارجيته المنقوش تصرفت من تلقاء نفسها دون الرجوع إليه، ولأنه أصر على الإنكار قلبت المنقوش الطاولة عليه مؤكدة علمه ومباركته وأن التنسيق مع الإدارتين الايطالية والأمريكية واللتين صرحتا بأن كشف وتسريب هذا اللقاء أضر بالمباحثات الجارية، فهرول الدبيبة في مشهد هزلي إلى السفارة الفلسطينية في طرابلس ليعلن منها دعمه وتمسكه باللاءات الثلاث وموقف الدولة الليبية الثابت من القضية.
ولإسكات الغضب الشعبي الرافض لما جرى في روما والذي أخرجهم للشوارع قام بصرف الرواتب لمواطنيه لامتصاص الغضب، كما أصدر قرار بإقالة الوزيرة وفتح تحقيق فوري معها، فابتلعوا الطعم ونجحت التجربة بإطفاء فورانه، وللعلم فإن الدبيبة والمنقوش يحملان الجنسية الأمريكية.
ما يثير الاستغراب عند تفقدنا لدور الصحافة الرسمية وكيف تناولت الموضوع نجد تميزها وبراعتها في التضليل بأقلامها المسمومة والمدفوعة الثمن، كأن يخرج علينا مدير إحدى المؤسسات الصحفية ليثرينا بمقال له يتحدث فيه عن لقاء جمعه مع الرئيس الفلسطيني وبأجوبته المطاطية فيما يخص أوسلو، ليقيس عليها موقف شعب بأكمله وليبني عليها مصير شعب قدم الشهداء وشرد ونفي ونكل به لدفاعه عن قضيته دون كل أو ملل متجاهلا حجم التضحيات من أجل استرداد أراضيه المغتصبة وكرامته، ولكي تعرف مدى التملق الذي مارسه تارة من خلال التلميح في مقالته عن خيانة البعض وكأنها الصفة العامة التي اتسم بها الشعب بأكمله، وتارة بالتصريح على لسان أحدهم باستحالة النصر والعودة، إن ما تحمله عباراته الممزوجة بكم الخبث والدعارة الإعلامية، ومحاولة تشتيت الانتباه عن الموضوع الرئيس وتسليط الضوء على محاور تخدم أهدافه المقصودة وتبرير ما حدث وكأنه يتساءل هل من المفترض أن نكون ملكيين أكثر من الملك مع ادعائه بانتمائه وفلسطينيته أكثر من أصحاب القضية.
المثير للاشمئزاز أن من يحسبون على الطبقة المثقفة وينسبون إلى فئة أصحاب الفكر والرأي تجده على شاكلة الجهبذ السابق جهبذ آخر من أدباء عصرهم لا يحركه سوى عرقية مقيتة وعنصرية نتنة تحرك آراءه رغم كونه يكتب عن شعبه وقضاياه ومعاناته فنجده يعلق متسائلا بغباء ليبث سمومه عن رأي ذاك الفصيل وعن موقفه مما حدث وليفترض تواصله وتعامله مع عدوه وإن افترضنا وكان، فهي ضرورة يبيحها واقع مفروض، وكان من الأجدر به أن يوجه السؤال إلى حكومته ورئيسها ويطالبه بإيضاحات.
ويبدو أن الثقافة والفكر يتلاشيان ويفقدان دورهما لتسيطر العصبية أو المصالح لتتحكم في أقلامهم ومن قبلها عقولهم المسيطر عليها من قِبل نعراتهم الفكرية والعصبية لتفقدهم التجرد المطلوب والإخلاص المعهود لأصحاب الرأي الحر والكلمة الصادقة التي تصدح دون خوف أو تردد.
وللإنصاف فإن هناك أقلاما حرة رغم قلتها صدحت بالحق وهاجمت الممارسات الخاطئة وانحراف البوصلة، فهذه الأقلام تستحق جزيل التقدير والعرفان لشجاعتها رغم ما قد تتعرض له من عواقب وأثمان باهظة في زمن كثر فيه الجبناء وندر الشجعان.
خلاصة القول إن للكرسي سطوته وسحره الذي يغشي الأبصار فيدفن ويحور الحقائق ليتلاعب بالعقول والضمائر ويطوع الأشخاص والأقلام لحرف وتشويه الثوابت معينا على الاستمرار في مخططاتهم ثم الادعاء بأنهم براء كبراءة إخوة يوسف من دمه وتآمرهم عليه.
قد يكون في الشعب الفلسطيني سواء على مستوى القيادات أو الأشخاص من أخطا أو أساء التقدير أو حتى خان، فهذا يمثل شعبا يحلم يوما بالعودة إلى وطنه كباقي الشعوب الأخرى ليمارس حقه في الحياة فليسوا ملائكة لكنهم بشر يصيبهم الشغف والقوة ويتصارعون فيما بينهم أحيانا فتغلبهم أهواؤهم أحيانا وتدفعهم عزيمتهم ورغبتهم في الحياة لمواصلة الكفاح والنضال فنحن شعب يحب الحياة بحلوها ومرها ورغم قسوتها وقسوة من حولنا وقد نعيب زماننا والعيب فينا.