أمريكا تعود للسودان بعد غياب لـ3 عقود.. والسبب: منافسة روسيا على النفوذ في البحر الأحمر
أمريكا تعود للسودان مجدداً بعد 3 عقود من الغياب
بعد الإطاحة بالرئيس السوداني السابق عمر البشير عام 2019، ورفع العقوبات الأمريكية عن الخرطوم، برز حجم التنافس الدولي على النفوذ في السودان بشكل كبير، إذ تقع الخرطوم في موقع استراتيجي، وفي منطقة تغلي بالاضطرابات بين القرن الإفريقي والخليج وشمال إفريقيا أيضاً.
وفي أحدث مؤشر على دفء العلاقات مع واشنطن، رست مدمرة تابعة للبحرية الأمريكية على الساحل السوداني المطل على البحر الأحمر يوم الإثنين، وذلك بعد يوم واحد فقط من زيارة فرقاطة روسية لبورتسودان.
ولدى استقباله المدمرة “ونستون تشرشل” في بورتسودان، قال القائم بالأعمال الأمريكي برايان شوكان إن “هذه الزيارة التاريخية تُظهر دعم الولايات المتحدة للانتقال الديمقراطي في السودان، ورغبتنا في عهد جديد من التعاون والشراكة مع السودان”.
وبدأت بالسودان في 21 أغسطس/آب 2019، فترة انتقالية تستمر 53 شهراً تنتهي بإجراء انتخابات مطلع 2024، ويتقاسم خلالها السلطة كل من الجيش وقوى مدنية.
فيما قال الأدميرال مايكل باز، مدير الشؤون البحرية في الأسطول السادس الأمريكي: “جنباً إلى جنب مع حكومة السودان الانتقالية، بقيادة مدنيين، نسعى لبناء شراكة بين قواتنا المسلحة”، وفق بيان للسفارة. وأضاف باز: “في الأشهر القليلة الماضية فقط، شهدنا بالفعل زيادة في الارتباطات العسكرية”.
أما قائد قاعدة بورتسودان البحرية، العقيد ركن بحري إبراهيم حماد، فقال خلال مراسم الاستقبال، إن هذه الزيارة جاءت بعد انقطاع دام أكثر من 30 عاماً، ولها أهمية كبيرة، وتمثل عودة للعلاقات الأمريكية السودانية فيما يتعلق بزيارات السفن الحربية.
وفي 24 فبراير/شباط الماضي، استقبلت بورتسودان سفينة النقل السريع “كارسون سيتي”، وكانت “أول سفينة تابعة للبحرية الأمريكية تصل السودان منذ عقود”، وفق بيان للسفارة الأمريكية.
المنافسة على السودان تشتد بين أمريكا وروسيا
وقبل يوم واحد من وصول السفينة الأمريكية “ونستون تشرشل”، استقبل السودان، الأحد، الفرقاطة الروسية “أدميرال غريغوروفيتش”، وهي الأولى من نوعها التي تصل إلى السودان. وقال الجيش السوداني، في بيان الأحد، إن “زيارة السفينة الروسية تعتبر واحداً من النشاطات المعتادة في العلاقات الدبلوماسية بين القوى البحرية العالمية وتقليداً متبعاً بين الجيوش”.
وأضاف أن هذه السفينة هي أول سفينة حربية روسية تدخل ميناء بورتسودان في تاريخ روسيا الحديث. وذكرت وكالة الأنباء السودانية أن قيادة السفينة الروسية أجرت مباحثات مع المسؤولين السودانيين حول تنفيذ الاتفاق بين موسكو والخرطوم بشأن إقامة نقطة دعم لوجيستي للبحرية الروسية في السودان.
وتعتزم روسيا إقامة قاعدة بحرية هناك تتمتع بإمكانية السماح برسو السفن التي تعمل بالطاقة النووية، وأوردت وكالة إنترفاكس للأنباء أن الفرقاطة الأدميرال جريجوروفيتش أصبحت أول سفينة حربية روسية تدخل الميناء يوم الأحد.
ويعد اهتمام روسيا بالسودان تأكيداً منها على “أحقيتها في المنطقة من خلال اتفاقية سابقة مع الخرطوم لإنشاء قاعدة عسكرية لوجستية”. ففي 2007، لم تتحمس موسكو لطلب الرئيس السوداني آنذاك، عمر البشير (1989 – 2019)، إنشاء قاعدة عسكرية روسية في السودان.
وسعت الخرطوم إلى تطوير قدراتها العسكرية عبر تعاونها مع موسكو، في ظل حصار أمريكي؛ جراء عقوبات فرضتها واشنطن على السودان، بالإضافة إلى إدراجه في قائمة ما تعتبرها “دولاً راعية للإرهاب” (1993- 2020).
لكن موسكو نشطت مؤخراً في الحديث عن اتفاقية وقعتها مع الخرطوم لإقامة قاعدة عسكرية روسية شرقي السودان على البحر الأحمر، وفي مايو/أيار 2019، كشفت موسكو عن بنود اتفاقية مع الخرطوم، لتسهيل دخول السفن الحربية إلى موانئ البلدين، بعد أن دخلت حيز التنفيذ.
وصادق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، على إنشاء قاعدة بحرية روسية في السودان، قادرة على استيعاب سفن تعمل بالطاقة النووية. وبعد ثلاثة أيام، قال رئيس الأركان السوداني الفريق ركن محمد عثمان الحسين: “حتى الآن ليس لدينا الاتفاق الكامل مع روسيا حول إنشاء قاعدة بحرية في البحر الأحمر، لكن التعاون العسكري بيننا ممتد”.
لكن في 9 ديسمبر/كانون الأول 2020، نشرت الجريدة الرسمية الروسية نص اتفاقية بين روسيا والسودان حول إقامة قاعدة تموين وصيانة للبحرية الروسية على البحر الأحمر، بهدف “تعزيز السلام والأمن في المنطقة”، حسب مقدمة الاتفاقية.
ونصت الاتفاقية على إقامة منشأة بحرية روسية قادرة على استقبال سفن حربية تعمل بالطاقة النووية، واستيعاب 300 عسكري ومدني. ويمكن لهذه القاعدة استقبال أربع سفن حربية في وقت واحد، وستستخدم في عمليات الإصلاح وإعادة الإمداد والتموين لأفراد أطقم السفن الروسية.
أمريكا تحاول قطع الطريق على روسيا التي أتت مبكراً، فهل تنجح؟
شرعت الولايات المتحدة والسودان مؤخراً في إعادة وصل العلاقات السياسية والاقتصادية، ورفعت واشنطن اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب في أواخر العام الماضي. وكان السودان متهماً في عهد البشير بتوفير الملاذ للجماعات الجهادية التي تصنفها واشنطن كإرهابية.
ووصول السفينتين الأمريكيتين إلى السودان جاء على خلفية تحسن العلاقات بين البلدين مؤخراً بشكل ملحوظ، بالإضافة إلى مسارعة واشنطن بكسب أكبر نفوذ في السودان قبل أن تتوسع روسيا هناك. ففي 25 يناير/كانون الثاني الماضي، وصل نائب قائد القيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا “أفريكوم”، أندرو يونغ، إلى الخرطوم، وبحث سبل تعزيز العلاقات العسكرية بين البلدين.
وهذه أول زيارة لمسؤول عسكري أمريكي للخرطوم منذ أن رفعت واشنطن في 23 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عقوبات اقتصادية وسياسية كانت فرضتها على السودان، لوجوده بقائمة “الدول الراعية للإرهاب”.
وكان وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، قد أكد الشهر الماضي التزام واشنطن بدعم الحكومة المدنية في السودان، بينما رفعت شركات أمريكية هذا البلد من قائمة الحظر الذي كانت تفرضه على مبيعاتها له لسنوات. وأعرب بلينكن في اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء السوداني، عبدالله حمدوك، عن “التزام الولايات المتحدة الراسخ بدعم الحكومة الانتقالية ذات القيادة المدنية بالبلاد، ودعم التحول الديمقراطي بالبلاد والإيفاء بكامل استحقاقاته، وخصوصاً الدعم في المجال الاقتصادي، وتعزيز التعاون غير المشروط في جميع المجالات”.
ووفق الخبير الاستراتيجي والعسكري، اللواء ركن متقاعد أمين مجذوب، فإن زيارة السفينتين الأمريكيتين في هذا التوقيت للسودان تأتي في إطارات التفاهمات بين القيادة العسكرية السودانية وقيادة “أفريكوم”، خلال الزيارة الأخيرة للخرطوم.
واستدرك مجذوب، في حديث للأناضول، أن هذه “الزيارات هي رد على المركز اللوجستي الروسي الذي أجازه البرلمان الروسي، وحتى الآن لم يتم الرد على هذا الأمر من السلطات السودانية”. ورأى أن وصول السفينة الروسية “الأدميرال غريغوروفيتش” إلى ميناء بورتسودان مخالف لعادات الزيارات؛ فالسفن تأتي للتدريب أو التزود بالوقود، لكن السفينة الروسية مزودة بأجهزة استطلاع وإمكانية التصوير.
وتابع: “هذا الأمر يوضح أن الروس لديهم شكوك حول وصول الأمريكان لساحل البحر الأحمر، وإمكانية أن يقيموا قواعد عسكرية بالتنسيق مع السلطات السودانية”.
“السودان يتحول لساحة تنافس بين القوى العظمى رغماً عنه”
في السياق ذاته، يقول مجذوب إن “السودان، سواء رضي أم أبى، أصبح ساحة تنافس ومسرح عمليات للقوى العظمى، أمريكا وروسيا، وستكون الصين أيضاً في هذا الصراع لوجودها في الجزر الإريترية بالقرب من ميناء بورتسودان”.
وزاد بأن الصراع سيكون أيضاً على الموارد السودانية والتحالفات القادمة مع الحكومة الانتقالية. واستطرد: “وهذا يتطلب من الحكومة الانتقالية، بكل مكوناتها، وضع مصلحة السودان نصب أعينها، حتى لا تجد نفسها أمام الأمر الواقع”.
ويعد السودان إحدى الدول المطلة على البحر الأحمر بساحل يمتد على مسافة تتجاوز 700 كلم، الذي يطل عليه كل من مصر وجيبوتي والصومال وإريتريا والسعودية والأردن واليمن.
ويعكس الصراع الأمريكي الروسي على النفوذ في السودان رغبة واشنطن وموسكو في تعزيز نفوذهما في القارة الإفريقية، التي تمثل مصدراً كبيراً للثروات الطبيعية وسوقاً ضخماً للسلاح.
كما يقع السودان في منطقة تتسم بالاضطرابات بين القرن الإفريقي والخليج وشمال إفريقيا، ما يمثل أهمية لمساعي كل من واشنطن وموسكو للحفاظ على مصالحهما في تلك المناطق الحيوية.
البحر الأحمر.. ليس سباقاً روسياً وأمريكياً فحسب
وقبل الإطاحة بالبشير، وقَّعت كل من قطر وتركيا اتفاقات لإعادة تأهيل ميناء سواكن القريب على البحر الأحمر. ويُشكِّل البحر الأحمر أحد المسارات الحيوية للتجارة العالمية، إذ يمر ما يقرب من 10% من سلع العالم عبره.
ويربط بين منتجي الطاقة في الخليج والأسواق الغربية وصناعات التصدير في شمال شرق آسيا، وهذا هو السبب الذي يجعل القوى العظمى في المنطقة تعتبر نقاط الدخول إلى هذا البحر استراتيجية.
وقد استقطبت المنطقة مزيداً من الاهتمام من الخارج منذ تَدهور استقرارها بسبب قُرب الحرب الأهلية اليمنية وزيادة القرصنة في الصومال. ونتيجة لذلك، نشرت عدة دول قواتها العسكرية في المنطقة، وخاصة في جيبوتي، بالقرب من مضيق باب المندب.
ومنذ نجاح التدخل الروسي في الحرب السورية، تطورت العلاقات بين روسيا والدول المطلة على البحر الأحمر مع العديد من الآفاق الواعدة للسماح لموسكو قريباً بنشر قوات في المنطقة. ومن أجل العودة إلى البحر الأحمر، اعتمدت موسكو على جاذبية قدراتها العسكرية وأجهزتها الأمنية. وعزَّز نجاح الحملة الروسية لحماية حليفها السوري من “مصداقية” موسكو باعتبارها “ضامناً للأمن”، حتى بالنسبة لدول خارج نطاق ما بعد الاتحاد السوفييتي.
وبالنسبة للسودان، تتحدث تقارير عن أن روسيا ستقدم للخرطوم مجاناً أسلحة ومعدات عسكرية بهدف تنظيم الدفاع الجوي للمركز اللوجستي المقترح، مقابل إنشاء القاعدة الروسية على ساحل البحر الأحمر. فهل ستسمح واشنطن بذلك، أم أنَّ الأوان قد فاتها في هذه المعركة شديدة المنافسة؟