أنقذه السود واليهود لضمان مقاعدهم.. تاريخ المجمع الانتخابي الأمريكي الذي لا مثيل له في العالم

في 18 سبتمبر/أيلول 1969، صوَّت مجلس النواب الأمريكي بأغلبية ساحقة، 338 صوتاً مقابل 70، لصالح إرسال تعديل دستوري إلى مجلس الشيوخ من شأنه حل المجمع الانتخابي، الذي يمثل النظام غير المباشر الذي ينتخب الأمريكيون من خلاله الرئيس ونائبه.

ولكن ما هو المجمع الانتخابي ولماذا لديه القدرة على قلب نتائج الانتخابات؟

المجمع الانتخابي اختراع أمريكي صِرف لا يوجد له مثيل في أي نظام ديمقراطي آخر حول العالم، ويعود تاريخ تأسيسه إلى المؤتمر الدستوري الذي انعقد عقب استقلال الولايات المتحدة الأمريكية عن التاج البريطاني وكان ذلك عام 1787.

فالمجتمعون اختلفوا حول إذا ما كان الكونغرس أو الولايات هم أصحاب الحق في اختيار رئيس الدولة التي اعتمدت النظام الفيدرالي، كما لم يستطيعوا التوافق حول ما إذا كانت الولايات جميعها يجب أن تتمتع بثقل متساوٍ أم أن الولايات الأكثر كثافة سكانية يجب أن تحظى بثقل أكبر؟ كما لم يتفقوا حول ما إذا كان اختيار كل ولاية للرئيس يكون من خلال المشرعين المنتخبين في الولاية أم من خلال أصوات جميع الناخبين.

وتم الاتفاق على اختيار عدد صغير من المواطنين يطلق عليهم “المنتخبون” عن كل ولاية ويجتمعون معاً لاتخاذ قرار الرئاسة بشكل جماعي، ولا يتدخل الكونغرس إلا إذا فشل “المنتخبون” في التوصل لقرار بالأغلبية، ويعادل عدد “المنتخبون” في كل ولاية عدد ممثليها في مجلسي الشيوخ والنواب، وهو ما يعني أن الولايات الصغيرة تحظى بتمثيل أكبر من عدد سكانها لكنه أقل من تمثيل الولايات الكبيرة.

وفي هذا التقرير تعداد للرؤساء الخمسة الذين ربحوا التصويت الشعبي ولكن خسروا الانتخابات، منهم جورج بوش الابن ودونالد ترامب.

عام 1969 كاد يشهد إلغاء المجمع الانتخابي

يقول جيسي ويغمان، عضو هيئة تحرير صحيفة The New York Times الأمريكية ومؤلف كتاب Let The People Pick the President: The Case for Abolishing The Electoral College (دعوا الناس يختاروا الرئيس: دفوع إلغاء المجمع الانتخابي): “كانت هذه هي المرة الوحيدة في التاريخ الأمريكي التي توافق فيها إحدى غرفتي البرلمان فعلاً على تعديلٍ لإلغاء المجمع الانتخابي”.

عَكَسَ تصويت مجلس النواب، الذي جاء عقب انتخابات رئاسية متقاربة بشدة، الشعور الوطني تجاه إلغاء نظامٍ انتخابي سمح لأحد المرشحين بالفوز بالرئاسة على الرغم من خسارته للتصويت الشعبي.

ووجد استطلاع رأي لمؤسسة غالوب عام 1968، أنَّ 80% من الأمريكيين يعتقدون أنَّه حان الوقت لانتخاب أعلى منصب في البلاد من خلال التصويت الشعبي المباشر، بحسب ما نشرته شبكة History الأمريكية.

لكن بعد عام، وُلِد مشروع قانون مجلس الشيوخ الذي كان من شأنه إنهاء المجمع الانتخابي، وعرقلته مجموعة من المشرِّعين الجنوبيين العازمين على الحفاظ على قبضة الأغلبية على السلطة الانتخابية من خلال إطالة أمد النقاش بشأنه.

 وعلى الرغم من الدعم الذي حظي به التعديل من الحزبين– الجمهوري والديمقراطي- في كلٍّ من الولايات الكبيرة والصغيرة، عجز مجلس الشيوخ عن كسر حالة المماطلة في النقاشات هذه بفارق 5 أصوات.

شخص واحد، صوت واحد

تعرَّض المجمع الانتخابي لانتقادات قوية في الستينيات كجزء من محاولة أوسع لنيل حقوق التصويت كاملةً للأمريكيين السود، ﻻ سيما في جنوب البلاد.

وفي حين حارب محامو حقوق الإنسان الممارسات التمييزية مثل ضرائب التصويت التي منعت قدراً غير متناسب من ذوي البشرة السوداء من التصويت، كان آخرون يواجهون ظاهرةً أقل شهرة تُسمَّى “سوء التخصيص”.

يشير سوء التخصيص إلى الممارسة– التي لا تقتصر على الولايات الجنوبية- المتمثلة في تخصيص أعداد غير متساوية من النواب للمجالس التشريعية بالولايات على أساس توزيع السكان في الولاية.

نظرياً، يجب أن يكون العدد الأكبر من النواب في المجلس التشريعي لأكثر المناطق سكاناً في كل ولاية، لكن لم يكن الوضع كذلك من الناحية العملية.

فبدءاً من عشرينيات القرن الماضي، غمرت موجة من ذوي البشرة السوداء الريفيين المدن، في الشمال والجنوب، لكن الكثير من الولايات لم تكلِّف نفسها عناء تحديث تقسيمها للنواب بما يعكس هذا التغيُّر الديموغرافي.

وفي المقابل، استمرت ولايات مثل تينيسي وجورجيا وألاباما– وأيضاً فيرمونت وكاليفورنيا- في تخصيص عدد قليل جداً من النواب للمراكز الحضرية وعدد كبير جداً للمناطق الريفية.

في تينيسي على سبيل المثال، كان هناك نائب لكل 3800 ناخب ريفي في الجزء الشرقي من الولاية، مقابل نائب واحد لكل 70 ألف ناخب في مدن الولاية مثل ناشفيل وممفيس.

قرارات المحكمة العليا تدعم مبدأ شخص واحد، صوت واحد

كانت النتيجة تخصيص مزيد من السلطة السياسية للناخبين الريفيين البِيض في معظمهم، وسلطة سياسية أقل لناخبي المدينة الذين كانوا أكثر احتمالاً من ذوي البشرة السوداء.

لكنَّ المحكمة العليا فكّكت، من خلال سلسلة من القرارات التاريخية في مطلع الستينيات، هذه الممارسة واسعة الانتشار لسوء التخصيص وطرحت مكانها مبدأً ديمقراطياً جديداً: شخص واحد، صوت واحد.

حدَّدت المحكمة العليا أنَّ عدم المساواة السياسية والعِرقية هي في صميم سوء التخصيص، وهو النظام الذي جعل وزن صوت شخص ما، أكبر من صوت شخص آخر.

وبما أنَّ حتى أقل الولايات سكاناً كانت تضمن لنفسها وجود 3 ممثلين في المجمع الانتخابي، كان المجمع الانتخابي يمثل نظاماً غير متوازن يتمتع فيه الناخبون في الولايات الأصغر بسلطة سياسية أكبر من نظرائهم في الولايات الأكبر.

ليس هذا وحسب، بل أيضاً يعني نظام “الفائز يحصل على كل شيء” –الذي كانت الولايات فيه تُوجِّه كل ممثليها في المجمع الانتخابي لصالح المرشح الذي يفوز في التصويت الشعبي على مستوى الولاية- أنَّ الناخبين في حفنة من “الولايات المتأرجحة” يمكن أن يُقرِّروا نتيجة الانتخابات.

الرجل الذي يقف خلف التعديل

كان بيرتش بايه عضواً ديمقراطياً شاباً بمجلس الشيوخ عن ولاية إنديانا، انتُخِب للكونغرس لأول مرة عام 1963. ويقول ويغمان إنَّه حين تقاعد أحد السيناتورات الأكبر، ورث بايه ما اعتقد آنذاك أنَّها مهمة “خاملة”، وهي رئاسة اللجنة الفرعية المعنية بالتعديلات الدستورية ضمن اللجنة القضائية بمجلس الشيوخ.

وما كان أحد ليتخيَّل ما سيحدث بعد ذلك. فبعد 53 يوماً من تولي بايه منصبه في اللجنة الفرعية، اغتيل الرئيس جون كينيدي في مدينة دالاس. أثار موت كينيدي الصادم تساؤلات مهمة بشأن ما يقوله، أو لا يقوله، الدستور حيال عملية الخلافة الرئاسية. وبعد أقل من شهر على الاغتيال، قدَّم بايه مشروع قانون لتعديل الدستور من أجل توفير قواعد واضحة بخصوص مَن يتولى المسؤولية في حال عجز أو لم يستطع الرئيس ونائب الرئيس أداء مهامهما. ودخل التعديل الخامس والعشرون حيز التنفيذ عام 1967 بعد نيل موافقة مجلسي النواب والشيوخ.

لفت عمل بايه الماهر للحصول على دعم الحزبين للتعديل الخامس والعشرين أنظار الرئيس ليندون جونسون، الذي كلَّف السيناتور الشاب بالتعامل مع المجمع الانتخابي.

وفي خطابٍ أمام الجلسة العامة لمجلس الشيوخ، قال بايه لزملائه إنَّ محاولة إصلاح المجمع الانتخابي من خلال تحسينات بسيطة ومواءمات “ستكون أشبه بتغيير الأجزاء المزعجة والخطيرة بمحرك السيارة على نحوٍ لا يجعلها أقل إزعاجاً أو خطورة. ما نحن ربما بحاجة إليه هو محرك جديد، لأنَّنا في عصرٍ جديد”.

وحاجج بأنَّ الحل الوحيد العادل حقاً هو التصويت الشعبي الوطني –شخص واحد، صوت واحد- وهكذا بدأ بايه العملية الطويلة للحصول على الدعم التشريعي لما كان يأمل أن يصبح ثاني تعديلاته الدستورية.

انتخابات 1968 الفوضوية

ربما ظلَّت قضية المجمع الانتخابي مسألة سياسية محددة لولا كارثة انتخابات الرئاسة التي جرت في عام 1968.

كاد مرشح حزب ثالث مؤيد للفصل العنصري، وهو جورج والاس حاكم ولاية ألاباما، أن يعرقل الانتخابات عن طريق سحب الأصوات الانتخابية من اثنين من مُرشحي الحزب الرئيسي، وهما الجمهوري ريتشارد نيكسون والديمقراطي هيوبرت همفري.

لو كان والاس نجح في حرمان كلٍّ من نيكسون وهومفري من الحصول على أغلبية الأصوات الانتخابية، لكانت الانتخابات قد انتقلت إلى مجلس النواب الأمريكي، الذي جادل ويغمان بأنَّ نظامه أقل ديمقراطية من المجمع الانتخابي؛ إذ تحصل كل ولاية على صوتٍ واحدٍ في انتخاب الرئيس، بصرف النظر عما إذا كانت الولاية صغيرة مثل رود آيلاند، أو ضخمة مثل كاليفورنيا.

وأيضاً، يُكلَّف مجلس النواب بالاختيار من بين أكثر ثلاثة أعضاء حصلوا على أصوات في الانتخابات، لهذا كان والاس سيبقى في السباق الانتخابي مع إمكانية استخدام دوره المُفسد، لمطالبة الأطراف الأخرى بتقديم تنازلات.

لم يتحقق هذا السيناريو، لأن نيكسون تمكَّن وقتها من تحقيق فوز انتخابي بأضيق الفوارق. ولكن حتى إمكانية طرح الانتخابات على مجلس النواب كانت بمثابة إنذار لأولئك الذين يسعون إلى إلغاء المجمع الانتخابي.

يقول ويغمان: “حين بدأ الأمريكيون إدراك كم الفوضى التي قد تحدثمن جراء هذا، شعروا بالذعر”.

كان هذا هو الوقت الذي سجلت فيه مؤسسة غالوب موافقة بنسبة 80% لإلغاء المجمع الانتخابي، وأبدت طائفة عريضة من الجماعات السياسية البارزة تأييدها تعديل بايه: نقابة المحامين الأمريكية، والغرفة التجارية، والاتحاد العمالي الأمريكي، ومؤسسة رابطة الناخبات، ومؤسسات أخرى.

بعد التصويت الحاسم لمجلس النواب على إحالة تعديل بايه الدستوري إلى مجلس الشيوخ في سبتمبر/أيلول عام 1969، أضاف الرئيس نيكسون مطالبته بالعمل على القانون بشكلٍ عاجل، قائلاً: “ما لم يحذُ مجلس الشيوخ حذو مجلس النواب، ستضيع كل فرصة للإصلاح هذا العام، وربما لسنواتٍ قادمة”.

ثورموند يكسب ضغط السود واليهود للإبقاء على المجمع

استغرق مجلس الشيوخ عاماً آخر للتصويت على التعديل الدستوري المقترح لانتخاب الرئيس ونائبه عن طريق تصويت شعبي وطني.

ويرجع سبب التأخير إلى نشوب معركة حزبية مطولة بين أول اثنين من مرشحي نيكسون للمحكمة العليا. وعندما حان الوقت أخيراً للشروع في التصويت على تعديل بايه الدستوري، تعطَّلت تلك الحركة التي حظيت بدعم واسع من الحزبين قبل عامٍ.

إذ عطَّل حفنة من المشرعيين الجنوبيين تحت قيادة ستروم ثورموند من ولاية كارولينا الجنوبية مشروع القانون. بمعنى أنهم وقفوا وتحدثوا في قاعة مجلس الشيوخ لساعاتٍ بهدف منع التصويت على التعديل.

لماذا كان “الحزب الديمقراطي الجمهوري” عازماً للغاية على الإبقاء على المجمع الانتخابي؟ يبدو أن التمييز العنصري كان يلعب دوراً في هذا.

كانت الولايات الجنوبية مثل ولاية كالورينا لا تزال تسكنها الأغلبية البيضاء في أواخر الستينيات. وكان المجمع الانتخابي، الذي يعمل بنظام الفائز يحصل على كل شيء، يضمن أنَّ نسبة تصويت البيض ستلغي نسبة تصويت السود في الجنوب.

يقول ويغمان: “كان (ثورموند وحلفاؤه) يعرفون أنه إذا استطاع الناخبون من ذوي البشرة السوداء التصويت على قدم المساواة مع البيض، وهو ما سيحدث في ظل العمل بنظام التصويت الشعبي، فسيخسرون تلك الميزة”.

واستطرد قائلاً: “بالنسبة لهم، كان إنقاذ المجمع الانتخابي يحمي مكانهم في التسلسل الهرمي العرقي الذي أوجده أسلافهم من العبيد”.

يعلم تورموند أنَّ ما تسبب به من مماطلة في القضية يمكن أن تُنهيه أغلبية ثلثي أصوات الأعضاء الحاضرين، لذا احتاج إلى عددٍ أكبر من مؤيديه من العنصريين.

يعترف ويغمان بأنَّ ما فعله ثورموند بعد ذلك كان أكثر من “عبقري”، إذ تودد ثورموند إلى الزعماء السود واليهود البارزين في المدن الكبرى، مثل مدينة نيويورك.

بينما كان لدى السود في الجنوب تأثير سياسي قليل نسبياً في الانتخابات الرئاسية، كان الوضع عكس ذلك في الشمال. ربما كانت نيويورك أهم ولاية متأرجحة في ذلك الوقت، ولم يكن من الممكن السيطرة على الولاية دون جذب أحياء مدينة نيويورك.

إذا كان المرشح يريد الفوز بتلك الأحياء، فعليه الحصول على دعم مجتمعات السود واليهود التي تشكّل أكبر الأقليات العرقية أو الإثنية (الثقافية) في المدينة. وذلك يمنح قادة السود واليهود في مدينة نيويورك مقعداً على الطاولة وصوتاً في صنع سياسات الولاية والسياسات الوطنية.

أرسل ثورموند برقيات شخصية إلى الزعماء السود واليهود في نيويورك وشيكاغو وديترويت، أوضح فيها أنّ التصويت الشعبي المباشر سيقوِّض نفوذهم السياسي، لأنه إذا لم تعد الكتل التصويتية للأقليات قادرة على ضمان فوز انتخابي بنظام “الفائز يحصل على كل شيء”، فإنهم سيخاطرون بفقدان مقاعدهم على الطاولة.

ومما أدهش بايه أنّ مجموعة من أعضاء جماعة الضغط التابعة للجمعية الوطنية للنهوض بالملونين NAACP جاءت إلى مكتبه في مجلس الشيوخ عام 1970 وطلبت منه سحب التعديل.

وذكر بايه في مقابلة أُجريت معه عام 2009، أنه قال لهم: “لقد بذلت قصارى جهدي كي تحصلوا أنتم وناخبوكم على انتخابات تستند إلى مبدأ شخص واحد، صوت واحد. والآن تخبرونني بأنكم تريدون الإبقاء على الأصوات كافة؟ اخرجوا من مكتبي ولا تعودوا”.

لكن أعضاء جماعة الضغط كانوا قد حسموا أمرهم.

كان بايه قد أعاد طرح التعديل الدستوري بخصوص المجمع الانتخابي خمس مرات أخرى خلال العقد التالي. وكانت المرة الوحيدة التي طُرح فيها للتصويت الكامل في مجلس الشيوخ في عام 1979، حين حصل على 51 صوتاً، أي أقل بـ67 صوتاً من الأغلبية الساحقة اللازمة لتمرير التعديلات الدستورية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى