إقبال كبير على سفارات أوروبا وأمريكا وتركيا في أعقاب انهيار الليرة.. هل يستعد اللبنانيون لموجة جديدة من الهجرة؟

تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي في لبنان بات يشكل أزمة لكثير من المواطنين الذين تضرروا في أعمالهم الخاصة والوظيفية على حد سواء؛ وهو ما دفع كثيراً منهم إلى التفكير في السفر أو الهجرة إلى بلد آخر.

كثير من اللبنانيين يُجمعون على صعوبة الوضع الراهن وعدم القدرة على الاستمرار، فهل يدخل لبنان مرحلة جديدة من الهجرة الجماعية؟

الأمر ليس جديداً على اللبنانيين، فقد مرت على لبنان عدة أحداث كبرى منذ أن تأسست الجمهورية، دفعت اللبنانيين إلى الهجرة الجماعية، وإن كانت الأوضاع والظروف الحالية تختلف كثيراً عما سبق، أنها قد تكون دافعاً لدى البعض للخروج بحثاً عن لقمة العيش.

يعتبر البعض أن الهجرة الأولى بدأت مطلع عام 1860، إبان الصراع في متصرفية جبل لبنان بين الدروز والمسيحيين والتي تسببت في أولى الهجرات التي شهدها لبنان، لتستمر مع الحربين العالميتين الأولى والثانية.

واستمرت الهجرات تباعاً حتى كانت أهمها في عام 1975، أي العام الذي اندلعت فيه الحرب الأهلية اللبنانية، ليفتتح معها موجة تلتها موجات استمرت حتى حرب الإلغاء بين ميشال عون وسمير جعجع عام 1988، حيث أدت إلى موجات هجرة جماعية نحو دول أمريكا الشمالية وأستراليا والبرازيل.

كما تسببت أيضاً حروب حزب الله مع إسرائيل في هجرة آلاف العائلات اللبنانية باتجاه إفريقيا وأوروبا الشرقية، لكن مع ما يجري في لبنان من أزمات اقتصادية وانهيار للعملة المحلية مقابل الدولار، فضلاً عن نتائج سلبية متوقعة بعد إقرار قانون قيصر، قد يشكل دافعاً إلى موجة جديدة من الهجرة الجماعية.

إقبال كبير على السفر

رسمياً، يؤكد مصدر مطلع في وزارة الخارجية والمغتربين اللبنانية، أن حالات الهجرة من لبنان لا يمكن توقعها في ظل الحديث عن رغبة 40% من الشباب اللبناني في المغادرة، بسبب انسداد الأفق والتحديات الاقتصادية الصعبة وزيادة نسبة البطالة لحدود تفوق 50% .

ويقول المصدر: “نحن الآن في مرحلة كارثية قد تؤدي إلى فقدان الثروة البشرية الوطنية”، ويؤكد أن معظم محاولات الهجرة الآن باتجاه دول أميريكا الشمالية، وفرنسا وتركيا ودول الخليج، بالإضافة إلى البرازيل، وتشهد سفارات هذه البلدان إقبالاً كبيراً من اللبنانيين؛ للحصول على تأشراتها.

ويرى المصدر أن دولاً أخرى شهدت الواقع نفسه الذي يشهده لبنان، وتم تجاوزه، لكن الهجرة أصبحت تفرض نفسها كخيار وحيد، في ظل تعثُّر الخطط المساهِمة في تثبيت اللبنانيين.

حلم العودة أصبح حلماً بالهجرة

يقول غسان راغب إن لبنان بات مقبرة للطموح والبناء وإن الهجرة هي الحل، ويؤكد غسان، معلم الفيزياء، أنه عازم على الهجرة، ليس فقط بسبب ضعف الراتب أمام غلاء الأسعار، ولكن -كما يقول- “لأن لبنان لم يعد بيئة مهيَّأة للعيش وتربية أطفاله”.

ويسعى غسان للهجرة إلى كندا، ليأخذ زوجته وطفليه؛ أملاً في أن تكون كندا موطناً أفضل، فهو يراها النموذج الجاذب للبنانيين الذين يمتلكون شهادة علمية وخبرات.

وغسان بمرحلة الشباب كان ناشطاً في حراك “14 آذار” بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وقاد حراكاً طلابياً في تيار المستقبل لسنوات وهو مفعم بالطموح والأمل، لكن -كما يقول- “هذه الأحلام تبخرت بعد انتخاب ميشال عون للرئاسة وفشله في إدارة البلاد”.

كان غسان يدرس الماجستير في فرنسا وكان حلم العودة إلى لبنان يراوده، ليساهم في بناء البلد، لكن كما يقول: “ما جرى كان مأساوياً وظالماً، ولم يعد لدينا حلم سوى أن نرحل مع أبنائنا من هذا البلد المفلس والغارق، فالرحيل هو الخيار الضروري؛ للحفاظ على حياة كريمة لمستقبلنا ومستقبل عائلاتنا”.

غسان يبحث عن حياة أفضل

مهندس الكمبيوتر نادلٌ في مطعم

ليس غسان وحده من يفكر في الهجرة، فعمر صيدلاني أيضاً تضطره الظروف إلى التفكير في الهجرة، فهو يبلغ من العمر 23 عاماً وتخرج متخصصاً بعلوم الكمبيوتر في الجامعة اللبنانية الدولية، وكان ينوي افتتاح شركة متخصصة ليقوم من خلالها بتحقيق قفزات مهمة في مجاله، لكن كما يقول: “تبخر الحلم في هذا البلد وقررت الهجرة عند أول فرصة”.

يقول عمر إنه يضطر اليوم إلى العمل نادلاً لتقديم الطعام بأحد مطاعم بيروت؛ ليتمكن من الإنفاق على نفسه في ظل صعوبة الظروف، ويعزو الصيدلاني أسباب سعيه للهجرة إلى صعوبة إيجاد عمل في لبنان يتناسب مع مستوى تعليمه وطموحه.

الصيدلاني عمر

واتهم أصحابَ الشركات في لبنان بأنهم يمارسون شيئاً من ابتزاز الخريجين الجدد؛ ليقبلوا برواتب قليلة، وهذا الوضع لن يلبي طموحه بامتلاك بيت أو سيارة أو شيء آخر.

ويرفض عمر وصف قراره الهجرة بأنه هروب من الواقع، ويرى أن قراره لا ينتقص من حبه لوطنه، وأن مساهمته في بناء البلد لا تعني البقاء بحالة الضعف والاستسلام للظروف، وأن مستقبل لبنان ليس مرتبطاً ببقاء اللبنانيين  في هذا البلد.

واتهم عمَر الطبقة السياسية بتدمير البلاد ثم يطالبون الناس بالبقاء معهم في السفينة الغارقة، ويقول: “البقاء في لبنان سيكون انتحاراً، لكني سوف أعود بعد عدة سنوات؛ لاستعادة دوري في البناء المطلوب للدولة والوطن”.

أبحث عن تعليم أفضل

على التوازي، يروي ناصر ذوق كيف فكر في الخروج من لبنان -يعمل مستشار تواصل- تعززت الفكرة لديه ولدى زوجته بعد ولادة طفلتهما، فهو يرى أن المناهج التربوية والتعليمية في لبنان غير مؤهلة لتأسيس جيل يمزج التعليم الحديث مع القيم التي تعطيها المؤسسة التعليمية.

يؤكد ذوق أنه وجيله تعايَش مع الثغرات في هذا البلد بدءاً من نسبة التلوث البيئي الأعلى عالمياً ووصولاً إلى انتشار السرطان بصورة مفزعة، ويُرجع سبب قراره الهجرة، إلى سعيه لتوفير تعليم جيد لابنته، في ظل المناهج التي تهدف للربح وتعمل على إعداد مادة علمية حقيقية.

وشكا ذوق من تفشي الصراعات الطائفية التي وصلت إلى تعيينات المعلمين حسب الانتماء الطائفي وليس الكفاءة، وما وصفه بالذل الذي يعانيه المواطن ليتمكن من دخول المستشفى حسب الانتماء السياسي .

وقال: “نريد دولةً تحترم مستقبل أولادنا وترفع سقف قدراتنا، فأوقاتنا تُهدر في أروقة الإدارات الحكومية لتنفيذ معاملة أو تصديق ورقة مع موظفين يُعيَّنون بالواسطة” .

ويؤكد ذوق وزوجته نور أن لبنان ليس البلد الطبيعي للعيش، فهو يسير فقط لخدمة بعض اللصوص والشبِّيحة من مختلف الطوائف، على حد وصفهما، ويأمل الكثير من ثورة 17 تشرين الأول (أكتوبر)، وكان ممن لا يفارقون ساحات التظاهرات، وكانت طموحات الهجرة لعائلته قد توقفت عند ليلة الثورة الأولى، لكن سرعان ما عاد المطوح يفرض نفسه.

ارتفاع وتيرة العنف في لبنان / الأناضول

أُغلق مصنعه وسوف يهاجر

على جانب يبدو مختلفاً في قصته، لكنه متشابه في مأساته، يقول جورج إنه كان يملك شركة لصناعة الملبوسات المحلية، وعاش في ازدهار لم يعرفه لبنان إلا إبان فترة وجود رفيق الحريري.

يرى أن الراحل رفيق الحريري هو الأب الذي منح لبنان عاملَين أساسيين؛ أولهما الاستقرار برعايته لاتفاق الطائف، والثاني هو المال عبر جلب الاستثمارات وتشجيع الشركات الناشئة.

بدأ الواقع، في رأي جورج، بالتدهور بعد اغتيال الحريري، فهربت الأموال الاستثمارية الخارجية التي كانت تأتي مع السياح، الذين بلغ تعدادهم بعد الاستقرار الذي شهده لبنان، نحو مليون سائح، معظمهم من دول الخليج.

ويستدرك: “لكنها رحلت، بسبب خطاب العداء تجاه الدول العربية، لأن الفريق المستقوي بالسلاح قرر الانحياز إلى إيران وتحويل لبنان إلى جزيرة منعزلة تخدم مشروع التوسع الإيراني والحروب المتنقلة”.

وهو ما دفع جورج إلى إغلاق شركته، بسبب إفلاس قطاع الصناعة وتوقُّف التصدير، ويقول: “لقد أكلت المصارف ما بقي من أموالنا، وبقينا بلا مال ولا عمل ولا معيل”؛ لذا هو عازم على أن يرحل من لبنان مع أول تشغيل للمطارات، وأنه مستعد حتى للعمل حارساً في أي دولة تستقبله هو وزوجته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى