اتفاق عسكري بين إثيوبيا وروسيا.. فهل تخلت موسكو عن القاهرة والخرطوم في أزمة السد؟
قبل الدخول في تفاصيل ما يعنيه توقيع اتفاقيات عسكرية بين إثيوبيا وروسيا في هذا التوقيت بالنسبة للقضية الأهم للدول الثلاث (إثيوبيا ومصر والسودان)، وهي قضية سد النهضة، من المهم التذكير بأن أي تطور أو حدث تشهده العواصم الثلاث حالياً يصبّ بشكل مباشر في تلك القضية ولا يتم تفسيره إلا من منظورها.
فبعد أن بدأت إثيوبيا في الملء الثاني للسد كما كان مخططاً من جانبها، خلال يوليو/تموز الجاري، وعدم صدور موقف دولي كانت تتمناه مصر والسودان من جلسة مجلس الأمن، التي انعقدت الخميس 8 يوليو/تموز، بات واضحاً أن قطار قضية السد يتجه بصورة متسارعة نحو الصدام، بحسب أغلب التحليلات الصادرة، سواء من الدول الثلاث أو من خارجها.
اتفاقيات عسكرية بين روسيا وإثيوبيا
الإعلان عن الاتفاقيات العسكرية جاء الإثنين 12 يوليو/تموز، عن طريق الجيش الإثيوبي، الذي قال إن الهدف من توقيع “العديد من الاتفاقيات” مع روسيا هو تعزيز التعاون العسكري بين البلدين.
ونقلت هيئة الإذاعة والتلفزيون الإثيوبية أن توقيع تلك الاتفاقيات جاء في ختام الاجتماع المشترك الـ11 للتعاون التقني العسكري الإثيوبي-الروسي، وقالت وزيرة الدولة الإثيوبية للدفاع، مارثا لويجي، إن الاتفاقية الحالية “ستعزز الصداقة طويلة الأمد بين إثيوبيا وروسيا، وتمكنهما من العمل معاً بشكل أوثق”، مضيفة أن الاتفاق بين البلدين “محوري”، لتحديث قدرة الجيش (الإثيوبي) بالمعرفة والمهارات والتكنولوجيا.
وكانت اللجنة الفنية العسكرية التعاونية المشتركة بين البلدين قد عقدت اجتماعاتها الـ11 في أديس أبابا، وقالت لويجي إن التعاون المشترك مع روسيا قد يتعزز، خاصة بعد المناقشات التي أجراها رئيس الوزراء آبي أحمد مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وأضافت أن الحكومة الروسية قدمت دعماً لإثيوبيا خلال عملية تطبيق القانون في ولاية تيغراي، باعتبارها قضية شأن داخلي، بالإضافة إلى موقفها المؤيد لإثيوبيا في مختلف القضايا والساحات الدولية، ومن ضمنها الانتخابات العامة الإثيوبية التي عُقدت مؤخراً، وسد النهضة، بحسب تقرير لشبكة سبوتنيك الروسية.
حديث الوزيرة الإثيوبية عن “موقف روسيا المؤيد لإثيوبيا في ملف سد النهضة” يحتمل تأويلات عديدة بالطبع، في ظل عدم صدور تصريحات روسية تؤكد هذا الزعم، لا خلال تلك الاجتماعات ولا حتى خلال جلسة مجلس الأمن، التي جاءت كلمة مندوب روسيا فيها -شأنها شأن كلمات مندوبي الدول الكبرى- بعيدة عن اتخاذ مواقف مساندة لأي من طرفي النزاع.
لكن بشكل عام ومنذ خروج النزاع بشأن السد بين مصر وإثيوبيا إلى العلن خلال صيف 2019، سعت روسيا للوساطة بين الجانبين بشكل مباشر، خلال اجتماعات القمة الروسية-الإفريقية، التي استضافها الرئيس فلاديمير بوتين في سوتشي أواخر ذلك العام.
وتكرّر الحديث عن دور روسي محتمل في تقريب وجهات النظر بين أطراف قضية سد النهضة أكثر من مرة، دون أن يصدر عن موسكو تصريحات تؤيد وجهة النظر الإثيوبية أو المصرية-السودانية بشكل مباشر، وإنما جاءت التصريحات دائماً دبلوماسية تدعو إلى التفاوض والوصول لحل سلمي للقضية، وهو نفس موقف الدول الكبرى، التي بات واضحاً أنها لا تريد أن تتورط في مواقف جدية في القضية التي تروج لها إثيوبيا على أنها قضية تنمية، بينما تقول مصر والسودان إنها قضية وجودية.
ماذا عن تصريحات وزيرة خارجية السودان من موسكو؟
لكن على أيه حال كان لافتاً أن يتزامن إعلان إثيوبيا عن توقيع الاتفاقيات العسكرية مع روسيا مع تصريحات لوزيرة الخارجية السودانية، مريم الصادق المهدي، من موسكو، في نفس اليوم (الإثنين 12 يوليو/تموز)، تحدثت فيه عن “اعتقادها بأن روسيا تستطيع إقناع إثيوبيا بتحكيم صوت العقل” فيما يخص أزمة سد النهضة.
فقد قالت المهدي لوكالة سبوتنيك الروسية: “ستشمل مباحثاتي في موسكو الأوضاع في منطقتنا، والتطورات الأخيرة الخاصة بقضية سد النهضة”، مضيفة “المباحثات ستتضمن شرح وتوضيح مواقفنا ووجهة نظرنا في قضية سد النهضة وسلوك إثيوبيا المتعنت تجاهنا، سواء كان في سد النهضة أو في الحدود المشتركة بيننا”.
وأكدت الوزيرة السودانية، التي تزور موسكو حالياً، “يمكن لروسيا بما لديها من علاقات طيبة مع إثيوبيا أن تسعى إلى إقناع الجانب الإثيوبي بتحكيم صوت العقل والوصول إلى اتفاق يضمن مصالح الدول الثلاث، وعدم الإضرار بالسودان كما فعلت في الملء الأول”.
وتابعت الوزيرة السودانية تصريحاتها بالقول إن “السودان يرحب بأي مساع يمكن أن تدعم منهج الحوار والتفاوض لإقناع إثيوبيا بالعمل مع الدول المتشاطئة في النيل، للوصول إلى اتفاق يراعي مصالح الجميع ويدعم جهود الاتحاد الإفريقي، الذي أحال مجلس الأمن الملف له في العام 2020، بغرض الوصول إلى اتفاق قانوني ملزم”.
وتعيد تصريحات الوزيرة السودانية إلى الأذهان تصريحات تبدو متطابقة صدرت عن مصر أيضاً خلال أبريل/نيسان الماضي، بشأن “التعويل على روسيا للتدخل في أزمة سد النهضة المحتدمة مع إثيوبيا”.
وجاءت التصريحات أيضاً على لسان وزير الخارجية المصري سامح شكري، لدى استقباله نظيره الروسي سيرغي لافروف في القاهرة، الإثنين 12 أبريل/نيسان، حيث قال شكري وقتها إن القاهرة “تعول على قدرة روسيا في الدفع نحو وقف الإجراءات الأحادية من جانب إثيوبيا في ملف سد النهضة”.
وبالتالي فإن روسيا ليست غريبة عن أزمة سد النهضة، فقد عرض بوتين بالفعل المساعدة لتقريب وجهات النظر بين القاهرة وأديس أبابا في الملف الشائك، وكان ذلك في أكتوبر/تشرين الأول 2019، خلال القمة الروسية الإفريقية التي عُقدت في مدينة سوتشي الروسية، وشهدت لقاءات مباشرة بين الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، بالإضافة إلى لقاءات بين السيسي وبوتين وآبي أحمد وبوتين تناولت نفس الملف.
ما قصة التعويل على الوساطة الروسية؟
لكن غني عن القول الآن إن روسيا لم تتمكن “من إقناع إثيوبيا بتحكيم صوت العقل”، هذا بفرض أن موسكو حاولت بالفعل، كما هو الحال مع الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت “أكثر نشاطاً” في هذا الملف، إذ رعت واشنطن بالفعل عدة جولات من مفاوضات السد، ووصلت تلك الجولات بالفعل إلى اتفاق قيل إن أديس أبابا وافقت عليه، لكن الوفد الإثيوبي لم يتوجه إلى واشنطن للتوقيع، وكان ذلك في فبراير/شباط 2020، أثناء العام الأخير من رئاسة دونالد ترامب.
ومنذ أن وضعت إثيوبيا حجر الأساس للسد العملاق، قبل عشرة أعوام، بالقرب من الحدود السودانية على منابع النيل الأزرق، الذي يمثل الرافد الأساسي لمياه نهر النيل (شريان الحياة لدولتَي المصب مصر والسودان)، لم تنجح المفاوضات الماراثونية بين الأطراف الثلاثة في التوصل لاتفاق قانوني مُلزِم يحفظ لمصر والسودان حقهما المشروع في مياه النيل.
فالقاهرة والخرطوم لا ترفضان بناء أديس أبابا لسد النهضة من حيث المبدأ، وتؤكد الدولتان طوال الوقت على حق إثيوبيا في التنمية وبناء السد لتوليد الكهرباء، لكنهما في الوقت نفسه تطالبان بأن يكون هناك اتفاق قانوني ملزم بشأن آلية تعبئة خزان السد وتشغيله، بما لا يضر بحقوقهما المائية.
لكن إثيوبيا، من جانبها، ترى أن إعلان المبادئ الذي وقعته الدول الثلاث في الخرطوم في مارس/آذار 2015 يمثل أساساً قانونياً كافياً، ويعطيها الحق في تشييد وتشغيل سد النهضة –وأي سدود أخرى تنوي تشييدها مستقبلاً- دون الحاجة لمزيد من الاتفاقات أو المفاوضات.
ومن هذا المنطلق، تواصل إثيوبيا عملية تشييد السد، التي اكتملت بالفعل بنسبة 80% بحسب أحدث تقارير الأمم المتحدة في هذا الشأن، كما تواصل عملية تعبئة بحيرة التخزين العملاقة خلف السد بشكل أحادي، وهذا ما فعلته في الملء الأول، في أكتوبر/تشرين الأول 2020، والملء الثاني الذي بدأ 5 يوليو/تموز الجاري، ويتوقع أن يكتمل قبل نهاية فصل الأمطار، في أكتوبر/تشرين الأول المقبل، بحسب ما قالته أديس أبابا اليوم الثلاثاء، 13 يوليو/تموز.
هل بات الصدام بشأن السد حتمياً؟
وطبيعي، في ظل هذه الأجواء، أن ترتفع وتيرة الحديث عن “الخيارات المفتوحة”، أو بمعنى مباشر ودقيق “الخيار العسكري” من جانب مصر والسودان، فهل بات الصدام حتمياً بالفعل؟
المؤكد أنه لا يمكن لأحد أن يجزم بأنه يعرف إجابة هذا السؤال بشكل دقيق، فقد عقد مجلس الدفاع والأمن بالسودان، الإثنين 12 يوليو/تموز، اجتماعاً طارئاً بحث خلاله “خيارات” حفظ حقوق بلاده في أزمة سد النهضة، وتقرر عقد اجتماع آخر عاجل للجنة العليا لسد النهضة بمدينة الروصيرص، تعقبه جلسة خاصة لمجلس الأمن والدفاع، دون تحديد مواعيد.
ومدينة الروصيرص تحتضن سداً سودانياً يحمل اسم المدينة، وقريب من سد النهضة، وقال المسؤولون عن إدارة سد الروصيرص إن “وارد المياه من النيل الأزرق قد شهد انخفاضاً بنسبة 50% بالفعل منذ بدأت إثيوبيا الملء الثاني لسد النهضة”، محذرين من أن المزيد من الانخفاض في منسوب المياه قد يتسبب في “كارثة”.
وأصدر مجلس الدفاع والأمن السوداني بياناً قال فيه: “استمع المجلس بحسب البيان لشرح بشأن سد النهضة وجلسة الأمن والخيارات والخطوات العملية لاستكمال جهود السودان لحفظ الحقوق والضمانات القانونية الملزمة لكل الأطراف”، دون ذكر تفاصيل.
أما في مصر، فقد أعطى البرلمان تفويضاً للرئيس السيسي باتخاذ ما يراه مناسباً من إجراءات في أزمة سد النهضة، بينما أعلن وزير الخارجية أن القاهرة الآن تنتظر مقترحات من الاتحاد الإفريقي بشأن السد، ومن ثم ستقوم بتقييم تلك المقترحات مع السودان.
جاء ذلك خلال مداخلة هاتفية لشكري مع فضائية “صدى البلد” المحلية الخاصة، رداً على سؤال حول إمكانية العودة للمفاوضات مع السودان وإثيوبيا، وقال شكري: “بالطبع سيكون الأمر (العودة للمفاوضات) بالتنسيق مع الجانب السوداني، في ظل اهتمامنا أن يكون موقفنا متجانساً، وفي انتظار ما قد يتقدم به الاتحاد الإفريقي من مقترحات ليتم تقييمها”.
وحول من يتقدم بالمقترحات أجاب قائلاً: “من يتقدم هي رئاسة الاتحاد الإفريقي، في ظل تأكيدها بمجلس الأمن على اعتزامها الاهتمام بحل الأزمة وتقديم أفكار جديدة للدفع قدماً بالعملية التفاوضية”.