اتفاق وقف إطلاق.. وأوهام النصر التاريخي
سليم الزريعي
من حق أي شخص أو قوة سياسية فلسطينية وحتى عربية أو إقليمية، أن تحتفي باتفاق وقف المحرقة التي شنها الكيان الصهيوني على غزة طوال خمسة عشر شهرا، وتوصفها بأنها انتصار تاريخي لحماس، لكن النزاهة الفكرية والأخلاقية، لا تمنحه حق أن يكون تقييمه هو الحقيقة المطلقة، من خلال جعل التقييم طريق باتجاه واحد وأن يصادر حق الآخرين في تقييم نتائج المحرقة، ومن ثم مصادرة حق من يرى غير ذلك.
في حين أن هذا الرأي الآخر؛ ليس تنجيما أو ضربا في الرمل أو عاطفيا، وإنما هو يستند إلى الوقائع، ولأنه كذلك فهو موضوعيا يخالف وجهة النظر تلك بشكل مطلق، وهي وجهة النظر التي تضع من يختلف معها تحت طائلة الترهيب المادي والمعنوي.
مع أن هذا التباين في التقييم لا يستند إلى العواطف والهتاف، وإنما هو موضوعي ويستند إلى المعطيات، وينطلق من الموقع الوطني الذي يعتبر أن صحة التشخيص هي المقدمة الضرورية لاستخلاص العبر والدروس من أجل تجنبها لاحقا، حتى لا تتكرر النكبة مرة أخرى. فإذا كان هناك من يضخم بعض ما في الكأس في حين أنه شبه فارغ، فإن على البعض ممن يملكون الجرأة السياسية والفكرية أن يتصدي لذلك من الموقع السياسي والفكري والوطني، على قاعدة أنه حق وواجب.
ويصبح والحال هذه تجاهل الحقائق تضليلا متعمدا، على أساس أن محاكمة الوقائع يجب أن تجري وفق معطياتها ضمن ثنائية الأسباب والنتائج، فمن سوء النية أن يجري القفز على الأهداف التي أعلنت لطوفان حماس باعتبارها المحدد لصدق النتائج وصدق ونزاهة من يقوم بالتصدي لها، على قاعدة ثنائية حساب الحقل وحساب البيدر، أي أن كل بيدر له حقله الخاص به الذي قام على ضوئه، ويحاكم بمعني التقييم على أساسه.
والمعنى أن حفلات الاحتفاء بوقف إطلاق النار تبدو مستفزة فيما هي تتجاهل أسباب طوفان حماس، التي أعلنها محمد الضيف يوم 7 أكتوبر، التي هي رد على تدنيس العدو، والتجرؤ على “المسجد الأقصى وعلى مسرى الرسول محمد، والاعتداء على المرابطات، وأنه سبق كما أعلن الضيف “أن حذرناه من قبل”. ومن ثم كان سلوك العدو هو وراء قرار قيادة القسام بـ”وضع حد لكل جرائم الاحتلال” على قاعدة أنه “انتهى الوقت الذي يعربد فيه(الكيان) دون محاسب”. إذا كان وضع حد لكل جرائم الاحتلال “ـ هو العنوان العريض لطوفان حماس، فهل وضع الطوفان حدا لاستباحة الأقصى والقدس؟ أم أن العدوان والاستباحة بات فعلا يوميا بمشاركة حكومية من قبل أحزاب الصهيونية الدينية وبشكل غير مسبوق؟.
لكن ما يثير الاستفزار هو محاولة القفز عن كارثة النكبة التي دمرت غزة، وقضت على نسبة كبيرة من أهلها التي استدرج الكيان لها، بعكس ما يجري في الضفةـ ومحاولة تلميع حماس لنفسها عبر عملية التبادل الأولى التي جرت، التي بدت كنوع من الفنتازيا والسلوك المفارق حد الجريمة من خلال تلك الدعاية الرخيصة التي رافقت الإفراج عن المختطفات اليهوديات الثلاث ، فيما كان الأطفال يموتون جوعا، ويتجاوز عدد ضحايا المحرقة الـ 46 ألفا، والمصابين 108 آلاف فيما عشرة ألاف مفقود مردومين تحت الأنقاض.
ثم يأتي أبو عبيدة المتحدث باسم القسام ليقول إنهم يشعرون “بالآلام الكبيرة التي يعانيها أبناء شعبنا”، تلك الآلام التي هي موت وتهجير ودمار غير مسبوق، دون أن يخبرنا أبوعبيدة أين يمكن صرف هذه المشاعر؟ فيما كان هو وجماعته يحتمون بالأنفاق، وأهل غزة يواجهون الموت؟ ثم يذهب أبو عبيدة إلى اعتبار أن تلك الآلام هي ثمن مستحق لما سماه “تحرير الأرض والإنسان والمقدسات”. ولكن لم يخبرنا أبو عبيدة ماذا يقصد بالأرض، وعن أي تحرير يتحدث الناطق باسم القسام، في حين كان الطوفان سببا في احتلال وتدمير غزة، وعلى أمل أن تعود غزة إلى حد ما إلى وضعها ما قبل الطوفان، وهو أمر ليس في الوارد على ضوء اتفاق وقف طلاق النار والترتيبات الأمنية الصهيونية التي ستصادر شريط يحيط بكل القطاع مساحته كليومتر تمتمد في بعض المناطق 400 متر إضافيه، ثم يتحدثون عن تحرير الأرض والإنسان، في سياق الديماغوجيا وكي وعي الناس، لكن بالطبع ليس أهل غزة هذه المرة، كونهم يعرفون الحقيقة المرة، وهي أنهم كانوا ضحايا لنزوات ونزق البعض.
وفيما يزف متحدث حماس إنجازات جماعته، عن التحرير والمتغير التاريخي، يعري غوتريش في جلسة مجلس الأمن هذا التضليل عندما يقول: “أنا قلق للغاية بشأن التهديد الوجودي لسلامة وتواصل الأرض الفلسطينية المحتلة في غزة والضفة الغربية”، لافتا إلى أن الموافقات على المستوطنات تسارعت وكبار المسؤولين الإسرائيليين يتحدثون علنا عن ضم كل أو جزء من الضفة الغربية رسميا في الأشهر المقبلة. وإذا ما ربطنا ما قاله الأمين العام للأمم المتحدة بخطاب حماس نكتشف، مدى غياب الصدقية والتدليس على الشعب الفلسطيني.
لكن أبو عبيدة في سياق اللعبة الذهنية الحمساوية وهو يؤكد أن معركة طوفان الأقصى، “غيرت وجه المنطقة وأدخلت معادلات جديدة، وأنهم صنعوا ملحمة تاريخية ليس لها مثيل في العالم”. فهو هنا يقول الحقيقة لأن نتائج طوفان حماس المباشرة وغير المباشرة،جراء رد فعل الكيان وحلفائه أحدثت متغيرا جيوسياسيا لم يكن من أحد يتوقعه بهذا الشكل، وهو متغير لصالح تحالف الكيان الصهيوني وأمريكا. بعد ما جرى في غزة وما يجري في الضفة وما لحق حزب الله اللبناني من احتلال جنوبه وتدمير بنيته، واقتلاعه من الجنوب، وقطع اتصاله مع قيادته الروحية في إيران، بعد سقوط النظام السوري التي تقدم الكيان واحتل مساحات جديدة من أرضه، وتخندق طهران من جانبها داخل حدودها درءا للمخاطر بحثا عن السلامة، وتراجع الفصائل العراقية الشيعية لتحتمي بالدولة المركزية. لتنتهي بذلك فقاعة ما سمي بمحور المقاوم ووحدة الساحات، وكل ذلك بفعل ارتدادات طوفان حماس. الذي تحول إلى نكبة ضربت كل المنطقة ، وسمحت إلى نتنياهو أن يفاخر منتشيا، لقد غيرتا وجه منطقة الشرق الأوسط.
بل وصلت حالة الانفصال عن الواقع ٍأن اعتبر حزب الله وقف إطلاق النار بأنه ” الانتصار التاريخي”، وهو أيضا حال قائد فيلق القدس الإيراني العميد قاآني الذي ذهب إلى اعتبار أن وقف إطلاق النار هو: “انتصار سياسيّ يضاف إلى الإنجاز العسكريّ”، الذي حقّقته، ليكون السؤال لحزب الله وإيران أي انتصار تاريخي الذي تتحدثون عنه، فيما أكد باسم نعيم القيادي في حركة حماس، أن الرئيس الأميركي المنتخب هو الذي وقف وراء هذه الصفقة بعد 15 شهراً من الحرب. وأنه وفقا “للعربية نيوز”، “ما كان لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة أن يحصل لولا دونالد ترامب”.
وإذا كان الأمر كذلك، فما مدي صدقية أبو عبيدة وحزب الله وقائد فيلق القدس الذين أرجعوا فضل وقف المحرقة إلى مقاومة حماس. وليس إلى “الشيخ ترامب”. مع أن وقف إطلاق النار منح من بقي من أهل حيا، حياة جديدة.
لكن هل يستقيم كل هذا الهتاف عن النصر مع حقيقة أن غزة كانت محتلة، وهي التي لم تكن كذلك قبل كارثة طوفان حماس، وأن أي احتفاء بالإفراج عن أسرى في سجون الاحتلال لا يعطي حماس الحق في التسبب في استدراج العدو بغزوة الطوفان التي تشبه إلى حد بعيد ما قامت به اليابان عندما هاجمت الأسطول الأمريكي في قاعدة بيرل هاربر في 7 ديسمبر 1941، وكانت النتيجة أن اليابان محتلة حتى الآن.
ولأن الانفصال عن الواقع حالة ذهنية لدى هؤلاء، فإن هذا العسر في الوعي، لا يسمح لأصحاب الادعاء بالنصر العظيم، أن تفهم أن تقييم أي عمل سياسي أو عسكري مرهون بنتائجه الملموسة، المادية والمعنوية، وهي مسلمة يتجاهلها المفصولون عن الواقع، لتبرير إخفاقهم، فيما الوقائع الصادمة تكشف غياب صدقيتهم، في ما بتعلق بنتائج عدوان الكيان على غزةـ لأن غزة ما كانت لتكون محتلة أو تدفع كل هؤلاء الضحايا لولا غزوة طوفان حماس، بعد أن بدأت حماس بتدشين هذه الحرب في 7 أكتوبر 2023، التي من نتائجها أن بلغت نسبة سكان غزة الذين نزحوا: حوالي 90٪ـ، وعدد المباني المتضررة أو المدمرة بشكل معتدل إلى شديد: أكثر من 136 ألف. والوحدات السكنية المتضررة أو المدمرة: أكثر من 245 ألف.
وأن نسبة الطرق الرئيسية المتضررة أو المدمرة بلغت أكثر من 92%. والمرافق الصحية المتضررة أو المدمرة سجلت أكثر من 84%. ومرافق المياه والصرف الصحي المتضررة أو المدمرة سجلت 67%. وطول الشبكة الكهربائية المدمرة سجلت 510 كيلومترات.
وبحسب أحسن تقديرات الأمم المتحدة، فإنّ إعادة إعمار القطاع ستستغرق ما يصل إلى 15 عاما، وستكلّف أكثر من 50 مليار دولار. والمفارقة أنهم مع كل ذلك يتحدثون عن النصر والصمود!
وعلى ضوء كل ذلك، هل كان طوفان حماس قدرا على سكان قطاع غزة المحاصر من جهاته الأربع، لتأخذهم حماس رهينة طوال خمسة عشر شهرا، فيما هي تحت الأرض في الأنفاق، وتتحدث عن الصمود، لكن أي صمود هذا، فيما كان الأطفال يموتون جوعا، وعشرة ألاف مفقود تحت الأنقاض والخراب طال كل شيء، وغزة لم تعد غزة، بل باتت مدينة الموت..
فيما يجري تجاهل أن الصمود هو خيار واعي تماما، في حين أن توصيف أي فعل على أنه صمود لابد أن يرتبط بوجود خيارات أخرى متاحة أمام هذا الغزي . أي أن تكون هناك طرق متعددة لمغادرة جحيم القطاع سواء كانت بحرية أو جوية أو برية، وربما خيارات أخرى شرعية كانت أو غير شرعية، كان من الممكن أن تفتح نوافذ لخيارات إضافية للحياة، عوض الخيار الوحيد وهو الحصار داخل هذا السجن الكبير قطاع غزة، وخيار واحد هو للموت وإن تعددت وسائله، أي إما الموت عبر قناص أو طائرة أو دبابة أو مدفعية أو الموت تحت أنقاض بيتك أو جوعا، ليكون الحديث بعد ذلك، عن الصمود كمفهوم واعي، وتعبير عن إرادة حرة في غياب معطياته هو عبث وتضليل.
ليكون السؤال هل كان هناك من سيبقى في غزة، ليكون رهينة لو كانت هناك فرصة للخروج من المحرقة، للحفاظ على حياته التي هي في ذاتها مقاومة كونه فلسطيني.
فرفقا بغزة وبالقضية الفلسطينية أيها المحتفون بالنصر التاريخي، وصمود غزة وأهلها، فيما غزة تحتاج وقتا طويلا لتتعافى من نكبتها غير المسبوقة، فيما مستقل غزة وأهلها بات لعبة في أيدي الدول الأجنبية، والكيان الصهيوني مقررا في مستقبل القطاع، وأمريكا العدو لأول للشعب الفلسطيني ضامنا لاتفاق وقف إطلاق النار، ثم لا يخجل البعض من الحديث عن النصر والصمود، عوض أن يعتذر لأهل غزة والشعب الفلسطيني عن تسببه في نكبة غزة.