الانتقام على طريقة الصين.. ماذا يعني ظهور مؤسس “علي بابا” بعد اختفائه الغامض؟

بعد أن اختفى لمدة ثلاثة أشهر، جاء ظهور جاك ما، الملياردير الصيني مؤسس شركة “علي بابا”، من خلال مقطع فيديو مدته أقل من دقيقة تم تصويره من “مكان مجهول”، فماذا حدث فعلاً للرجل الذي تجرأ وانتقد الحزب الشيوعي الحاكم في الصين علناً؟

كان جاك ما قد وجه، قبل ثلاثة أشهر، انتقادات عنيفة للقواعد التنظيمية المالية التي وضعتها الصين، وبعد ذلك مباشرة، اختفى جاك ما تماماً عن الأنظار وسط اتخاذ بكين جملة من الإجراءات وضعت إمبراطوريته المالية في حالة من الفوضى.

الرئيس الصيني شي جين بينغ/ رويترز

وقبل تلك الكلمة التي ألقاها الملياردير في قمة Bund في شنغهاي أمام كبار المسؤولين في الحزب الشيوعي الحاكم في أكتوبر/تشرين الأول 2019، كانت علاقة جاك ما بالنظام الشيوعي الحاكم علاقة وطيدة وكان نجمه لامعاً وظهوره الإعلامي المكثف يميزه عن أقرانه من أغنياء الصين.

فخلال تلك القمة بشنغهاي، انتقد مؤسس “علي بابا” موقف الجهات التنظيمية في الصين من الشركات الكبرى، واتّهمها بتبنّي عقلية “مكاتب الرهونات” التي تخنق الابتكار، وبصوت تملؤه الحماسة والاندفاع أعلن جاك ما: “لا يجب أن نستخدم طريقة إدارة محطة قطار لتنظيم الأوضاع داخل مطار. لا يُمكن تنظيم المستقبل بوسائل الماضي”.

وحتى يتضح مدى اندفاع جاك ما في تلك اللحظة التي يبدو أنها أصبحت فاصلة في مسيرته المبهرة، جاء حديثه بعد دقائق من إلقاء وانغ كيشان، الذراع اليمنى للزعيم الصيني شي جين بينغ، تصريحات معاكسة تماماً، إذ أكّد وانغ أولوية التنظيم الآمن الذي يضمن ألا تصير الشركات سيدةً للدولة.

وقال جورج ماغنوس، الباحث المساعد في المركز الصيني بجامعة أكسفورد، لصحيفة The Guardian البريطانية: “كان خطاب ما يدور حول المخاطرة، والرهان بنفسك دون التفكير في عدم الاستقرار الذي قد ينجم عن ذلك. وهو ما يتعارض تماماً مع فلسفة حزب شي جين بينغ”.

وبالطبع انتشر التناقض الصريح لما صرح به جاك ما مع خطاب بكين سريعاً على الشبكات الاجتماعية، ما زاد الإحراج المحتمل للحزب الشيوعي الصيني، ورغم كون مؤسس “علي بابا” أغنى رجل في الصين، إذ تبلغ ثروته أكثر من 48 مليار دولار، لكن سرعان ما تبيّنت هوية من يُحرّك السفينة.

استدعاء جاك ما للقاء الجهات المسؤولة في بكين

فبين ليلةٍ وضحاها، جرى استدعاء رجل الأعمال الرائد واثنين من مساعديه للقاء الجهات التنظيمية المالية، وفي اليوم التالي مباشرة جرى إلغاء تعويم Ant Group في البورصة، وهي شركة مالية على الإنترنت انبثقت عن “علي بابا” وتضم نظام المدفوعات الرقمي Alipay.

وفسّرت الجهات التنظيمية قراراتها بحجة “التغيرات في البيئة التنظيمية للتقنية المالية وغيرها من القضايا الكبرى”، لكن الرواية السائدة كانت أنّ جاك ما يُعاقب على حساب الاكتتاب العام الأولي لـAnt Group. بينما تراجعت أسهم Alibaba المالكة لجزء من Ant Group بأكثر من 8%، لتُقلل صافي ثروة ما بنحو 2.73 مليار دولار. كما أمرت السلطات في بكين بالتحقيق في مزاعم “الممارسات الاحتكارية” من جانب Alibaba -وشركة التقنية Tencent- ثم أمرت Ant Group بعدها بتقليص عملياتها.

وتكاثرت الشائعات حول أن شي هو من أمر شخصياً بذلك. إذ أكد ماغنوس على اتجاه نظام شي الثابت بعيداً عن مغازلة “التسويق”، وبدلاً من ذلك، مالت الصين في عهد شي إلى نهجٍ أيديولوجي لينيني، فرضته عبر شبكة “الجبهة المتحدة” من الشركات ذات المصالح التي يجب أن تتوافق مع مصالح الحزب.

شعار شركة علي بابا\ رويترز

وأردف ماغنوس للغارديان: “جاك ما هو واحد من الأشخاص الأكثر شهرة وشعبية، وتسبب في إثارة ذعر القيادة من الأشخاص الذين يكبرون أكثر من اللازم ويمتلكون على ما يبدو قوةً متزايدة تبدو مضاهيةً لسلطة الحزب نفسه. وفي حال كان رواد الأعمال راضخين سياسياً، فسوف تزدهر تجارتهم. أما في حال عدم رضوخهم، فلن تزدهر تجارتهم وسيخضعون لنوع من المعاملة يشبه ما تعرض له جاك ما”.

اختفاء ثم ظهور أشبه “بفيديوهات الرهائن”

وقصة صعود جاك ما مؤسس “علي بابا” والرئيس التنفيذي لشركة التجارة الإلكترونية العملاقة تمثل إلهاماً للصينيين وبنى الرجل لنفسه شعبيةً كبيرة بالفعل، وفي أحد أيام سبتمبر/أيلول عام 2009، كان مدرس اللغة الإنجليزية السابق الذي يوصف بأنه غريب الأطوار وقوي الإرادة يحتفل أمام جمعٍ ضمّ 16 ألفاً من موظفيه الذين يعشقونه داخل استاد التنين الأصفر في هانغتشو. إذ بنى إمبراطوريةً تقنية بكل حسن نية، تمثل المقابل الصيني لشركات Amazon، وeBay، وPayPal في شركةٍ واحدة.

لكن بعد ما يربو على عقدٍ كامل من ذلك اليوم، ها هو جاك ما يعيش لحظات أقل انتصاراً تحت دائرة الضوء، وفي أعقاب قرابة الثلاثة أشهر التي ظل مكان وجوده مجهولاً فيها، جاء ظهوره المقتضب في ذلك الفيديو الذي تبلغ مدته 48 ثانية فقط “أشبه بفيديوهات الرهائن”، بحسب توصيف عضوٍ في منتدى لمحللي الشأن الصيني على الإنترنت، وهو ما يشير إلى أن الملياردير قد تعرض لعقابٍ شديد.

ظهر جاك ما في فيديو أشبه “بفيديوهات الرهائن”/رويترز

وخلال الأشهر الثلاثة من اختفائه، انتشرت التكهنات، إذ قال البعض إن رجل الأعمال (56 عاماً) قد فرّ من البلاد، بينما قال آخرون إنه توارى عن الأنظار فقط وإن البعض قد رأوه يلعب الغولف. وتسارعت وتيرة الشائعات حين جرى استبداله بشخصٍ آخر فجأة في برنامج Africa’s Business Heroes التلفزيوني للمواهب.

لكن مجرد ظهوره في ذلك المقطع القصير الأسبوع الماضي كان كافياً لترتفع أسهم Alibaba بنسبة 8.5% يوم تأكيد صحة مقطع الفيديو المنشور، لكن عودته لم توضح الأمور بالكامل بعد. ففي الفيديو، المصور بتاريخ 10 يناير/كانون الثاني والمنشور الأسبوع الماضي، ركّز مؤسس “علي بابا” اهتمامه على الارتقاء بفقراء الريف في الصين بدلاً من الاهتمام بمسائل التنظيم والأعمال.

إذ قال في حديثه إلى المعلمين في المدارس الريفية: “كنت أدرس أنا وزملائي المسألة ونفكر فيها، وصرنا أكثر عزماً على تكريس أنفسنا للتعليم والرفاه العام”. وقال إنه توصل إلى أن رواد الأعمال الصينيين عليهم تكريس بعض من وقتهم لـ”تنشيط الريف والازدهار العام”، وكلاهما من النقاط الأساسية على جدول أعمال شي.

وفي السياق، أشار ماغنوس إلى أنه من المستحيل معرفة ما إذا كان جاك ما تحت أي شكلٍ من أشكال الاحتجاز. كما أن موقعه الحالي غير معروفٍ أيضاً. وحقيقة أن شركاته باتت جزءاً لا يتجزّأ من المعاملات المالية اليومية للعديد من الصينيين هو أمرٌ قد لا يكفي لحمايته.

ويشير سجل بكين المقلق في التعامل الحاد مع رجال الأعمال الذين يوجهون أي انتقادات للنظام إلى أن ذلك المقطع القصير الذي ظهر فيه جاك ما قد لا يعني أن محنته قد انتهت، ففي مارس/آذار الماضي، اختفى رجل أعمال بارز آخر هو رين تشي تشيانغ، بعد أن وصف الرئيس شي جين، بـ”المهرج” بسبب الطريقة التي تعامل بها مع أزمة فيروس كورونا.

وقال أصدقاء رين إنهم لم يتمكنوا من الاتصال به، وبعد 6 أشهر، حكم عليه بالسجن 18 عاماً، بعد أن “اعترف طواعية” بارتكاب جرائم فساد متعددة.

وفي عام 2017، اختطف الملياردير شيان جيان هوا من فندق بهونغ كونغ، ويقال إنه تحت الإقامة الجبرية منذ 3 سنوات، ولم يذكر مكانه رسمياً حتى الآن. فهل تعرض جاك ما للمصير ذاته؟

وفي تقرير لصحيفة The Times البريطانية، قال دنكان كلارك، رئيس مجلس إدارة شركة BDA China، وهي شركة استشارات استثمارية مقرها بكين، ومؤلف كتاب Alibaba: The House That Jack Ma Built، ونائب رئيس مجلس الأعمال الصيني البريطاني، إن رد الفعل على خطاب جاك ما كان “شديد الصرامة”، وحظي باهتمام الرئيس شي. وقال: “لقد مكّن الأشخاص الذين كانوا يهاجمون “ما” من اتخاذ إجراء أخيراً”.

وأضاف كلارك أن “رد” الصين محاولة لمنع انفصال القطاع الخاص في الجنوب عن الحزب في شمال البلاد، بتأكيد سيطرتها على رواد الأعمال. وكان في مقدمة اهتماماتهم جاك ما، الذي يتمتع بكاريزما وجرأة وصراحة لا مثيل لها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى