تحليلات و آراء

 التنظيم الدولي : و إديولوجيا النفي والعنف

مصافحة

عادة ما تستفز الأحداث والمشكلات السياسية والفكرية عقل الكاتب، الأمر الذي يدفعه لمحاولة سبر أغوارها، عبر عملية قراءة سياسية لتلك الأحداث، انطلاقا من رؤيته لتلك الوقائع التي تتجاوز النظرة الشكلية وإنما الذهاب نحو البحث في عمق تلك القضايا، وربما تأصيلها فكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، على أساس من المعلومات التي تجعل من تلك القراءات عملية علمية.

تصبح القراءة هنا ليست محاولة لتفسير الوقائع والمشكلات بالاتكاء على ظواهر الأشياء، وإنما تقديم رؤى سياسية وفكرية في إطار الاجتهاد السياسي والفكري.

ومن ثم فالكتابة هنا ليست فعل ” تنجيم” أو “ضرب في الرمل”، وإنما مقاربات تبنى على وقائع حقيقية  بحثا عن إجابات للأسئلة المطروحة، وبالتأكيد فإن تلك المقاربات لا تدعي الصواب المطلق، ولكنها محاولة للفهم والتفسير عبر طرح الأسئلة، لعل أحد ما يلتقطها ويبني عليها.

إن هذه المواد التي يتضمنها الكتاب التي سبق أن نشرت في العديد من الصحف، رأيت أن أشارك فيها القراء عبر جمعها في هذا الكتاب، لعلني بذلك أضيف إلى المكتبة العربية ما يفيد القارئ.

 التنظيم الدولي : و إديولوجيا النفي والعنف

مدخل :

لعل السؤال الذي يواجه الباحث وهو يعيد ترتيب أبجدية موضوع العنف التي تعرضت لها المجتمعات العربية والإسلامية ؛ منذ عدة عقود ؛ هو البحث في المنابع الفكرية لهذه الجماعات التي تمارس العنف باعتباره جزءا من العقيدة على ضوء تفسيرها التعسفي للنص الديني ؛ بدعوى أن ما تقوم به هو قضية ربانية وتكليف شرعي ؛ يجب أن تنفذه في مواجهة الآخرين الذين لا يتبنون طروحاتها الفكرية .

هذا السلوك وذلك الفكر المجافي ؛ يندرج في إطار الخلط بين الدين والتدين ؛ وهو الخلط الذي تتبناه الحركات الدينية من قوى الإسلام السياسي ؛ الذي يشمل طيفا واسعا من تلك القوى كالقاعدة وطالبان وحركة الإخوان المسلمين وما بينهما ؛ والذي يقوم على أساس نمذجة المجتمعات وفق تصور قَبْلي ترى فيه تلك القوى الحق المطلق ؛ وما عدا ذلك فهو خروج عن الشريعة يستوجب العقاب ؛ بكل أشكاله ؛ وهو العقاب الذي يجب أن تقيمه هي ؛ تنفيذا لشرع الله وتقربا منه كما تعتقد.

ويمكن القول أن هذا التشوه الفكري أنتج سلوكا ليس من الإسلام في شيء ؛ كونه يعود إلى ذلك الخلط بين الدين والتدين ؛ الذي لابد من التفريق بينهما . ذلك أن الدين هو الإسلام كما جاء منزلا في كتابه الله السماوي المنزه عن التحريف والمحفوظ بقدرة الله تعالى إلى يوم القيامة. أما التدين فهو موقف الناس من دين الله تعالى وتعاملهم معه ومدى تطبيقهم له والتزامهم به .وهذا الأمر لا يتعلق بالإسلام وحده ، وإنما بكل الأديان السماوية ؛ فكان من نتيجة هذا الخلط بين الدين والتدين أن أوقع من يقومون به في أخطاء منهجية وخطايا دينية إذ أنهم حملوا الدين السماوي ـ وهو في الأصل وصايا ومبادئ عالية سامية ـ خطايا البشر وأخطائهم.(1) ( أحمد صبحي منصور ـ مكتبة موقع الحوار المتمدن )

وهذا أدى بهم إلى التصرف كوكيل عن الله ؛ ولذلك استحضروا قانون التغيير بالقوة لما يعتبر في نظرهم منكرا ؛ فكان من نتيجة منطق التدين هذا في العصور الوسطى أن جرى نشر ثقافة الحرب ؛ التي قررت تلك الحروب الدينية التي نشبت بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي الغربي على المستوى الخارجي، والاضطهاد الديني والمذهبي ومحاكم التفتيش على المستوى الداخلي، وتبادل الاتهام بالكفر على المستويين الداخلي والخارجي، بالإضافة للثورات والمظالم والاستبداد، التي ترتدي زي الدين وتلتمس منه – بالتأويل والتزييف- شتى الأدلة والبراهين على مشروعية ما تذهب إليه من ثورة أو حرب أو قمع أو اضطهاد ديني أو مذهبي.(2) ( أحمد صبحي منصور ؛ المصدر السابق )

وما بين الدين و التدين فتحت تلك المساحة القائمة على ثقافة استباحة دم الآخر ونفيه ؛ لتلجها تلك القوى التي تمارس هذا الخلط ؛ وهذا القصور الفكري في المقدمات الذي يعني أن حصاد النتائج لن يكون في صالح أي دين ؛ وتحديدا الدين الإسلامي كدين وسط وتسامح وقبول الآخر ؛ الأمر وضعه بفعل ذلك أمام تحديات كبرى ؛ لعل أقلها وصف المسلمين عامة بالإرهاب ؛ خاصة بعد أن أصبح العالم عبارة عن قرية كونية صغيرة .

في حين أن من يتحمل وزر ذلك ، هي تلك القوى التي اختطفت الدين ؛ وحاولت تكييفه وفق قراءتها هي للدين ؛ تلك القوى التي نشأت على أساس أنها متعدية للأوطان والقوميات والإثنيات ؛ وأنها هي وحدها من يملك الحقيقة المطلقة ؛ هنا يحضر تنظيم الإخوان المسلمين الذي مارس هذا الفكر بشكل تعسفي ؛ كما تؤكد ذلك التجربة التاريخية ؛ كمثال على ذلك .

ذلك أن هذا التنظيم بدأ نشاطه وفي ذهن القائمين عليه أنه تنظيم فوق الدول والقوميات ؛ كون الفكرة الأساسية التي بني عليها ؛ هي أن تنظيم الإخوان المسلمين على المستوى الفكري والفلسفي فكرة عابرة للقوميات ولفكرة الخصوصية ؛ تتجاوز كل هذه الأشياء لصالح فكرة التوحيد حول الولاء الديني والإسلامي حسب مفهوم الجماعة ، وفي ذلك يكمن جذر المسألة . (3)(وكالة الأهرام للصحافة ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٣) ؛ وعلى أساس من ذلك جاء التنظيم الدولي لحركة الإخوان المسلمين ؛ وفق سيرورة رسم حدودها هذا الفكر .

التنظيم الدولي بين النفي والإثبات

هذه السيرورة أنتجت بالضرورة هذا الإطار كشكل يعبر عن ذلك المضمون ؛ ولذلك كان من الطبيعي أن يكون التنظيم الدولي لحركة الإخوان هو الإطار الجامع لحركة الإخوان المسلمين على المستوى الكوني ؛ الذي يمتد ليشمل عشرات الدول التي تتواجد فيها تلك الحركة باعتباره تنظيميا عالميا يجسد فكر الحركة في بعده الأممي .

ومن أجل فهم أكثر علمية لموضوع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين ؛ فإن شرط البحث العلمي تفرض العودة إلى مرتكزات هذه التنظيم ؛ أي البحث في بنية حركة الإخوان المسلمين الفكرية والتنظيمية ؛ كونها حاضنة هذا المشروع ومؤسسته ؛ ذلك أن التنظيم الدولي هو محصلة مجموع فروع حركة الإخوان المسلمين في الدول المختلفة ؛ والذي كان لحركة الإخوان المسلمين الفرع المصري الدور المركزي التأسيسي في ذلك ؛ كونها هي باعثة ومؤسسة هذا المشروع من ألفه إلى يائه .

وهنا لابد من إبداء ملاحظة أولية ؛ هو أن هذا البحث في التنظيم الدولي يصطدم منذ البدء ؛ بمحاولات تنظيم الإخوان المسلمين ؛ نفي وجود مثل هذا التنظيم الدولي ككيان معنوي له صفته الاعتبارية ؛ وذلك لأسباب تتعلق بطبيعة عمل ودور هذا التنظيم على الصعيد الكوني ؛ وتدخله في شؤون الدول المختلفة ؛ وعبر عن اتجاه نفى وجود التنظيم ؛ يوسف ندا رجل الأعمال المصري ؛ الذي كان قد شغل منصب ” مفوض العلاقات الخارجية للإخوان المسلمين ” في مقابلة تلفزيونية مع بي بي سي العربية بثت في أكتوبر 2009 ؛ بالقول أنه لا وجود لما يسمى التنظيم الدولي للإخوان المسلمين ؛ واصفاً هذا القول بأنه ” إشاعة صدقها الكثير من الإخوان “. (4) ( الموسوعة الحرة ـ شبكة المعلومات الدولية ) ؛ أي الإخوان أنفسهم !!!

إلا أن نفي ندا وجود مثل هذا التنظيم الدولي ؛ لا يصمد طويلا أمام جملة الحقائق ؛ التي تؤكد نقيض ما قال به ؛ والتي كشف عنها أيضا البعض من قادة التنظيم ؛ ومنهم الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ؛ الذي كان أحد أعمدة حركة الإخوان المسلمين ؛ وهو أن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين كان يعقد اجتماعات في مكة المكرمة والمدينة المنورة أثناء مواسم العمرة والحج ، ( ليكون السؤال هل لكيان غير موجود في الواقع أن يعقد اجتماعات دورية على مدى سنوات ؟ ) ويتابع القرضاوي، أحد القيادات السابقة لجماعة الإخوان المسلمين في مذكراته التي نشرها موقع ” إسلام أون لاين ” ، إن هذا المكتب – يقصد التنظيم – يعقد جلساته كل سنة مرة في أي مدينة يتيسر اجتماعه فيها من مدن العالم العربي والإسلامي ، وكثيراً ما تم الاجتماع في مكة أو المدينة تحت مظلة العمرة .

بل إن هذا التنظيم الدولي كان له مقر ثابت في مدينة استانبول بتركيا كما ذكر القرضاوي ، وأن اجتماعات التنظيم الدولي كانت تعقد في مدينة بيروت أثناء الحرب الداخلية ( الأهلية ) ، حيث كان مطارها مفتوحاً، مما أتاح لأعضاء التنظيم الدخول والخروج بسهولة. (5)( موقع القرضاوي ـ شبكة المعلومات الدولية ) ؛ ومن جانبه يؤكد كمال الهلباوي المسؤول السابق في التنظيم الدولي للإخوان وجود التنظيم ؛ ورأى ” أن من الظروف التي ساعدت علي قيام التنظيم العالمي ، اشتداد ساعد العمل الإسلامي في بلاد كثيرة خارج مصر ؛ وانتشار وقبول فكرة ” العالمية ” ، إلا أنه توقع انقضاض بعض النظم في المنطقة على الحركة (6) ( الشرق الأوسط العدد 9943 ) .

ويوضح الهلباوي ان اللقاءات والمشاورات كانت تتم فى بلدان أوروبية ، خاصة بسبب وجود مرشد إخوان مصر في الثمانينات مصطفى مشهور خارج مصر ، وكذلك عباس السيسي وآخرين، هذا فضلا عن وجود مؤسسات إسلامية ” وكما قال ” جو ديمقراطي ” في الغرب مما يمكن أن يعين الحركة والدعوة في عاصمتها الأولى وحاضرتها وحاضنتها منذ البداية مصر ” (7).( المصدر السابق) ، ولعل السؤال هنا لماذا كل هذا الموقف غير الودي إن لم يكن العدائي ؛ من قبل الدول المعنية لحركة الإخوان ؟

أما التأكيد الحاسم لوجود تنظيم موحد منضبط فنجده في المادة‏11‏ ؛ الخاصة بكيفية اختيار المرشد العام ؛ حيث يقوم مكتب الإرشاد العام وبعد استشارة المكاتب التنفيذية في الأقطار بترشيح أكثر اثنين قبولا إذا لم يمكن الاتفاق علي مرشح واحد ‏(‏ وهكذا هناك مكتب إرشاد عام للجماعة وللتنظيم الدولي ومكاتب تنفيذية في الأقطار الأخرى‏ ).‏

كما تحدد المادة ‏49‏ كيفية تشكيل مكتب الإرشاد العام من ثلاثة عشر عضوا عدا المرشد ‏,‏ يتم اختيارهم وفق الأسس التالية‏ :(‏ أ‏)‏ ثمانية أعضاء ينتخبهم مجلس الشوري من بين أعضائه في الإقليم الذي يقيم فيه المرشد‏(‏ أي مصر‏).‏

‏(‏ب‏)‏ خمسة أعضاء ينتخبهم مجلس الشورى من الأقاليم الأخرى ومن بين أعضائه ويراعي في اختيارهم التمثيل الإقليمي ‏.‏

وهكذا تتضح الحقيقة ‏:‏

ـ التنظيم الدولي موجود وجودا فعليا يتحرك ويعمل وفق لائحة ملزمة‏.‏ ـ مقره القاهرة‏ ,‏ ومرشده هو مرشد الجماعة‏ ,‏ وله مكتب إرشاد عام‏ ,‏ ومجلس شوري يضم ممثلين للأقطار المختلفة‏.‏ ـ وهو الحاضنة الكبرى أو بالدقة الخزينة الكبرى لأموال واستثمارات الجماعة‏.‏

ولأن الجماعة اختارت لنفسها أن تكمن في ذلك الشق بين الجمعية الدعوية والحزب السياسي‏ كما يقول د. رفعت السعيد ,‏ فإن المفارقة الحقيقية تتضح من أن لا ضير من وجود جمعية دعوية ترعي الدعوة الإسلامية وتكون ذات فروع في أقطار أخري‏,‏ حدث ذلك في جمعية الشبان المسلمين ويحدث الآن في عشرات من التنظيمات الإسلامية ذات الطابع الدولي والتي تمارس الأنشطة الدينية أو الاجتماعية أو الخيرية‏,‏ لكن المأزق يكمن في إصرار الجماعة علي الفعل السياسي والحزبي‏,‏ هنا يقف القانون عائقا ‏,‏ وتتراكم الشكوك حول التمويل والتدخلات ومدي مسئولية المرشد العام عما يحدث هنا أو هناك‏ ,‏ ولهذا يفضل الإخوان أن يتحدثوا عن هذا الأمر حديثا غامضا وغائما ، وأحيانا غير معبر عن الواقع‏ .‏

ومن هنا يمكننا أن نفهم إصرارهم علي الاستمرار في حالة الاختباء الواقعي‏,‏ فلا هم جمعية أهلية تخضع لقانون الجمعيات ولا هم حزب يخضع لقانون الأحزاب‏.‏

وحتي عندما تقول الحركة في مصر إنهم سيعلنون حزبا سياسيا يبادرون علي الفور للقول بأنهم لن يتقدموا إلى لجنة الأحزاب‏,‏ ذلك أنهم إن تقدموا يتعين عليهم أن يتخلصوا من حاضنتهم وخزينتهم أو بالدقة بنكهم العالمي‏,‏ حيث استثماراتهم الأساسية وكذلك امتداداتهم التنظيمية التي تمنحهم مرونة في الحركة وقدرة علي المناورة‏.‏ وهكذا يمكننا أن نفهم لماذا ترتبك الكلمات عندما يأتي الحديث عن التنظيم الدولي (8) د. رفعت السعيد ، الأهرام 14/4/2007 م السنة 131 العدد 43958 ) ؛ وإلا كيف نفهم تدخل مكتب الإرشاد العام في القاهرة في موضوع تفكيك العلاقة التنظيمية بين حركة الإخوان فرع الأردن ؛ مع حركة حماس بالاستناد الى قرار مرجعي أقرب لصيغة الفتوى ؛ كان قد وصل لرئيس مجلس الشورى الشيخ عربيات ؛ والذي جاء ليحسم خلافا حول تبعية المكاتب الفرعية في الخارج ؛ وتحديدا في دول الخليج للتنظيم الإخواني (9)( موقع وكالة سما للأخبار 12/2/ 2010 ) إلا في سياق هذه الوحدة التي تجمع كل فروع الإخوان في تنظيم واحد هو التنظيم الدولي لحركة الإخوان المسلمين .

ومن ثم لا يمكن إلا لمكابر من بعد أن ينفي وجود التنظيم الدولي لحركة الإخوان ؛ في حين أنه حقيقة واقعة بلسان وتصرفات بعض رموز الحركة ؛ حتى ليبدو وكأن هذا التنظيم في أحد جوانبه عبارة عن سبة يحاول البعض أن يتبرأ منها ؛ فيما يحرص الجميع على بقائه والاستفادة منه من جانب آخر .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى