التيار التقدمي الأمريكي أقل دعماً لإسرائيل، فمن هم وما مدى تأثيرهم وكيف يرون قضايا الشرق الأوسط؟
وقبل رصد إجابة السؤالين هنا من المهم توضيح أبعاد ما يجري على الأرض في الشرق الأوسط، وبالتحديد في قطاع غزة، حيث يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي قصف القطاع جواً وبراً وبحراً لليوم الحادي عشر على التوالي، ما أدى إلى سقوط 227 شهيداً، بينهم 64 طفلاً و38 سيدة، بجانب أكثر من 1620 جريحاً حتى صباح اليوم الخميس، 20 مايو/أيار، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية بالقطاع.
ماذا يعني التيار التقدمي الأمريكي؟
يسيطر الحزبان الجمهوري والديمقراطي على الحياة السياسية في الولايات المتحدة، والحزب الجمهوري هو حزب اليمين المحافظ، بينما يضم الحزب الديمقراطي تحت رايته اليسار الليبرالي. هذا بشكل عام، لكن توجد تيارات داخل الحزبين، فهناك الآن التيار الترامبي (نسبة إلى الرئيس السابق دونالد ترامب) الذي يمثل أقصى اليمين المتطرف.
ويضم الحزب الديمقراطي تيارين رئيسيين، هما تيار يسار الوسط الذي يمثله الرئيس الحالي جو بايدن، والتيار التقدمي وأبرز رموزه هو السيناتور بيرني ساندرز، الذي كان مرشحاً للرئاسة عن الحزب، وتنازل في المرحلة الأخيرة لجو بايدن، ولهذه النقطة بالتحديد دلالة خاصة سنتوقف عندها في سياق التقرير.
“تجمُّع الديمقراطيون التقدميون في الكونغرس” هو الاسم الرسمي لهذا التيار داخل أروقة كابيتول هيل (مقر الكونغرس)، وتم الإعلان عنه رسمياً عام 1991، وكان بيرني ساندرز رئيساً للتجمع الجديد وقتها، ومن بين أبرز الأعضاء المؤسسين نانسي بيلوسي (رئيسة مجلس النواب الحالية)، وكان عدد أعضاء التيار نحو 20 نائباً، جميعهم من الديمقراطيين.
أما سبب هذا التجمع أو التيار التقدمي فهو اقتصادي بالأساس، فالمنتمون للتيار يميلون إلى السياسات الأقرب للاشتراكية من فرض ضرائب مرتفعة على الأغنياء وأصحاب الأعمال إلى رفع الحد الأدنى للأجور وتوفير مظلة رعاية اجتماعية (صحة وتعليم وإعانات بطالة وغيرها)، قادرة على توفير مستوى جيد من الحياة الكريمة للطبقة العاملة.
وشهد التجمع التقدمي في الكونغرس نمواً كبيراً في عدد أعضائه على مدى العقود الثلاثة الماضية، وبصفة خاصة في انتخابات الكونغرس (مجلس النواب ومجلس الشيوخ) عام 2018، حيث انضم للتيار أو التجمع 18 عضواً جديداً، ليصل عدد أعضائه وقتها إلى 97 (96 عضواً في مجلس النواب، بالإضافة إلى سيناتور واحد وهو بيرني ساندرز). وحالياً يبلغ أعضاء هذا التيار التقدمي 91 فقط، بعد أن فقد 6 أعضاء في مجلس النواب الانتخابات الأخيرة، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
ماذا يمثل التيار التقدمي الديمقراطي حالياً؟
مؤسس التيار ورمزه بيرني ساندرز بالطبع هو العضو الوحيد في مجلس الشيوخ، أما من أعضاء مجلس النواب فهناك رشيدة طليب (من أصل فلسطيني)، وإلهان عمر (من أصل صومالي)، وأليكساندريا أوكاسيو كورتيز وآيانا بريزلي، وهؤلاء الأربعة تحديداً مثّل انتخابهن عام 2018 تحولاً لافتاً بين الناخبين الأمريكيين، وكان الرئيس السابق دونالد ترامب قد طالبهن “بالعودة إلى بلادهن إذا كانت أمريكا لا تعجبهن”، بسبب انتقاد النائبات الأربع اللاذع لسياساته بشأن الهجرة.
وشهدت السنوات الأربع من رئاسة ترامب اشتباكاً أكثر صرامة من جانب التيار التقدمي الديمقراطي في الملفات السياسية، وليس فقط توحيد المواقف من مشروعات القوانين الخاصة بالاقتصاد وانحيازاته، وليس فقط السياسة الداخلية المتعلقة بالعنصرية والهجرة، وهما القضيتان اللتان تبنّى فيهما ترامب سياسات يمينية متطرفة، أبرزت الانقسام داخل المجتمع الأمريكي، ولكن أيضاً ملفات السياسة الخارجية وكيفية تعاطي الإدارة مع تلك الملفات.
وكان وصول بيرني ساندرز إلى المرحلة النهائية من الانتخابات التمهيدية لاختيار المرشح الرئاسي للحزب مؤشراً على أن التيار التقدمي الديمقراطي قد أصبح يمثل تياراً سياسياً فاعلاً في واشنطن، ويرى البعض أن تنازل ساندرز لصالح جو بايدن يرجع بصورة كبيرة إلى طبيعة المنافس -دونالد ترامب- وعمق الانقسام في البلاد، وهو ما رجَّح كفة بايدن المحافظ أكثر، والذي يمكن للجمهوريين الرافضين لترامب أن يصوتوا له أكثر من احتمال تصويتهم لساندرز، الذي يميل أكثر نحو الاشتراكية في أفكاره.
كيف ينظر التيار التقدمي لقضايا الشرق الأوسط؟
قد يتساءل البعض عن مدى أهمية وجود تيار تقدمي داخل الحزب الديمقراطي بالنسبة لقضايا الشرق الأوسط بشكل عام، والقضية الأهم وهي القضية الفلسطينية بشكل خاص، على أساس أن الدعم الأمريكي للاحتلال الإسرائيلي مسألة بديهية وثابتة، ولا تتغير من إدارة جمهورية لأخرى ديمقراطية، والدليل موقف إدارة بايدن الحالية.
والإجابة هنا تتعلق بشقين، الأول أن هناك تغييراً بالفعل في الموقف الأمريكي تجاه إسرائيل هذه المرة، أما الشق الثاني فيتعلق بكون هذا التيار التقدمي الديمقراطي (91 عضواً في الكونغرس) قد يكون متفقاً في القضايا الاقتصادية، لكنه ليس بالضرورة متفقاً في ملفات السياسة الخارجية بشكل عام.
وتوجد أدلة دامغة على الشق الأول، أي التغير النسبي في الموقف الأمريكي من العدوان الإسرائيلي الحالي على قطاع غزة. يوم الثلاثاء 18 مايو/أيار تقدم الجمهوريون في مجلس الشيوخ بمشروع قرار يؤكد على الدعم الأمريكي لإسرائيل، بسبب ما يزعمون أنه تقاعس من إدارة بايدن عن تقديم الدعم الكافي لحكومة نتنياهو في قصفها لغزة.
فكيف ردّ بيرني ساندرز؟ أعلن أنه سيمنع مناقشة مشروع القرار الجمهوري من الأساس (الديمقراطيون يتمتعون بأغلبية اسمية في المجلس المنقسم بين الطرفين 50 عضواً لكل حزب، لكن تتمتع نائبة بايدن كامالا هاريس بحق التصويت على مشاريع القوانين، وهي ديمقراطية بطبيعة الحال)، وقدم ساندرز مشروع قرار بديل لمشروع الجمهوريين.
ويدعو مشروع القانون الذي قدمه بايدن وأعلن مكتب السيناتور جون أوسوف (ديمقراطي) أنه سيدعمه إلى أن “يحث مجلس الشيوخ على الوقف الفوري لإطلاق النار، وإلى حماية حقوق الإنسان الإسرائيلي والفلسطيني”، بحسب تقرير لموقع Axios الأمريكي.
وأمس الأربعاء أيضاً قادت أوكاسيو-كورتيز ورشيدة طليب ومعهما النائب مارك بوكان (من التيار التقدمي)، طرح مشروع قانون يسعى لحجب مبيعات أسلحة دقيقة التوجيه قيمتها 735 مليون دولار لإسرائيل، في رد فعل رمزي على التصعيد الحالي في قطاع غزة، وساند المشروع ستة آخرون على الأقل من أعضاء التيار.
كانت إدارة بادين قد وافقت على الصفقة، وأرسلت الأمر للكونغرس لمراجعته رسمياً يوم 5 مايو/أيار، وأمهلت النواب 15 يوماً للاعتراض بموجب القوانين الحاكمة لمبيعات الأسلحة لدول أجنبية، وعلى الأرجح ستتم الصفقة ولن يناقش مشروع القرار، لكن الخطوة في حد ذاتها مؤشر لا يمكن تجاهله على التغير في التحالف المقدس بين أمريكا وإسرائيل.
وأظهر استطلاع رأي أجراه معهد غالوب مؤخراً أن 37% من الأمريكيين يؤيدون ممارسة الإدارة الأمريكية ضغوطاً أقوى على إسرائيل، وهي نسبة غير مسبوقة على الإطلاق في الرأي العام الأمريكي، بحسب تقرير لصحيفة تليغراف البريطانية.
وفيما يتعلق بإيران، على سبيل المثال، يريد التيار التقدمي من إدارة بايدن أن تعلن العودة للاتفاق النووي دون تأخير، ويضغطون لإنهاء الحرب في اليمن ويطالبون الإدارة بأن تكون أكثر التزاماً بالدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية وعدم تقديم الدعم للأنظمة الديكتاتورية في المنطقة.
الخلاصة هنا أن التيار التقدمي داخل الحزب الديمقراطي يتبنى مواقف مختلفة كثيراً عن المواقف الأمريكية التقليدية في التعامل مع ملفات الشرق الأوسط، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. يعارض هذا التيار الانحياز الأعمى لإسرائيل كما حدث أثناء رئاسة ترامب، ويسعون إلى تطبيق القرارات الدولية وحل الدولتين، لأن هذا هو المسار الوحيد الذي يمكن أن يؤدي لتجنب سفك الدماء، من وجهة نظرهم.
لكن تظل الحسابات السياسية هي الفيصل والأفعال التي يقوم بها صاحب القرار هي المهم، فبايدن أعلن أنه سيضع “حقوق الإنسان” في القلب من سياسته الخارجية، لكنه فشل فشلاً ذريعاً في جميع الاختبارات حتى الآن، وأبرزها ما تقوم به إسرائيل بحق الفلسطينيين في القدس الشرقية المحتلة، من تهجير لعائلات في حي الشيخ جراح، واعتداءات على المسجد الأقصى، وقمع دموي لانتفاضة الفلسطينيين داخل إسرائيل وفي الضفة الغربية والقدس؛ اعتراضاً على القصف العشوائي للمدنيين في قطاع غزة.
والخلاصة أن التيار التقدمي الديمقراطي يروّج لأجندة أكثر حياداً وموضوعية تجاه قضايا الشرق الأوسط، وفي القلب منها القضية الفلسطينية، فهل يعني هذا أنه في حالة وصول أحد أعضاء التيار للبيت الأبيض، على سبيل المثال، سيضع تلك الأجندة موضع التنفيذ؟.