الجذور التاريخية لحق الٍاعتراض(الفيتو)  3/6

سليم يونس

عند العودة لجذور فكرة حق الاعتراض(الفيتو) نجد أنها تمتد في تاريخ تطور الفكر السياسي إلى ما قبل عصر الأمم المتحدة، وكذا عصر عصبة الأمم كأي فكرة من غالبية الأفكار القانونية الداخلية والدولية السائدة اليوم.

وقد ارتبطت تلك القاعدة في أشكالها وأوضاعها المختلفة بأفكار تغلب الإرادة الفردية على ما عداها، وذلك منذ نهاية القرون الوسطى وبداية الأزمنة الحديثة، التي بدأت على أثرها مراحل إعادة تشكيل العالم القديم على المستوى الداخلي والخارجي(1)

 ويمكن الإشارة هنا إلى البدايات الجنينية لحق الاعتراض بالإشارة إلى الصراع الذي قام بين الملوك الرومان من جانب وطبقة الأشراف من جانب آخر، التي ما أن استقر لها الحكم حتى بدأ النزاع بينها وبين طبقة الأشراف، لأن الأشراف بدأوا يسومون أفراد طبقة العامة سوء العذاب، ويستردون منهم ما سبق أن حصلوا عليه في العهد الملكي من امتيازات، فحاولوا تجريدهم من أراضيهم وإرهاقهم بالديون، وإزاء تحكم الأشراف بهم لم يجدوا مفرا من ذلك سوى مغادرة روما وتكوين مدينة مستقلة لهم، مما أثار جزع الأشراف لهذا التمرد، وفي المقابل وجدت طبقة العامة التي صعب عليها أن تعيش وحدها أنه كان ينقصها كل مقومات المجتمع المنظم، الأمر الذي ساهم في تقارب وجهات النظر بين الطرفين، واتفقتا على أن تنظم طبقة العامة في هيئة مجتمع له مجلس شعبي وحاكمان من العامة يتمتعان بحق الاعتراض على أي قرار يصدره الأشراف إذا كان مجحفا بالعامة(2).

كما استخدم حق النقض في الاجتماعات البابوية الخاصة، من قبل بعض الملوك

الكاثوليك في فرنسا والنمسا وإسبانيا، بأن تدخلوا لمنع ترشيح كرادلة لمنصب البابا(3).

ومن جانب آخر ساهم زحف النظام الرأسمالي على النظام الإقطاعي عند فجر العصر الحديث وإقصاء الكنيسة عن السلطة الزمنية في مقابل إطلاق سلطة الملك في شؤون الدول، في ظهور قاعدة الاعتراض في النظام الداخلي بوضوح أكثر، ففي سبيل تعزيز سلطات واختصاصات الملك وإضعاف سلطة الكنيسة والإقطاعيين ابتدع أنصار النظام الرأسمالي الجديد هذه القاعدة، لكي يتمكن الملك من إبطال التشريع والقضاء أو التصرفات أو الأعمال التي لا يرغب في مرورها، وذلك في مواجهة المجالس التمثيلية والكنيسة والهيئات القضائية أو الإدارية، كتعبير عن سيادة الملك المطلقة، وقدرته غير المحدودة على تقرير شؤون السياسة دون قيد أو ضابط خارجي، بمعنى أن هذه القاعدة أعطت الملك الحق في أن يكون فوق القانون ومؤسساته عن الطريق الوضعي.

وقد كانت هذه القاعدة إلى جانب نظرية الحق الإلهي أساسا سياسيا وقانونيا لتأكيد السلطة الداخلية المطلقة للملوك في مواجهة القوى والمؤسسات القديمة الراحلة، التي أصبحت كذلك في مواجهة القوى الجديدة الناشئة النامية فيما بعد.

ومن ملامح تطبيق هذا المبدأ في الدساتير الحديثة والمعاصرة بوجه عام، هو وجوب

موافقة الملك أو رئيس الدولة على التشريعات، أو بعض الأحكام القضائية لدخولها حيز التنفيذ، فتعطي هذه الدساتير لرئيس الدولة حق الاعتراض(الفيتو) على بعض المسائل بالتنصيص على ذلك صراحة كالدستور الأمريكي، الذي يعطي للرئيس مكنة نقض قرارات مجلس الشيوخ التي يرى أنها لا تتوافق مع سياسته.

أما على الصعيد الخارجي فقد شكلت هذه القاعدة حجر الأساس لتأكيد السلطة الدولية للوحدات السياسية الجديدة المستقلة التي لا تتأثر نسبيا بأي هيئة داخل حدود أراضيها أو خارجها، بما يكفله ذلك الحق من ضمان الوجود الدولي لهذه الوحدات في مواجهة بعضها البعض على قدم المساواة القانونية في المحافل الدولية.

ومع تنامي ظاهرة تشكل الشعوب في دول محددة إقليميا وسياسيا في القرن السابع عشر والثامن عشر، أدى ذلك بدوره إلى انتشار ظاهرة الدول العسكرية الكبرى، بما رتبه ذلك الوضع بمجمله من بروز الحاجة لإيجاد قواعد عامة تحكم العلاقات الدولية، ومن ثم الاتفاق على أحكام معينة شكلت نواة القانون الدولي العام في العصر الحديث.

فحق الاعتراض كمفهوم قانوني في النظام الدولي، كان هو الأداة الأكثر تجاوبا مع النزعات الفردية لكل دولة من هذه الدول المتكاثرة التي كانت هي وسادتها الطغاة وملوكها الذين ارتقوا العروش بمقتضى الحق الإلهي، لا تريد الاعتراف بوجود سلطة أعلى من سلطتها أو سلطتهم.

وفي هذه المناخات ولد حق الاعتراض في النظام السياسي الدولي وفي القانون الدولي العام، كوسيلة لتأكيد السيادة المطلقة للدول في المنظمات الدولية من جهة، وكقدرة تتمتع بها الدول تمنع بموجبها باسم القانون مشاريع القرارات التي لا تتفق ومصالحها الخاصة، وهكذا انتقل هذا الحق بموضوعه الأساسي من النظام الداخلي إلى النظام الدولي بمجرد توفر شروط قیامه(4).

ففي مراحل تاريخية معينة فرض نظام توازن القوى بين الدول الكبرى النص على قاعدة حق الاعتراض كأساس لتكوين القرار في المنظمات الدولية، كقدرة قانونية تتمتع بها كافة الدول في مواجهة بعضها البعض، أو في مواجهتها القوى الدولية الصاعدة على المسرح الدولي، وذلك باشتراط إجماعها بصدد قرارات المنتظم الدولي، وتستطيع أي دولة تتمتع بحق الاعتراض أن تحول دون صدور أي قرار قابل لاستعمال هذا الحق باعتراضها على مشروع القرار بسلبه إمكانية الوجود القانوني.

ومن أمثلة استعمال حق الاعتراض في الحياة الدولية في الفترات السابقة على ظهور عصبة الأمم، ما جرى في مؤتمر لندن الذي عقد عام 1875، عندما تسبب اعتراض ألمانيا في عدم تحقيق الإجماع بين تلك الدول، الأمر الذي حال دون تحقق الإجماع في ذلك المؤتمر جراء اعتراض ألمانيا، وهو ما حال دون عرض مشروع المعاهدة الخاصة بالتحكيم الإجباري في حالة المنازعات الدولية على التصويت، وذلك رغم موافقة غالبية الدول المشتركة في هذا المؤتمر على مشروع المعاهدة.

ويرى بعض الشرّاح أن مبدأ الإجماع في التصويت، وهو أساس قاعدة حق الاعتراض، لم يكن غريبا باعتباره القاعدة العامة المتبعة في التصويت في المنظمات الدولية التي ظهرت في الفترات الأولى من تاريخ تلك المنظمات، حيث النزعة الفردية وقتئذ كانت      تأخذ بزمام العلاقات الدولية وتهيمن على حركتها، لأنه لم يكن من المتصور أو على الأقل لم يكن من الشائع أن تلتزم دولة ما بأمر لم توافق على الالتزام به(5).

ويبدو في المقابل غريبا ومجحفا وغير عادل في الوقت ذاته، أن تتمتع قلة من الدول دون غيرها بهذه المكنة في مواجهة بقية دول العالم، حتى يكاد يقترب تمسكها بهذا الامتياز، وكأنه حق إلهي مرتبط بذوات تلك الدول دون غيرها، وهذا ما لا تقبل به البشرية في سعيها نحو عالم أكثر عدالة وأمنا وسلاما، إذا ما كانت إرادتها حرة من أي إكراه أيا كانت طبيعته.

المصادر

1- المصدر السابق ذكره، صفحة، صفحة 959-962.

2- د. محمد اللافي، د. منصور ميلاد يونس، مصدر سبق ذكره، صفحة66.

https//www.dw.com -3

4- محمد العالم الراجحي، مصدر سبق ذكره، صفحة 402.

5- المصدر السابق، صفحة 17-18.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى