الحركة الصهيونية ويهود المغرب
دراسة : سليم الزريعي
لم تكن الحركة الصهيونية بحاجة لأي جهد لإقناع يهود المغرب بالهجرة ضمن المشروع الكولنيالي للحركة إلى فلسطين، خلافا لليهود الأرثوذكس “الحريديم” الذين يؤمنون بأن إقامة مملكة الرب في فلسطين هي صناعة إلهية على يد “المخلص” فقط، ومن ثم فإن أي محاولة لإقامة الدولة بالفعل البشري تعتبر كفراً لا يمكن التعامل معه،(1)
ومن ثم فإن سلوك اليهود المغاربة يكشف أنهم كانوا صهاينة قبل أن يكونوا متدينين ، ذلك أن الأوساط الشعبية اليهودية في أوروبا كانت تعتبر أن العودة لفلسطين أمر رباني يشترط ظهور المخلص (المشياح)، ولذلك دلس الحاخامات عليهم بأن أوهموهم أن قيام الدولة وقوتها بالفعل البشري حتى من غير المتدينين (العلمانيين) يساعدان “المخلص” “يهوه” في إقامة دولة اليهود الربانية، مدعين أن هؤلاء الصهاينة العلمانيين هم أداة الربّ لتحقيق الخلاص وتقريب مجيء “المخلص” من خلال تجديد الاستيطان في “أرض إسرائيل”، وأن أفعال هؤلاء العلمانيين موجّهة من الرب، رغم عدم معرفتهم بذلك.(2)
ويمكن ربط هذا الاندفاع اليهودي المغربي نحو الهجرة إلى فلسطين؛ وهم يعلمون أنها عامرة بأهلها، بنزعة اليهود الانفصال عن الدولة المغربية، ومثال ذلك، حالة يهود فاس التي عرض محمد كنبيب هذه الواقعة في رسالته الجامعية عن المحميين، معتبرا إياها إحدى المحاولات الأكثر جرأة ووقاحة لتأكيد استقلالية “الإسرائيليين”، وأوردها العلامة محمد المنوني في كتابه عن المصادر العربية لتاريخ المغرب تحت عنوان “تجاوز يهود فاس لتبعيتهم المغربية”.(3)
وكذلك نزعة الطغيان الذي اتسم به سلوك المستفيدين من اليهود من نظام الحماية القنصلية وهو نظام يتيح للمستفيد منه عدم الخضوع لقوانين دولته الأصلية، وقد شكل الخطوة الأولى للتغلغل الاستعماري في المغرب(4).
وهذا يؤسس نظريا على الأقل إلى أن هذا النزوع قد تضخم مع ظهور الحركة الصهيونية عام 1897، التي وجدت في يهود المغرب التجسيد السياسي لأفكار الحركة الصهيونية الذي أدى لوجود أرضية فكرية وسط اليهودية المغربية ذات قابلية لاستيعاب الأطروحات الصهيونية وإعادة استنباتها في الداخل إلى تبلور نشاط تنظيمي متصاعد للصهيونية المغربية، فمنذ بداية القرن العشرين توالى تشكيل الخلايا الصهيونية في المدن المغربية. ونشطت حركة جمع التبرعات المالية لصالح اليهود المهاجرين بفلسطين، كما تغلغلت الدعاية الصهيونية وسط التجمعات (5) اليهودية.
والملفت للنظر أن النشاط الصهيوني قد تسرب ليهود المغرب منذ عام 1893 مع قدوم الدكتور زيميغ سبيفاكوف (صهيوني روسي) إلى المغرب أي قبل الإعلان رسميا عن ميلاد الحركة الصهيونية في بازل 1897، إلى أن بُدء في تأسيس خلايا صهيونية محلية عام 1900(6).
وبهذا المعنى لم يكن يهود المغرب بعيدين عن سهام الحركة الصهيونية العالمية، بل كانوا على العكس من ذلك من الأولويات منذ نشوء الحركة، فخلال المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في سويسرا سنة 1897، تحدث تيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية عن 150 ألف يهودي في المغرب، يعيشون في الفقر والتهميش في المغرب، حسب زعمه، وخلال المؤتمر الرابع وعد هرتزل بتوسيع الدعاية الصهيونية في آسيا وشمال أفريقيا، وقرر إرسال عضو من المنظمة إلى المغرب، لأن يهود المغرب – حسب هرتزل – هم من أكثر الشعوب القادرة على التأقلم السريع مع أسلوب الحياة في الأراضي المقدسة، وخلال المؤتمر الخامس أعلنت المنظمة عن وجود تجمعات صهيونية بكل من فاس وطنجة وتطوان والصويرة ومراكش، هذه التجمعات أرسلت رسائل تأييد للمؤتمر من بلاد المغرب(7).
وبعد المؤتمر الصهيوني الرابع الذي فيه وعد تيودور هرتزل ببذل الجهد لنشر الدعاية الصهيونية في أفريقيا وآسيا، ففي عام 1900 أنشأ ديفد بوحبوط (يهودي مغربي) تنظيم “أبواب صهيون” بالصويرة، وفي نفس الفترة أسس تنظيم “عودة إلى صهيون” بتطوان على يد الصهيوني الروسي ي. بارليافسكي، وتوالى في نفس العام إنشاء خلايا صهيونية بكل من طنجة ومراكش، وأعلن في المؤتمر الصهيوني الخامس عام 1901 عن حصيلة إنشاء التجمعات والخلايا الصهيونية بالمغرب.
وانخرط في عملية التأسيس للخلايا الصهيونية عدد من الأحبار البارزين وسط اليهود المغاربة مثل رفائيل أبنسور، ومورد خاي سيرينو شلومو بن دكان، وفيدال سرفاتي، كما أعلن حاخام مكناس يشوع بردوكو عن تأسيس حزب صهيون وذلك في المركزية الصهيونية المنعقدة بكلوني، وقد احتل هذا الحاخام منصب الحاخام الأكبر للمغرب في الأربعينات(8).
وكان لصدور وعد بلفور وقرارات مؤتمر سان ريمو أن أوجدت مناخا محفزا عند اليهود المغاربة، فتكاثرت عمليات إنشاء الخلايا الصهيونية في المدن وارتفعت عمليات شراء الشيكل، كما برزت الاستعدادات الميدانية للهجرة والتي انطلقت فعليا في 1919″.
ونظرا لمعارضة الإقامة العامة الفرنسية للنشاط الصهيوني بالمغرب بدأ فرع المنظمة الصهيونية بلندن يعمل على إعادة تنظيم العمل الصهيوني بالمغرب، من بينهم الصهيوني المالح في 1923 والصهيوني هالبرن في 1925. إلا أن الانعطاف الكبير في النشاط الصهيوني بالمغرب حصل مع استقالة المقيم العام الجنرال ليوطي في سبتمبر1925 ومجيء مقيم عام جديد ثيودور سنيغ الذي كان لا يشاطر مواقف المقيم السابق تجاه الحركة الصهيونية.(9)
وتزامن ذلك مع قدوم تاجر بولوني ج. تورز كممثل عن المنظمة الصهيونية العالمية للإشراف على تنظيم العمل بشكل مركزي في 1924، وأثمرت جهوده في 1926 إصدار جريدة صهيونية محلية سميت بـL` avenir Illustré (المستقبل المصور) يوم 22 يوليو 1926 شكلت الذراع الإعلامي للنشاط الصهيوني المغربي. كما أعلن رسميا في مايو 1926 عن الاتحادية الصهيونية بفرنسا – فرع المغرب ورأس اللجنة التنفيذية للفرع س. ليفي، واشتغل ش. أوحنا ككاتب وج. بنزيراف كخازن.(10)
وبدءا من عام 1926 أخذت حملات جمع التبرعات تتم بشكل علني، ونشطت جريدة “المستقبل المصور” في الدعاية للمؤسسات المالية الصهيونية خصوصا الصندوق القومي اليهودي الذي افتتح فرعا بمدينة الدار البيضاء، حيث كانت تنشر دعوته لليهود المغاربة من أجل المساهمة في الاكتتابات التي كان يفتحها بمختلف المناسبات اليهودية أو الصهيونية.
ومع أن الظهور إلى العلنية في النشاط الصهيوني بالمغرب بدأ منذ 1926 فإن البروز الكبير حصل مع أحداث ثورة البراق الشريف عام 1929، بأن كشف اليهود المغاربة عن صهيونيوتهم بانخراطهم القوي في دعم المشروع الصهيوني، ولهذا أسماها روبير أصراف الصهيوني المغربي “بالصدع الأول”. وأورد محمد كنبيب مراسلة لوزارة الخارجية الفرنسية مؤرخة في 3 مارس/ آذار 1929 تعرض خبرا عن اجتماع اليهود في البيعة الكبرى بالرباط للاستماع إلى قراءة البرقيات الموجهة من طرف الحاخام الأكبر إلى رئيس الجماعة اليهودية بمكناس، كما تم افتتاح الاكتتاب لصالح أحداث فلسطين، كما أن سلطات الحماية الاستعمارية رخصت للمواطنين اليهود بتنظيم عملية جمع الإعانات بشرط أن يوجه ريعها بالكامل إلى إخوانهم بالقدس، وبلغت التبرعات 120 ألف فرنك فرنسي.
وللإشارة فقد كان لذلك انعكاسه على المغاربة المسلمين، حيث نهض بعض الشباب الوطنيين للمطالبة بالحق في التعبير عن التضامن مع المسلمين ضحايا أحداث القدس الشريف، معتبرين أن ما حصل في الملاحات من عمليات لجمع التبرعات سابقة وهو ما شكل إرهاصا لبروز التناقض اليهودي-الإسلامي بالمغرب إزاء عملية الاغتصاب الصهيوني لفلسطين. إلا أنه سرعان ما خفت بسبب انشغال الحركة الوطنية بالنضال ضد الاستعمار.(11)
وعلى صعيد مواز بدأ اليهود المغاربة يتابعون أشغال المؤتمرات الصهيونية العالمية منذ 1921 إذ أرسل المغرب مندوبا إلى المؤتمر الثاني عشر، إلا أن مشاركة اليهود المغاربة كانت سلبية بالنظر إلى أن المناقشات داخل المؤتمرات كانت تتم باللغة اليديشية (لغة يهود أوروبا الوسطى) التي كانت مجهولة من طرف اليهود المغاربة. (12)
وفي يونيو 1946 عقد المؤتمر الجهوي الفيدرالي للصهيونية في المغرب بالدار البيضاء وشارك فيه 50 عضوًا، من أجل «دعم الهدف السامي للحركة الصهيونية الذي هو تحرير الشعب اليهودي وإقامة دولة يهودية ديمقراطية على أرض إسرائيل»، وكان ذلك أول إعلان صريح عن انشقاق غالبية اليهود المغاربة عن البلد الذي عاشوا فيه لأكثر من 2000 سنة.(13)
ومع مجيء الحرب العالمية الثانية وصدور قوانين فيشي النازية للتمييز ضد اليهود تراجع تأثير الرابطة الإسرائيلية العالمية وأخذت قوة الحركة الصهيونية داخل اليهود المغاربة تقوى بحيث تمكنوا من “احتكار تمثيلية يهود المغرب في المؤتمر اليهودي العالمي بأتلانتك ستي في أميركا نوفمبر/ تشرين الثاني 1944، ضمن جدول أعمال المؤتمر المطالبة برفع القيود الإنجليزية التي تحد من الهجرة نحو فلسطين وتنشيط مساعي تأسيس دولة يهودية, ومما ساعدهم على احتكار تمثيلية المغرب هو تحكمهم في عملية توزيع الإعانات الخارجية الموجهة لسكان الملاحات.
وقد مثل يهود المغرب في المؤتمر كل من س.د. ليفي وبروسبير كوهين وموشي مارسيانو والتحق بهما في أميركا يهوديان من أصل طنجاوي ومستقران بنيويورك وهما حاييم توليدانو وجاك بنتو، وكونوا لجنة أميركية ليهود المغرب. وقد انتخب س. ليفي كنائب لرئيس اللجنة السياسية للمؤتمر وركز تدخلاته على شعار “بنو إسرائيل في أرض إسرائيل” وعلى الأهمية الحيوية التي أصبحت تكتسيها الجماعات اليهودية بالمغرب بعد إبادة خمسة ملايين يهودي في أوروبا، وركز على ضرورة المساعدات المادية التي لعبت دورا في ازدياد تقبل جماهير اليهود للبرنامج الصهيوني، وظهر آنذاك الدور الأميركي في دعم الصهيونية المغربية. (14)
الهوامش
1- د.أمين محمود، الصهيونية الدينيةـ 1/9/2020، ttps://www.ammonnews.net/
2- د.أمين محمود، المصدر السابق.
3- مصطفى الخلفي، يهود المغرب والتعايش اليهودي العربي، 22/12/2004، ttps://www.aljazeera.net
4- مصطفى الخلفي، المصجر السابق.
5- مصطفى الخلفي، المصدر السابق.
6- مصطفى الخلفي، المصدر السابق.
7- المهدي الزايداوي، فهود السافارديم: كيف أفرغت الصهيونية المغرب من يَهودِه؟ 23/05/2021، https://www.ida2at.com
8- مصطفى الخلفي، مصدر سبق ذكره.
9- مصطفى الخلفي، المصدر السابق.
10- مصطفى الخلفي، المصدر السابق.
11- مصطفى الخلفي، المصدر السابق.
13- مصطفى الخلفي، المصدر السابق.
13- المهدي الزايداوي، فهود السافارديم: كيف أفرغت الصهيونية المغرب من يَهودِه؟ 23/05/2021، https://www.ida2at.com
14- مصطفى الخلفي، مصدر سبق ذكره.