السلطة الفلسطينية.. فقدان القدرة على الرؤية والقراءة
سليم يونس
إن بروز التناقضات داخل الكيان الصهيوني بهذا الشكل الحاد المتفجر بعد الانتخابات الأخيرة، يعني للمتابع أن حدة التناقض بلغت مرحلة متقدمة، في تجمع المستجلبين الصهاينة إلى فلسطين ضمن مشروع الحركة الصهيونية الذي بدأ نهايات القرن التاسع عشر كمشروع استيطاني كولنيالي عملت أوروبا الاستعمارية والمسيحية الصهيونية على وجودة في فلسطين، حتى بات منقسما بهذا الشكل الذي جعل رئيس الكيان الصهيوني يتسحاق هرتسوغ يقول: “أنظر إلى المجتمع الإسرائيلي والمواطنين والنظام السياسي والعامة. فأرى المعسكرات مهيأة وجاهزة على طول الجبهة لمواجهة شاملة على صورة دولة إسرائيل. وقلق للغاية من أننا على شفا صراع داخلي يمكن أن يلتهمنا”.
ومفهوم الالتهام قد يبدو جراء فعل داخلي هذه المرة، نتيجة كم التناقضات الفكرية والمجتمعية والسياسية في مكونات هذا التجمع من المستجلبين وهو صحيح لجهة التوصيف، ولكن من سعر هذه التناقضات ومنع هذه التجمع من الانصهار وتنفيذ عملية التخلص من وجود الشعب الفلسطيني على غرار النموذج الأمريكي والنيوزلندي والاسترالي إضافة إلى عوامل داخلية تخص الكيان هو الوجود الفلسطيني في ذاته، ليكون النموذج الجزائري والجنوب أفريقي هو الحاضر في وعي نخب هؤلاء المستجلبين منذ بداية تشكل الكيان، وهو أن وجودهم في فلسطين مهما طال هو وجود مؤقت.
وغياب هذه المقاربة يجعل البعض يرى أن ما يجري داخل الكيان هو أمر مفاجئ، ربما في الشكل نعم ، ولكنه في الجوهر يتعلق بعملية التجميع لكل هذا الطيف من المستجلبين من أعراق وجنسيات وحضارات مختلفة وحتى متناقضة، في سياق مشروع إحلال هذا الخليط غير المتجانس محل الشعب الفلسطيني، ومن ثم فإن هذا الاشتباك السياسي الراهن يأتي كأحد تجليات صيرورة أزمة الكيان الصهيوني البنيوية في تحولاتها وتمظهراتها المختلفة.
لكن القراءة الأعمق والأشمل لما يجري في هذا التجمع الاستيطاني من شأنها أن تكشف أن استمرار التناقض التناحري مع أصحاب الأرض في مستوياته المختلفة وأشكاله العنفية والناعمة على مدي عقود هو عامل مقرر في عمق تسعير هذا التناقض الصهيوني الداخلي، فيما شبح النموذج الاستيطاني الغربي في الجزائر وروديسيا وجنوب أفريقيا يلقي بظلاله الكثيفة على هذا التجمع في حضور أصحاب الأرض كفاعل مقرر في ذلك .
ومرد ذلك أن أصحاب الأرض في المظهر العام بعيدا عن تهافت البعض الفلسطيني وتماهي جزء مهم للأسف من النظام الرسمي العربي في نتائج المشروع الصهيوني، ظل الفلسطيني مصرا ويعمل عبر تحصين الذاكرة والتمسك بحقه في وطنه كاملا غير منقوص في ظل ميزان قوى مختل؛ لكنه متحرك باتجاه مراكمة ممكنات القوة الفلسطينية على طريق إنهاء هذا المشروع الصهيوني في فلسطين.
وهنا يبدو الانفصام الفلسطيني والعربي لأولئك الذي يعتقدون أن الكيان الصهيوني سيعمر طويلا ، في غياب قراءة واقع الكيان الصهيوني الذي هو من الداخل عبارة عن تجمع مستجلبين من 100 إثنية بكل ما يحويه من تناقضات وتضارب مصالح. وفي حضور العامل الفلسطيني الكفاحي الديمغرافي الذي يعمل على استرداد حقوقه بكل الوسائل العنفية وغير العنفية، الذي جعل أمر استمرار الكيان في نظر الصهاينة مدة أطول محل شك.
ولا يمكن والحال هذه اعتبار أن الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ منحازا لوجهة نظر الغالبية الفلسطينية التي تؤمن وتعمل على إنهاء هذا الوجود الصهيوني في وطنها من “انهيار بلاده خلال سنوات، مذكرا بدولتي “مملكة داود” و”الحشمونائيم” اللتين لم تصمدا لأكثر من 80 عاما”. وخوف الرئيس الصهيوني من مصير مملكة داوود لا يمكن التعاطي معه على أساس أنه يهدف للتحذير من أجل توحد المستجلبين الصهاينة، حتى وإن كان كذلك، لأنه في العمق هو توصيف لواقع قائم، كونه يرى كما قال: “أمام عيني الانقسامات في داخلنا، التي تزداد عمقا، ولا يسعني إلا أن أتذكر أنه مرتين في التاريخ – خلال عهدي مملكة بيت داود والحشمونيين (الحشمونائيم) – نشأت دولة يهودية في أرض “إسرائيل”؛ وانهارت مرتين قبل أن تبلغ الثمانين من عمرها”.
لكن إذا كان هذا الخوف الذي عبر عنه رئيس الكيان الصهيوني، هو انعكاس لوعي بالسيرورة النهائية لهذا الكيان المؤقت في فلسطين، فإن المأساة هي في الجانب الفلسطيني المتنفذ الذي سلم مبكرا بديمومة الاحتلال، وهو ما جعله يقايض على وهم حل الدولتين، ويتنازل عن 78% من فلسطين مقابل وعد بدولة على أجزاء من الضفة دون القدس، دون أن يرى أن الكيان يتآكل بفعل مأزقه البنيوي، بهذا الكم من التناقضات، وفشله في عملية صهر كل هذه الإثنيات ضمن نسيج واحد ، مما جعل الكثير من السياسيين والمفكربن والقادة العسكريين وفئات واسعه من هذا التجمع تصل لقناعة أن وجود الكيان الصهيوني في فلسطين هو وجود مؤقت.
والسؤال لماذا هذا الوهن وقصر النفس لدى الجانب الفلسطيني الذي لا يريد أن يرى أو يقرأ كل ذلك المأزق البنيوي الصهيوني وتجلياته، ويصر ليس على استمرار التمسك بالوهم، وإنما في التنسيق الأمني مع كيان الاحتلال؟ وهو التنسيق الذي للأسف يهدف إلى مد العدو بالمعلومات من أجل مواجهة فرسان الوطن من المقاومين وتحييدهم، وهو دور” قذر” لأنه يستهدف بالشراكة مع الاحتلال ظاهرة الكفاح المسلح الذي هو حق طبيعي للشعب الواقع تحت الاحتلال من أجل الخلاص منه.
إن حديث رئيس الكيان عن نهاية الكيان هو حديث مطروح بقوة داخل هذا التجمع الاستيطاني ويعكس سيرورته الحتمية، لكن هناك طرف فلسطيني لا يريد أن يصدق ذلك، ويتجاهل حقيقة أن وجود الكيان الصهيوني هو وجود مؤقت كما يؤكدون هم، ويستمر في شراء الوهم من كيان يسير نحو نهايته المحتومة.. ليكون السؤال في أي خندق تقف سلطة فقدت الرؤية والقدرة على قراءة الواقع في فلسطين..؟!