السودانيون دفعوا ثمناً باهظاً للتخلص من نظام البشير، فكيف كافأتهم واشنطن؟
على مدى ثلاثة عقود عانى السودان من نظام عمر البشير من ناحية ومن العقوبات التي استهدفته بسبب حقوق الإنسان ورعاية الإرهاب من ناحية أخرى، وبعد أن ثار السودانيون وقدموا تضحيات باهظة وأسقطوا البشير، كيف كانت المكافأة؟
من الذي دفع ثمن العقوبات؟
منذ وصول عمر البشير إلى حكم السودان في انقلاب عسكري عام 1989، تعرضت البلاد على مدى ثلاثة عقود لعقوبات ربما لم تتعرض لها سوى حفنة قليلة من الدول، والسبب الرئيسي لتلك العقوبات الأمريكية والغربية كان قمع البشير لشعبه وسجله السيئ في مجال حقوق الإنسان ورعايته للإرهاب.
وتسببت تلك العقوبات ووضع السودان في تلك القائمة السوداء (قائمة الدول الراعية للإرهاب) في عزل البلاد عن النظام المالي العالمي وهو ما أضعف الاقتصاد السوداني بصورة يصعب وصفها رغم موارد البلاد المتنوعة، وزادت الأمور سوءاً جراء الفساد المستشري في نظام البشير.
وكان الشعب السوداني هو الضحية المباشرة لتلك العقوبات وذلك الفساد، بينما البشير نفسه وقادة نظامه لم يتأثروا من الأساس بل ازدادوا غنى ونفوذاً وسلطة، وحتى العقوبات التي طالت البشير نفسه وبعض كبار المسؤولين في نظامه وأوامر القبض عليهم من التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحقهم كانوا محصنين منها ولم تنفذ على مدى سنوات طويلة.
وفي المقابل، دفع السودانيون فاتورة العقوبات كاملة، من حيث تدهور مستوى المعيشة والخدمات الأساسية وفرص العمل وحتى فرص الهجرة للولايات المتحدة بحثاً عن فرصة أفضل، حيث تم حظر دخول المولودين في السودان إلى الولايات المتحدة.
وأخيراً أسقطت الثورة نظام البشير
ومنذ 19 ديسمبر عام 2018، اندلعت الثورة في السودان بعد أن تردت الظروف المعيشية إلى مستوى يستحيل تحمله بسبب الارتفاع الضخم في أسعار المواد الأساسية كالخبز والوقود وغيرهما ووصول الفساد إلى مستويات غير مسبوقة، وهكذا بدأت ثورة استمرت موجاتها هبوطاً وصعوداً وقدم خلالها السودانيون تضحيات بشرية كبيرة بين قتلى ومصابين دون أن تخمد ثورتهم أو تنهار عزيمتهم في وجه قمع نظام البشير المدجج بالسلاح.
وفي إبريل/ نيسان 2019 أعلن الجيش السوداني عزل البشير واعتقاله وتشكيل مجلس عسكري انتقالي لإدارة شؤون البلاد لمدة عامين وفرض الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر، لكن ذلك لم ينجح في كسر إرادة السودانيين أو شق صفوف الثورة، فتواصل الاعتصام والاحتجاجات حتى تم التوصل لاتفاق سياسي تم بموجبه مشاركة قوى الحرية والتغيير السلطة مع المجلس العسكري وتشكيل ما يعرف باسم مجلس السيادة.
وأدى الدكتور عبدالله حمدوك اليمين الدستورية رئيساً للوزراء في 21 أغسطس/ آب عام 2019، في مؤشر على نجاح السودانيين في التخلص من نظام البشير بصورة أبهرت العالم وأصبح السودان وشعبه مثار إعجاب في الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، فكيف كانت المكافأة للشعب السوداني؟
وجاء وقت المكافأة
ونتوقف هنا عند تصريحات حمدوك عقب توليه المهمة: “إن المرحلة المقبلة تتطلب تضافر جهود أبناء الوطن وتوحيد الصف لبناء دولة قوية”، مشيراً إلى “امتلاك السودان لموارد كافية لجعل البلاد دولة قوية في القارة الإفريقية”، وأضاف: “سيتم تحديد الأولويات في الفترة الانتقالية، ومهمة الحكومة هي بناء مشروع وطني لا يقصي أحداً”.
وبالفعل نجحت الحكومة الانتقالية في توقيع اتفاق سلام مع الفصائل في غالبية أقاليم البلاد، لكن ظل الاقتصاد يواجه صعوبات ضخمة وهو أمر مفهوم فالتركة ثقيلة، وهكذا بدأ حمدوك مشاوراته مع المؤسسات المالية الدولية لتقديم مساعدات تحتاجها البلاد بشدة، لكن تلك المساعدات لم تأتِ وتأخرت بصورة لم تكن مفهومة في البداية.
وفي يوم 30 سبتمبر/أيلول الماضي – أي بعد أكثر من عام كامل من تولي الحكومة الانتقالية مهامها – نشرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية تقريراً بعنوان “تعثر ضغوط الولايات المتحدة على السودان من أجل الاعتراف بإسرائيل واضعاً الخرطوم في مأزق”، كشف بوضوح أن رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب مشروط بتطبيع السودان علاقاتها مع إسرائيل.
القصة بالطبع لم تكشف عن أسرار غائبة عن المشهد، فمنذ زيارة حمدوك للولايات المتحدة وفرنسا في سبتمبر/أيلول عام 2019 وعودته إلى السودان دون رفع الخرطوم من لائحة الإرهاب الأمريكية، بدأ الحديث عن اشتراط التطبيع مع إسرائيل في شكل تسريبات من هنا وهناك، ثم جاء لقاء رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سراً مطلع العام الجاري لتصبح الصورة واضحة.
“ابتزاز” لشعب يستحق المكافأة
الحقيقة العارية هنا هي أن ما يحدث مع السودان يستحق أن يكون دراسة حالة لكيفية تصميم وتنفيذ قوانين حقوق الإنسان من جانب القوى الكبرى وتحديداً الولايات المتحدة، بحيث تؤدي أغراضاً ومصالح سياسية لا علاقة لها بمعاناة الشعوب التي من المفترض أن تحميها تلك القوانين، بحسب مقال تحليلي لصحيفة الغارديان البريطانية عنوانه “مكافأة السودان على ثورته عن طريق الابتزاز”.
والقصة هنا هي أن الخيار الذي تفرضه واشنطن على الحكومة الانتقالية في السودان هو ببساطة إما التطبيع مع إسرائيل وإما استمرار معاناة الشعب السوداني اقتصادياً، وهو ما لا يمكن اعتباره خياراً من الأساس، فمعاناة السودانيين بسبب الأوضاع المعيشية مستمرة وتزداد سوءاً كل يوم وأصبح مشهد الطوابير أمام محطات الوقود وأماكن وجود الخبز والمواد الأساسية هو المشهد الأبرز على مدى الأشهر الماضية.
واللافت هنا هو تلك التغريدة التي أعلن فيها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن قراره أخيراً برفع اسم السودان من اللائحة السوداء، مشيراً إلى موافقة الخرطوم على دفع 335 مليون دولار لضحايا إرهاب نظام البشير قائلاً “تحققت العدالة للأمريكيين”، ما يطرح سؤالاً عن العدالة للسودانيين؟
تغريدة ترامب بالطبع لم تشِر إلى موافقة الحكومة الانتقالية في الخرطوم على توقيع اتفاق التطبيع مع إسرائيل بالفعل، مما يعني أن “الابتزاز الأمريكي” قد نجح في تحقيق هدفه، وأعلن نتنياهو عن منح السودان قمحاً بقيمة 5 ملايين دولار، فهل تستقر الأمور للحكومة الانتقالية بالفعل وتبدأ حياة السودانيين في التحسن أم أن رفض التطبيع سيكون حصان طروادة لبقايا نظام البشير كي يعودوا مرة أخرى للواجهة وتستمر معاناة الشعب السوداني؟