الصين لا تتسامح مع انتقاد النظام.. هل مصير مؤسس “علي بابا” الإقامة الجبرية أم السجن؟
من هو جاك ما وماذا فعل؟
جاك ما هو ملياردير صيني يبلغ من العمر 56 عاماً، وكان يعمل مدرساً للغة الإنجليزية، ثم أسس شركة “علي بابا” العالمية للتجارة الإلكترونية، وهي تعتبر النسخة الآسيوية من عملاق التجارة الإلكترونية أمازون، وتزيد ثروته الشخصية عن أكثر من 48 مليار دولار.
وكانت علاقة الملياردير الصيني بالنظام الشيوعي الحاكم علاقة وطيدة، حتى أكتوبر/تشرين الأول 2019، عندما ألقى كلمة في قمة Bund في شنغهاي أمام كبار المسؤولين، وجه فيها انتقادات حادة للإجراءات التنظيمية التي أدخلتها بكين والبنوك المدعومة من جانب الدولة على أنظمة الإقراض لشركات التجارة الإلكترونية وشركات المدفوعات الرقمية، واصفاً المسؤولين التنظيميين بالعمل بعقلية “متاجر الرهن”.
وحذر جاك ما في خطبته المندفعة من أن النمو الاقتصادي سيتأثر إذا حُرمت الشركات المبتكرة من الاقتراض، وشبّه اللوائح المصرفية العالمية بـ”نادٍ للعَجَزَة”.
كيف ردت الصين؟
وجاء الرد من جانب بكين بصورة شديدة الصرامة، إذ سارعت بفرض إجراءات صارمة وغرامات وتحقيقات في ممتلكات جاك ما العديدة. وأصبح مدرس اللغة الإنجليزية الذي تحول إلى رمز عالمي للقطاع الخاص المزدهر في البلاد معادياً للدولة الصينية الآن، ونتيجة لذلك تراجعت أسهم علي بابا بمقدار الربع منذ وصولها إلى الذروة، بعد وقت قصير من خطاب أكتوبر/تشرين الأول، وهو ما أدى إلى خسارته أكثر من 10 مليارات دولار من أمواله.
وبدأ تدخل بكين الصريح في نوفمبر/تشرين الثاني، بعد تفكك عملية التعويم المخطط لها، البالغة قيمتها 37 مليار دولار لمجموعة آنت في شنغهاي وهونغ كونغ -التي كانت ستصبح الأكبر في العالم لتتفوق على شركة أرامكو السعودية- بشكل فجائي عشية الاكتتاب العام الأوّلي. وتوقف التعويم بعد تشديد المنظمين الماليين للقيود على الإقراض عبر الإنترنت. وأُبلغ جاك بأن حجم القروض سيتقلص وبأنه سيتعين على المُقرضين الجدد امتلاك قدر أكبر من رأس المال.
ومجموعة آنت، ومقرها هانغتشو، مملوكة بنسبة 33% لشركة علي بابا، إحدى أكبر شركات التجارة الإلكترونية في الصين، وبلغت عائداتها 510 مليارات يوان (78 مليار دولار) العام الماضي. ونشأت شركة آنت عن تطبيق Alipay الذي تم إطلاقه عام 2003، وهو عبارة عن خدمة دفع مقدمة من شركة علي بابا تُمكِّن مستخدميها من الدفع مقابل شراء البضائع عبر الإنترنت. وتوسعت فيما بعد إلى الإقراض الاستهلاكي، وربطت بين المقترضين والمقرضين. وتتنافس Alipay، التي يستخدمها أكثر من 730 مليون شخص شهرياً، مع Wechat Pay، المملوكة لشركة Tencent، شركة التواصل الاجتماعي العملاقة، وكلاهما أصبح بديلاً شائعاً للنقود السائلة.
وتزايد تدقيق بكين هذا الأسبوع بعدما تبين أن المنظمين الصينيين كانوا يراجعون استثمارات الأسهم الخاصة بشركة آنت، ما قد يجبرها على تصفية حصصها في الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا والتكنولوجيا المالية التي يُعتقد أنها تخلق منافسة غير عادلة.
وهذا التدخل يهدد بتقليص نفوذ مجموعة آنت في صناعة التكنولوجيا المالية سريعة النمو في الصين. كما يأتي بعد أيام من ضغط المصرف المركزي الصيني على شركة آنت لإعادة هيكلتها وتخصيص المزيد من رأس المال لقروضها الاستهلاكية، وحث بان جونج شنغ، نائب محافظ بنك الشعب الصيني، الشركة على معالجة الانتهاكات المالية المزعومة للأطر التنظيمية بعد اجتماع نهاية الأسبوع الماضي مع المسؤولين، أثيرت فيه مخاوف إزاء طريقة إدارتها، واستجابتها للمطالب التنظيمية والضغط على المنافسين.
واستهدفت السلطات شركة علي بابا كذلك. إذ فتحت بكين تحقيقاً خاصاً بمكافحة الاحتكار مع المجموعة عشية عيد الميلاد، وفي نوفمبر/تشرين الثاني، فيما يمثل أول قيود تنظيمية كبيرة على القطاع الرقمي، أصدرت مسودة قواعد تهدف إلى منع السلوك الاحتكاري بين منصات الإنترنت. ويُشار إلى أن قضايا مكافحة الاحتكار صعدت إلى قمة أجندة الحزب الشيوعي الصيني، وأصبحت أولوية هذا العام في اجتماع المكتب السياسي الشهر الماضي، وفقاً لوكالة أنباء شينخوا الرسمية. وقالت شركة آنت إنها “ستمتثل لجميع المتطلبات التنظيمية”، وقالت علي بابا إنها ستتعاون مع التحقيق.
هل الهدف محاربة الاحتكار فعلاً؟
تقول الصين ووسائل الإعلام المسيطرة إن هدف تلك التدخلات هو تعزيز المنافسة في قطاع الإنترنت سريع النمو، ولحماية المستهلكين من التورط في الكثير من الديون، لكن معلقين ومحللين يشككون في أن إمبراطورية جاك ما المالية والتجارية الإلكترونية مستهدفة بشكل خاص.
يقول دنكان كلارك، رئيس مجلس إدارة شركة BDA China، وهي شركة استشارات استثمارية مقرها بكين، ومؤلف كتاب Alibaba: The House That Jack Ma Built، ونائب رئيس مجلس الأعمال الصيني البريطاني، إن رد الفعل على خطاب جاك ما كان “شديد الصرامة”، وحظي باهتمام الرئيس شي. وقال: “لقد مكّن الأشخاص الذين كانوا يهاجمون “ما” من اتخاذ إجراء أخيراً”.
وقال كلارك لصحيفة The Times البريطانية إن “رد” الصين محاولة لمنع انفصال القطاع الخاص في الجنوب عن الحزب في شمال البلاد، بتأكيد سيطرتها على رواد الأعمال. وكان في مقدمة اهتماماتهم جاك ما، الذي يتمتع بكاريزما وجرأة وصراحة لا مثيل لها. لكنه أضاف أن تشديد الحزب للرقابة على القطاع المالي ربما كان ضرورياً للحد من الإقراض المحفوف بالمخاطر.
“الاستقرار المالي يؤثر على الجميع، لذلك أرى أنها حالة صالحة لتنظيم التكنولوجيا المالية تنظيماً دقيقاً. ولكنهم إذا لاحقوا الاقتصاد ككل أيضاً وزادوا من صعوبة الأمر على رواد الأعمال، فإن ذلك يثير أسئلة متعلقة برواد الأعمال والنمو”.
وأضاف كلارك: “وهذا هو التحدي الذي تشهده الصين. كيف سيتمكن رواد الأعمال من التحرك في مناخ تنظيمي متغير لا تكون الخطوط فيه واضحة على الدوام؟ لقد كان جاك ما بارعاً في التنقل بين هذه الاتجاهات – لكنه لم يتمكن من ذلك في بعض الأحيان”.
معاقبة جاك ما لأغراض سياسية؟
وقال مصدر آخر للصحيفة البريطانية، طلب عدم نشر اسمه، إنه رغم أن بكين لها مبرراتها في التعامل مع الإفراط في الاستدانة والمخاطر التي يتعرض لها النظام المالي، بدت الإجراءات المتخذة بحق جاك ما ذات دوافع سياسية. وقال المصدر: “كان شديد الانتقاد للنظام المالي الصيني والبنك. وكان يحاول إحداث ثورة في النظام”. وقال المصدر إن بوني ما، رئيس شركة تنسنت- الذي تفوق على منافسه صاحب شركة علي بابا ليصبح أغنى شخص في الصين- لا يظهر كثيراً.
وقال المصدر: “بوني ما لا يتحدث كثيراً. ولا يتنقل من مكان لآخر لإلقاء الخطابات. لكن جاك ما يشعر وكأنه صاحب رؤية. يريد أن يقول هذا هو المستقبل. وأن هذا يصلح لنا كدولة وأمة. لكن رواد الأعمال الآخرين لا يتحدثون بهذه الطريقة”.
على أن حملة التضييق لم تكن موجهة إلى إمبراطورية ما وحدها. إذ قالت هيئة تنظيم السوق في الصين هذا الأسبوع إنها فرضت غرامة على العديد من شركات التجارة الإلكترونية- JD.com و Tmall التابعة لشركة علي بابا وVipshop، التي تدعمها تنسنت- قدرها 500 ألف يوان لكل منها (حوالي 76 ألف دولار) بعد شكاوى المستهلكين إزاء إستراتيجيات تسعيرها المتعلقة بعروض يوم العزاب في نوفمبر/تشرين الثاني. وفي وقت سابق من هذا الشهر، غُرمت شركة علي بابا وشركة أخرى مدعومة من تنسنت بدعوى امتناعهما عن الإبلاغ المناسب عن اتفاقات سابقة لمراجعات مكافحة الاحتكار.
وتقول الصين إنها تريد منع ممارسات مثل تقييد أسواق التجارة الإلكترونية للعلامات التجارية من بيع منتجاتها على منصات متعددة، وهي شكوى قدمها في شركة علي بابا التجار وبعض منافسيها.
وأثارت سلسلة الغرامات والقيود مخاوف بين المستثمرين بشأن نوع الشركات الناشئة والتحديات الأخرى التي تنتظرهم. يقول كلارك: “العواقب على شركة آنت أكثر خطورة بكثير منها على علي بابا”.
وأضاف كلارك أنه يعتقد أن تعطل تجارة علي بابا الإلكترونية مستبعد لأن الاقتصاد الصيني يعتمد بشكل متزايد على نمو المستهلكين. وقال بنك HSBC الذي يركز على آسيا، في مذكرة عن علي بابا قبل هذه التدخلات التنظيمية الأخيرة، إن “الأفضل ما يزال في انتظارها”.
وهناك تكهنات بشأن تفكيك مجموعة آنت أو حتى حصول بكين على حصة منها. لكن كلارك أشار إلى إن عودة آنت إلى أصولها باعتبارها شركة مدفوعات رقمية سيمثل مشكلة. إذ أن هذا المجال يتسبب في خسارتها، وهو ما يجعل من الصعب عليها كثيراً تجنب التعويم.
وذكرت وكالة رويترز هذا الأسبوع أن آنت تفكر في تحويل معظم أعمالها المالية، بما في ذلك إقراض المستهلكين، إلى شركة قابضة تخضع للوائح صارمة بأشكال تقليدية.
أي مصير ينتظر مؤسس علي بابا؟
لكن تقارير إعلامية تحدثت اليوم الأحد 3 يناير/ كانون الثاني 2021 عن اختفاء جاك ما، وربطت ذلك الاختفاء بانتقاده للنظام الصيني، والسبب هو اختفائه التام عن الأنظار، الذي يعتبر تغير مفاجئ وملحوظ بالنظر إلى ظهوره المعتاد ونشاطه العام الضخم.
كما اختفى ملفه الشخصي من موقع البرنامج التلفزيوني لرواد الأعمال الناشئين “أبطال الأعمال في إفريقيا”، والذي تقيمه مؤسسة “جاك ما” الخيرية، وغاب عن المقاطع الترويجية، وأذيعت الحلقة النهائية بدونه.
وقبل أسابيع من موعد الحلقة النهائية في نوفمبر/ تشرين الثاني، كتب جاك تغريدة عبر حسابه بموقع “تويتر”، قال فيها: “لا أستطيع الانتظار لمقابلة المتسابقين”، ومنذ ذلك لم يظهر أي نشاط على حسابه، بعد أن كان يغرد عدة مرات يوميا.
والواضح أن انتشار التقارير بشأن اختفاء جاك ما مرتبط بعدم ظهوره في البرنامج التليفزيوني، إضافة إلى أن لبكين سجل مقلق في التعامل الحاد مع رجال الأعمال الذين يوجهون أي انتقادات للنظام. ففي مارس/ آذار الماضي، اختفى رجل أعمال بارز آخر هو رين تشي تشيانغ، بعد أن وصف الرئيس شي جين، بـ”المهرج” بسبب الطريقة التي تعامل بها مع أزمة فيروس كورونا.
وقال أصدقاء رين إنهم لم يتمكنوا من الاتصال به، وبعد 6 أشهر، حكم عليه بالسجن 18 عاما، بعد أن “اعترف طواعية” بارتكاب جرائم فساد متعددة.
وفي عام 2017، اختطف الملياردير، شيان جيان هوا، من فندق بهونغ كونغ، ويقال أنه تحت الإقامة الجبرية منذ 3 سنوات، ولم يذكر مكانه رسميا حتى الآن. فهل تعرض جاك ما للمصير ذاته؟
كلارك قال لصحيفة تايمز البريطانية أنه يستبعد تعرض جاك ما للانهيار الشخصي التام، لكن نفوذه على الأرجح سيتقلص. وقال كلارك إنه قد يخرج ببيان مشترك ويبدي ندمه علانية. وقال: “يوجد نص معين يقال في هذه الحالات في الصين”.
والفصل الأخير من كتاب كلارك، الذي نُشر عام 2016، يحمل عنوان Icon أو Icarus، يتحدث عن رجل أعمال لامع جازف بالتحليق قرب الشمس. يقول كلارك: “كان جاك يشعر بأنه أكبر من الفشل. لكن ما حدث يظهر أنه ليس كذلك. وهذا يذكّر الآخرين بأنه حتى لو كنت أغنى الرجال، فثروتك لا بد في نهاية المطاف أن تكون بمعرفة الحزب على الأقل”.