الطوفان بين حرب التحرير.. ووقف إطلاق النار
سليم الزريعي
يبدو أن ذهنية الصفقة هي التي تحكم سلوك مسؤولي حماس، فقضية الأسرى كانت في بداية طوفان الأقصى بمثابة قيمة مضافة إلى جانب جملة من الأهداف الكبرى كتحرير كل فلسطين.
وقد جرى تداول “تعبير تبييض السجون”، دون قيد أو شرط كتأكيد وتتوبج للانتصار العسكري بعد احتجاز حماس عشرات العسكريين والمدنيين من الصهاينة، وقد صرح أبو عبيدة الناطق باسم “كتائب القسام” في 28 أكتوبر الماضي، إن ثمن العدد الكبير من الأسرى الإسرائيليين هو “تبييض كافة السجون من كافة الأسرى” الفلسطينيين.
وظل هذا الهدف إطارا حاكما لسلوك حماس لفترةـ لكنة تراجع على ضوء المتغيرات الميدانية بعد اجتياح جيش العدو قطاع غزة في 27 أكتوبر، ليجري تغيير محتواه من تبييض السجون إلى تبادل أعداد متفق عليها، فيما جناح حماس العسكري لجأ إلى الأنفاق، في حين باشر العدو الصهيوني القصف البري والبحري والجوي الذي بات حرب إبادة، والمفارقة أن أبو عبيدة كان قد قال إننا ننتظر العدو في معركته البرية التي يهدد بها لنعلمه معنى القوة والفداء وسنذيقه الهزيمة”.
لكن الواقع كان مختلفا بأن بدأ الكيان الصهيوني حرب إبادة مع سبق الإصرار، ليتركب آلاف المجازر التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الشهداء والمصابين والمفقودين وتدمير 50 ألف وحدة سكنية إضافة إلى كامل البنية التحتية والمدارس والمستشفيات وآبار المياه ومواصلة الحصار وغياب الغذاء حتى بات الناس يموتون جوعا.
وكان من المتوقع أن يتكيف سلوك حماس ارتباطا بالنتائج، على الأرض التي حركت الضمير العالمي بشكل غير مسبوق، لكن الصفقة ظلت تحكم ذهنية حماس في ظل حالة من تضخيم الذات، وهنا يكون التساؤل، إذا كانت المعطيات التي حكمت الحديث عن تبييض السجون قد بدت منطقية لدى مفكري حماس حينها، فإنها تصبح نوعا من عسر قراءة لشروط اللحظة التي تتعلق على الأقل بسلوك الكيان وهو يمارس محرقته التي طالت كل شيء في القطاع فيما جناح حماس العسكري يعيش في الأنفاق، وترك أهل غزة دون حماية يواجهون حرب الإبادة والموت جوعا.
وربما يكشف ما قاله مسؤول حماس في غزة يحيى السنوار عن الخسائر البشرية في قطاع غزة عن الذهنية التي تحكم سلوك حماس، عندما اعتبر السنوار “إن استشهادهم سيبث الحياة في عروق هذه الأمة، وسيوصلها إلى ارتفاع مجدها وشرفها”، هذه اللغة المفارقة تشير إلى أنه ليس مهما بالنسبة للسنوار هذا الكم من الضحايا الذي يعادل تقريبا 6 في المائة من سكان القطاع، وأيضا لا بأس في أن يكون هذا الثمن الفادح في ذهن قادة حماس وسيلة لما سماها بث الحياة في عروق الأمةـ في حين أن ذوي الضحايا لهم رأي آخر فقد نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” في تقرير لها في 11يونيو .أن سكان غزة الذين لا يخشون التحدث أمام الكاميرات يحتجون على الوضع ويهاجمون السنوار بشدة، وقال أحد سكان غزة من النصيرات وسط قطاع غزة: ” السنوار ألقى حجرا في البئر”. “إن الدمار الذي أحدثه يمكن أن يمنحه لقب أنجح جنرال إسرائيلي. نحن لم نختره أو نفوضه”.
ومن ثم لا يبدو بعيدا عن نمط تفكير قادة حماس تصريح أسامة حمدان، القيادي في الحركة من أن “حماس تطالب بوقف دائم لإطلاق النار، وهي مستعدة لصفقة عادلة لتبادل الأسرى”، فهذا يعني أن وقف إطلاق النار بات أولية لدي حماس ثم تأتي الصفقة العادلة حسب تعبير المسؤول الحمساوي، لأني أعتقد أنه ما من مكان لمفهوم العدالة هنا، وإذا كانت العدالة بالنسبة لحماس هي مقايضة مختطفين مقابل أسري فهذه ليست العدالة، لأن العدالة في تقديري هي أن تنتصر للضحايا قولا وعملا وأن يتحمل من أجرم في حق أهل غزة نتيجة جرائمه سواء بفعله أو خذلانه مسؤولية ذلك، في حين أن المقايضة في الصفقة لها حسابات أخرى سياسية واجتماعية ونفسية.
لكن اللافت أنه في الوقت الذي يجري فيه الحديث عن الصمود والنصر يتراجع الحديث عن الطوفان لصالح أولوية وقف إطلاق النار، وهو يكشف حالة من غياب الرؤية الموضوعة للواقع بعيدا عن الخطاب الشعبوي الذي يتجه للغرائز، الذي ربما يحرك عواطف الناس مؤقتا لكنه سرعان ما ينكشف من أنه مجرد شعارات وربما رغبات لا تستند إلى الواقع كونها بعيدة عنه من ذلك ما قاله رئيس المكتب السياسي لحماس في 7 أكتوبر الماضي من أن “المقاومة الفلسطينية، نقلت المعركة إلى قلب الكيان المحتل”. وهنا الكيان المحتل يعني كل فلسطين، بل إنه وجه حديثه لقادة الاحتلال الإسرائيلي، بالخروج من القدس نحن اليوم على “موعد مع النصر العظيم والفتح المبين”، كما قال، والسؤال ما مدي دقة ما قاله رئيس حماس مقارنة بالواقع حينها والآن، بينما حماس تطالب الآن بوقف إطلاق النار في غزة كأولوية، ونسيت أنها كانت بشرت الفلسطينيين أنها دشنت حرب التحرير في 7 أكتوبر، لكن ما يثير الاستغراب في سلامة منطق حماس هو عندما أكد رئيس حماس في 19 أكتوبر أن المقاومة ستواصل دفاعها عن شعبنا بكل قوة وتوجه ضرباتها بكل ضراوة ولن يكون للاحتلال مقام على أرضنا.في حين أن حماس الآن توافق على مخطط صهيوني أمريكي لإدارة غزة في غياب حماس وربما السلطة، بهدف الخلاص الفردي، وأعتقد أن المشكلة لدى هذه القوى أنها تتعامل مع حدث 7 أكتوبر بمعزل عن النتائج الكارثية التي أعقبته من استباحة للضفة وزيادة سطوة المستوطنين والاستهداف العسكري للمدن واعتقال الآلاف واستباحة الأقصى والقدس وآخرها يوم 5 حزيران يونيو ، ثم ما جرى في غزة الذي يفوق الوصف ومع دلك يعتبر السنوار زعيم حماس غزة أن هذه الإبادة وسيلة لنهوض الأمة، والسؤال ضمن أي منطق يتحدث هؤلاء، إنه كما أعتقد هو الانفصال عن الواقع ، وكأنهم يخاطبون أنفسهم بما يتخيلون، فهم هنا ليسوا معنيين بالوقائع الموضوعية. وتبلغ المغالطات السياسية والفكرية ذروتها، عندما يجري لي وقائع التضامن العالمي كإنجاز لحماس والطوفان، ويمكن رد إنجاز الطوفان وفق هذا المنطق، والحال هذه في كونه قد استدرج المحرقة وحرب الإبادة ، ليكشف هذا المنطق بؤس هذه المقاربة لفقدانها شرط النزاهة الفكرية والأخلاقية.. ومع ذلك يستمر الهتاف..!