ثقافة وأدبثقافة وفنون

العنف بين الثقافة المكتسبة والغريزة

الحلقة الثانية

بقلم : سليم الزريعي

ابحث عن الأيديولوجيا 

ويزكي هذه القراءة التجربة التاريخية التي تخبرنا؛ أن كلُّ المجتمعات التي قامت على عقائد، لا على قيم للإنسان، غدت فريسة للعنف الاجتماعي، وأضحتْ فيها المؤسَّسة بديلاً عن العقيدة، والطقس بديلاً عن القيمة والمغزى الديني أو العقائدي.

من هنا فإن ثقافة العنف في الفكر والسياسة تقوم على عقيدة مركزية توتاليتارية(حكم شمولي).

 وأية عقيدة أو مؤسَّسة تضع نفسها فوق المُساءلة والجدال والنقد والحوار ولو ادَّعت العقلانية والعلم؛ فإنها مع ذلك تؤسِّس لثقافة العنف والتعصب. وأية جماعة تغتصب أدواتِ الحوار، مدَّعيةً احتكار الحقيقة، بحقٍّ إلهي أو شعبي، لا تلبث أن تُخضِع المؤسَّسة والمجتمع المدني لسطوة مزدوجة : سطوة التقاليد وسطوة الاستبداد.(3)

وإذا ما اعتبرنا أن العنف هو نتاج هذه الثقافة المفارقة، فإننا مع ذلك نفرق بين ثقافة العنف المشروع الذي يستمد مشروعيته من الثقافة  الإيجابية والعنف السلبي الذي يستمد حضوره من الأيديولوجيا التي تتكئ على معطيات ثقافية مطلقة ونهائية، وهي من ثم تلك الثقافة التي تؤسس لوعي مشوه تعسفي في تعاطيه مع الآخرين.

وإنه لمن خطل القراءة هنا حصر ثقافة العنف في مجموعة بشرية بعينها أو فكر بعينه كونها ظاهرة بشرية لا يختص بها مكان أو زمان دون غيره، ولا تقتصر على دين، أو جنس أو فكر أو ثقافة دون سواها.(4)

ظاهرة عالمية

إنَّ العنف ظاهرة عالمية عرفتها المجتمعات البشرية منذ فجر التأريخ، لكنه ظل منطقاً مستحكماً داخل المجتمعات غير المتحضرة أي المجتمعات التي ترفض الاحتكام إلى القانون ومنطق العقل، وترتكز على القوة في تحقيق أهدافها وأغراضها المشبوهة، وانتزاع حقوقها وتسوية خلافاتها القائمة، واستمر العنف دهوراً طِوالاً، حتى أصبح صفة ملازمة لكثير من الشعوب رغم اختلاف الظروف وتطور الحضارات، وتوغل مفهوم العنف داخل العمق الجغرافي لأغلب بلدان العالم المعاصر(5).

ومن ثم فإن ثقافة العنف في المجتمعات العالمية متفاوتة التبني، فكل مجتمع يؤمن بها حسب معتقداته الدينية والمجتمعية ولا يمكننا أن نستبعد الفهم الخاطئ للدين عند أغلب هذه المجتمعات التي تتبنى العنف كوسيلة لمواجهة الخصوم والمختلفين عنها دينياً وعرقياً، وإلا بماذا نفسر كل الحروب التي وقعت بين فرقاء دينيين كانت المرجعية المذهبية الدينية الشرارة التي أشعلتها، كالحروب التاريخية والحالية بين الشيعة والسنة في الإسلام وكذلك الحروب التي وقعت بين الكاثوليك والبروتستانت في المسيحية، وغيرها من الحروب وأنماط العنف الأخرى كالعنف الفكري والسياسي(6) العبثي التي عانت منه الكثير من المجتمعات عبر التاريخ.

ظاهرة ممتدة

وإذا ما اقتربنا أكثر من منطقتنا العربية وما تعيشه هذه الأيام من دموية بعض القوى على هامش ما يسمى الربيع العربي خاصة قوى الإسلام السياسي، فإننا نكتشف أن مفهوم العنف لدى هذه الحركات الإسلامية المعاصرة؛ له جذور شائكة وقديمة تمتد إلى سنة(37هـ) أيام واقعة صفين وظهور الخوارج، في عهد خلافة أمير المؤمنين علي  وما تبعها من مصائب وويلات. (7) حيث تلعب الثقافة دوراً أساسياً في دوراته المستمرة من ذلك التاريخ.

وبشكل عام فإن منابع وأسباب العنف  تتعدد لدى هذه القوى تبعاً لطبيعة المجتمع دينياً وثقافياً وسياسياً اقتصادياً  غير أن ثمة منابع تعد الأهم كونها المؤثر الرئيس في بلورة ثقافة التعصب الديني أو القومي أو السياسي..، لتحوله إلى سلوك هو بالضرورة من أعطى الضوء الأخضر لبعض الحركات الإسلامية المعاصرة من انتهاج العنف والإرهاب بحجة ( الجهاد أو الحسُبة، أو الإصلاح والتغيير) وجعلته شعاراً براقاً لمسيرتها السياسية والفكرية وظهر واضحاً في خطاباتها التي اتسمت بالعنف واللجوء إلى القوة، نتيجة لارتكازها على القراءات الأحادية والمجتزأة للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية، والتي أفضت إلى تصورات ظلامية(8) ، جعل هذه القوى تصل حد تكفير المجتمعات التي تعيش فيها حكاما ومحكومين، الأمر الذي كشف لا إنسانيتها، وبعدها عن جوهر الإسلام السمح الذي وصل به حد الثقة في الرسالة المحمدية؛ أن قال ” من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” بعد أن وصلت رسالة الإسلام واستقرت في عقول وأذهان الناس أبدا.

مفهوم الثقافة

وإذا ما حاولنا استكشاف كلمة ثقافة على ضوء ربط العنف بها. فإننا يجب أن نميز بين الاستخدام الضيق لهذا المصطلح الذي يقصد به  الشعر والقصة والنقد.. إلخ والثقافة بمعنى مجموع القيم الاجتماعية والسياسية والثقافية والتقاليد والعادات وأنماط السلوك الموروثة وغير الموروثة.(9) التي تشكل الحاضنة الطبيعية لكل تطرف؛ وخاصة العنف غير المشروع الذي يمثل أعلى درجاته.

وفي البحث في أبعاد هذا السلوك المفارق، فإننا نكتشف أن المعتقدات والأفكار والمواقف والممارسات الاجتماعية عند أغلب المجتمعات في عالمنا تنحو إلى ثقافة العنف المادي والمعنوي، فالمطالب بإقصاء هذا الشخص أو ذاك الشعب أو محاربة تلك الدولة هي في حد ذاتها عنف مادي واقعي.

 والمطالب الفكرية والكتابات التي نجد بين سطورها إيحاءات قريبة من لغة العنف والحقد والتمييز العنصري هي في حد ذاتها عنف معنوي يقود إلى العنف المادي، وليس أدل على ذلك العنف المعنوي أكثر من وجود تنظيرات ودعاوى فكرية تدعو إلى العنف والحرب والصراع كنظريات “صراع الحضارات ” لصامويل هنتنجتون و “نهاية التاريخ ” لفرنسيس فوكاياما، واجتهادات علماء الدين المسيحيين والمسلمين، واتهامات بينيديكت السادس عشر الأخيرة، وفتاوى الوهابيين والسلفيين الدامية … كل هذه الأنماط الفكرية تجد لها أدوات تنفيذية في الواقع فتعمل على خلق الصراعات بين الدول ونشوء الحروب بين أقطاب الشعب الواحد تحت يافطة دينية أو عرقية أو سياسية … (10)

 

حاضنة العنف

غير أن العنف يترعرع ويبلغ أوج التعبير عن قسوته في البيئات التي تفتقر إلى العدالة والمساواة وكفالة حرية التعبير للأفراد والجماعات وفي المجتمعات التي يسودها الاستبداد السياسي والفكري والاجتماعي، وعدم تحقيق العدالة الاجتماعية للمواطنين والعنف أسلوب تعبير عن تراكمات اليأس والغضب أو الانتقام، يمكن أن يقوم به الفرد أو الجماعات كما يمكن أن تمارسه الدولة أيضا، ويتجلى من خلال شكلين هما: العنف الرمزي والعنف المادي.

ويتمثل العنف الرمزي في ادعاء احتكار الحقيقة، وإقصاء وتهميش الآخر، وفي تكفيره بدون وجه حق. أما العنف المادي فيتمثل في استخدام الأساليب والأدوات المادية كالسلاح ضد الآخر.(11)

هنا لابد من الاستدراك أن ممارسة العنف في بعض الأحيان يكون مشروعا قانونيا وأخلاقيا، ويدان أخلاقيا وسياسيا من لا يمارسه كونه حقاً وواجباً، خاصة للشعوب المضطهدة الساعية إلى نيل حريتها واستقلالها.

في حين يكون محرما عندما يستهدف أمن وسلامة الأبرياء كما يحدث هذه الأيام في الوطن العربي وفي مناطق أخرى من العالم، وهو ما نعبر عن تسميته (بالإرهاب).

هذا العنف اتكأ على خطاب ديني متشدد كرس منهجا أحادياً لاحتكار الحقيقة الدينية، وتهميش المذاهب الأخرى بما فيها تيار الوسطية والاعتدال، مما ساعد على بروز ظواهر الغلو والتطرف التي صبغت الحياة الثقافية والاجتماعية والإعلامية بألوانها، كما تمكن هذا الخطاب المتشدد من ترسيخ أسلوب التلقين والحفظ والتوجيه بدون مناقشة .(12)

ومع أن التجربة التاريخية تقول إنّ الإسلام قد رسّخ ثــقافةً أصيلةً علّمها لأبنائه، تؤسّس أصول التسامح لا التعصب، المحبــة لا الكراهــية، الحــوار لا الصــدام، الرحمة لا القـسوة، الســلام لا الحــرب، فإن السؤال الذي ينطلق من واقع نعيشه حيث يتفشى وباء العنف المتعالي حسب القوى التي تمارسه، والذي يمثل ردة بالمعنى الأخلاقي والإنساني والفكري كذلك، هل المشكلة في النصوص  أم أن المشكلة في أولئك الذين يخرجون النصوص من سياقها الديني أو التاريخي بشكل تعسفي، ليس له علاقة بمقاصد النص، عندما يتصدى من لا يعرف أو يعقل ـ من العقل ـ لزرع مثل هذه الثقافة المجافية؛ لينتشروا مثل الفطر السام في المجتمع العربي وفي العالم، وإلا فإن السؤال عندها مــن أيــن جــاء إذن كلّ هذا الذي يسمى بالعنـف المقدس في المجتمع العربي وفي العالم الإسلامي؟

هوامش

  • سمير التقي،ثقافة العنف في المجتمع العربي، موقع معابر.
  • هلا رشيد، مصادر العنف المقدّس في الثقافة الإسلامية؛ صحيفة السفير(موقع آمون).
  • سمير التقي،ثقافة العنف في المجتمع العربي ، مصدر سابق.
  • بريهان الجاف ثقافة العنف إلى أين؟الحوار المتمدن-العدد: 2562.
  • أحمد علي الخفاجي ،الحركات الإسلامية المعاصرة والعنف ،شبكة المعلومات الدولية.
  • هلا رشيد ،مصادر العنف المقدّس في الثقافة الإسلامية، مصدر سابق.
  • أحمد علي الخفاجي ،الحركات الإسلامية المعاصرة والعنف ،مصدر سابق.
  • المصدر السابق .
  • فاضل السلطاني ،ثقافة العنف أم عنف الثقافة، صحيفة الشرق الأوسط العدد 8608.
  • عزيز العرباوي ، ثقافة العنف ودوافعها الأساسية ،موقع معكم.
  • بريهان الجاف ثقافة العنف إلى أين؟مصدر سابق .
  • المصدر السابق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى