“الفيتو” في ظل الثنائية القطبية 3/8
سليم يونس
كان من نتائج الحرب العالمية الثانية المباشرة أن برزت على مسرح السياسة الدولية قوتان كبيرتان، مع تراجع ظاهرة تكاثر وتعدد الدول الكبرى، ومن ثم كانت ظاهرة الثنائية القطبية، أي التفوق والغلبة بلا منازع، وهو الأمر الذي ترك بصماته على المشهد السياسي الدولي من خلال وجود معسكرين رئيسيين، المعسكر الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، والمعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفيتي.
فكان أن استخدم حق الاعتراض في مجال الصراع بين المعسكرين، وبما يخدم مصالح بعض تلك الدول ومصالح حلفائها حتى لو كانت على حساب قضايا الشعوب وقضايا الحق والعدل، وهو ما أتاح للدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية من استغلال ذلك الامتياز من أجل توفير الحماية والدعم للأنظمة الفاشية والعنصرية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وضد حركات التحرر التي تسعى من أجل نيل حريتها واستقلالها التي كانت تلقى الدعم من الاتحاد السوفيتي آنذاك.
ففي سياق حمايتها للنظم العنصرية بالضد من إرادة الغالبية الساحقة من المجتمع الدولي، لم تتورع الولايات المتحدة من استخدام حق الاعتراض ضد مشروع القرار رقم س 11543، الذي تقدمت به كلا من كينيا والعراق وموريتانيا والكاميرون يوصون فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة، الإقصاء العاجل لنظام الميز العنصري (السابق) في جنوب أفريقيا عن الأمم المتحدة، طبقا للمادة السادسة من الميثاق.
وفي إطار نفس سياسة الدول الامبريالية التي توفر الحماية للأنظمة العنصرية والقمعية استخدمت أيضا بريطانيا امتیاز حق الاعتراض ضد مشروع قرار مجلس الأمن رقم س 10909 المقدم من غينيا والصومال والسودان عندما عرض ذلك المشروع الذي يستنكر أحداث القتل بالإضافة إلى حجز وجرح مدنيين من طرف الحكم اللا شرعي في جنوب أفريقيا العنصرية في حينها، ودعا بريطانيا إلى اتخاذ الإجراءات المناسبة لسلامة المواطنين الإفريقيين، في جنوب أفريقيا ضد أي إجراءات من أعسال القمع والإرهاب التي تمارس من قبل الحكم اللا شرعي، للتصويت عليه في جلسة مجلس الأمن رقم 1659 بتاريخ 4/2/1972، إنما يوضح إلى أي حد جرى توظيف ذلك الامتياز لحماية الأنظمة التي تدور في فلكها، وبما يناهض حق الشعوب في تقرير مصيرها.
وتبدو الصورة أكثر فظاظة وابتعادا عن أي معيار من معايير العدل وحتى الأخلاق، عندما يتعلق الأمر بالكيان الصهيوني، ففي مجال مساندتها لوقائع الاحتلال وهتكها لعرض القانون الدولي، كانت الحكومة الأمريكية دائما في الموقع المناهض لآمال وطموحات وحقوق الشعوب، فبينما كانت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة المجتمعة في باريس عام 1947 تقرر إنشاء الكيان الصهيوني حسب قرار التقسيم، أعلن الرئيس الأمريكي ترومان: أن كل أرض يفتتحها اليهود في فلسطين ليست داخلة في الحدود التي حددها مشروع التقسيم، يجب أن يحتفظ بها اليهود “بحق الفتح”، ومما يجدر ذكره أن هذا الحق كان مستخدما في احتلال القارة الأمريكية نفسها أوائل الأزمنة الحديثة، في ظل نوبات التوسع الاستعماري والكشف الجغرافي المرافق له، حين كان الغزاة يحكمون البلاد استنادا إلى سلطة ما يسمى “حق الفتح”(1).
ويبدو أن الرئيس الذي أمر باستخدام السلاح الذري لأول مرة في التاريخ ليبيد مئات الآلاف في لحظات في مدن اليابان، في وقت كانت فيه العسكرية اليابانية تستعد للتسليم للحلفاء في الحرب العالمية الثانية، لم يتذكر سوى قانون أجداده الأوائل الذي استخدموه في القارة الأمريكية ضد السكان الأصليين وفي غيرها من القارات، أما قانون العالم المتحضر، فقد أدارت له السياسة الأمريكية ظهرها، الأمر الذي مكن الكيان الصهيوني من جعل حق الاعتراض والمساندة والدعم الأمريكي أداة للعدوان والتوسع، والعبث المستمر بالقانون الدولي والشرعية الدولية، فيما يطال الأمة العربية والقضية الفلسطينية وهي مطمئنة لحماية سلطة الاعتراض الأمريكية.
ومن الواضح أن ظاهرة تأييد الممارسات العنصرية سواء من قبل الكيان الصهيوني العنصري في فلسطين، أو الكيان الذي كان جاثما على صدر شعب جنوب أفريقيا بقوة حق الاعتراض(الفيتو) من قبل الدول الامبريالية الغربية، إنما كان يستند في الأساس إلى موقف سياسي- أيديولوجي ارتباطا بالدور الوظيفي الذي يقوم به الكيان الصهيوني راهنا، أو الذي كان يقوم به النظام العنصري في جنوب إفريقيا قبل قبره، ذلك أن التكوينات المجتمعية التي زرعت سواء في فلسطين أو في جنوب أفريقيا على حساب السكان الأصليين، إنما هي لا تعدو أن تكون امتدادا لنفس نسيج المجتمعات الرأسمالية الغربية في فلسطين وجنوب أفريقيا.
وإذا كانت المصالح الأمريكية كما يقول الرئيس الأمريكي جورج واشنطن “تستند إلى العدل”(1)، فإن أي موقف وفق مفهوم المخالفة، مناقض أو لا يستجيب لشرط المصالح الأمريكية من قبل أي دولة من الدول، فإنه يعني وفق تلك القاعدة، أن تلك الدول تقف ضد العدل بمعناه الأمريكي!!
ولذلك شخصت تلك القاعدة المجافية للمنطق موقف الاتحاد السوفيتي آنذاك من دعم ومناصرة لقضايا الشعوب، بأنها من قبيل استخدام القضايا الآسيوية والأفريقية لإثارة الشغب وتجاهل مسؤولياته تجاه ملحمة الأمم المتحدة ذاتها(2)، إنه ذات المنطق الغاشم المستمر مع كل الإدارات الأمريكية حتى تاريخه.
غير أن ما يكذب ويدحض وجهة النظر تلك حول استخدام الاتحاد السوفيتي لحق الاعتراض، إنما هي الوقائع وقرارات مجلس الأمن، التي استخدم فيها حق الاعتراض
إلى كثير تفسير، أن الموقف الأمريكي كان هو الموقف المعادي للشعوب وتطلعاتها منذ نشأة الأمم المتحدة، ففي الفترة الممتدة ما بين 1965 وحتى 1985، استعملت الولايات المتحدة حق الاعتراض في مجال القضية الفلسطينية والعربية وقضايا التحرر الوطني (في أفريقيا وأمريكيا اللاتينية) ست وأربعون مرة، بينما لم يتم استخدام ذلك الحق من قبل الاتحاد السوفيتي خلال تلك السنوات سوى ثلاثة عشر مرة(1).
والنوايا الأمريكية تبدو أكثر وضوحا وجلاء إذا ما عرفنا أن مشروعات تلك القرارات، كانت تحمل مضمونا واحدا يتلخص في تأكيد دعم قضايا التحرر الوطني في مختلف المناطق وفي مختلف الأزمان بكافة أشكالها أو أنواعها، ومن ناحية أخرى تدعو تلك المشاريع صراحة إلى العمل على مكافحة عدة ظواهر دولية عدوانية، وإلى إدانتها والقضاء عليها، ومنها ظاهرة مناهضة التحرر السياسي والظاهرة الفاشية والعنصرية وإرهاب الدولة(2)، تلك التي تقع تحت مظلة الحماية الإمبريالية من خلال امتیاز حق الاعتراض(الفيتو).
وإذا كانت الدول الإمبريالية قد تمكنت من استخدام قاعدة الاعتراض(الفيتو) بتلك الصورة الظالمة في ظل نظام الثنائية القطبية، مع وجود نوع من التوازن فرضه وجود الاتحاد السوفيتي حينذاك كنظام سياسي اجتماعي يقف إلى جانب الشعوب التي تنشد التحرر، فإن الباحث لا يحتاج إلى كثير عناء ليدرك إلى أي حد يمكن لقاعدة حق الاعتراض(الفيتو) أن تكون أكثر إجحافا وبعدا عن معايير العدل والقانون، إذا ما تفرد القطب المعادي للتحرر والتقدم الإنساني بقمة النظام السياسي الدولي.
——————–.
- فرانك.أ. مانويل، بين أمريكا وفلسطين، ترجمة: يوسف حنا، الأردن، صفحة 198.
- بروستر ك. ديني، مصدر سبق ذكره، صفحة 7.
- المصدر السابق، صفحة 168.
- د. محمود صالح العادلي، مصدر سبق ذكره، صفحة 38.
- محمد العالم الراجحي، مصدر سبق ذكره، صفحة 268-269.