آخر الأخبارمشاركات وترجمات

الموجة 105.5

كتبت : هناء الزريعي

من أعلى قمة لليأس أتنفس الأمل بعد أن مررت بانكسارات وهزائم عدة، فهذه أنا جيلان أروي لكم قصتي بعد أن غسلت وجه حرفي الأسود الحزين ببياض ورقي.

كنت دوما أظن أنني تورطت بموتي وبأنني اقتربت من النهاية، ولكن لكل نهاية بداية جديدة ربما اعتدت على كثرة الخيبات والإصغاء لصوتي المالح، فكانت نافذة الأمل مشرّعة على مخزوني من الألوان، فكل شيء من ذلك الأثر اختفى، فلم أظن يوما ما أنّ حبه لي سوف يتلاشى، وسيذوب كالملح تاركا لي مرارة الطعم.

 مرّت أشهر وأنا كما أنا وفي الحقيقة لازلت جليسة في مكان حزني الموبوء، هل توقفت بي عقارب الزمن عند لحظة الفراق..هل وهل وهل .. وهل نهشتُ غدي بالماضي؟!، أتصدّقون كم أتمنى أن أقابل حرفي الفقيد! ،ففي السابق كان يمارس طقوسه على أوراقي المعطّرة برائحته، لتكون شاهدةً على ميلاد روحٍ جديدة.

مرّت أشهرٌ والبُعد هو سيّد الموقف بين قلمي والورق، وموعدي بتسليم النص للشركة يدقُ أبوابه ..فحملتُ مطارداتي للحرف الهارب، وذهبت للمقابلة حاملة أوراقي المسنّة، واعتذاري عن إكمالي العقد المتفق عليه.

طرقت باب السيد مجدي، وعلى حافة الخوف يرتجف قلبي فهو حاد الطِباع سليط اللسان، دخلتُ بخطوات مثقلة، نظر لي يستعلم إن كنت قد أكملت النص، فأجبت بصوت باهت مرتعش :لا.

صبّ جُلّ غضبه بنظراته المخيفة، وضرب بيده على مكتبه.

ما هذا ياجيلان، أيُعقل أن مشكلة تافهة تجعلك تتوقفين عن إكمال النص؟، هل تعلمين أن أي تأخير  قد يسبب خسارة كبيرة لي؟..

حينها وقف صوتي معاقبا مصعوقا دون أن يشرح له السبب، فصدى نبراته الصارخة القاسية تُبرح نظراتي أرضا.

ماذا يعني أن تنتهي علاقتك به، ماذا يعني إن خانك…لا شيء، فجميع الرجال خائنون..ألم تقوليها ! ..اسمعي أنا من صنعكِ وجعلك شخصا معروفا، فلولاي لن تجدي أي شركة انتاج تقبل أن تحوّل قصصك التافهة لأعمال درامية..سأعطيك آخر مهلة..معك فقط 30 يوما، وبعدها يجب أن أرى النص هنا على هذا المكتب وإلا ….

لفظ الصمت تهديده وأكمل حديثه بتذكيري بأن أكون جاهزة غداً في الساعة السادسة صباحاً، لأذهب إلى بيته الذي يطل على البحر، في قرية هادئة، لربما أستجمعُ قواي من جديد، وكرر على مسامعي تذكّري ثلاثون يوما وإلا ؟!، وإلا وإلا ..أصبحت أرددها وكأنني بهذه الكلمة ألوي ذراع طمأنينتي.

خرجتُ من عنده ونظرات العاملين تجلدني وهمساتهم تدهسني، فأُسرعُ بخطواتي قبل أن تفارق الدموع عيوني، فالجميع هنا يراهن على فشلي .

ودقّت السادسة صباحا، أخذت حقيبتي وأغلقت من خلفي الباب، وكم تمنّيت أن أترك خلفه نهاياتي الحزينة لكنها ظلّت ترافقني كظلّي.

انطلقت السيارة وفي الطريق، سألني السائق: بتحبي تسمعي شي ست جيلان..

فأجبته: مابتفرق معي..أي شي ..

أغمضت عيناي وبدأت أتذوّق بعضاً من الهدوء الصباحي،حتى جاء صوت السائق ليُعلمَني بوصولي للمكان المقصود..

السائق : هذا منزل سيدي مجدي تفضّلي..تُؤمُريني بشي تاني .

فأجبته:  لا ..تسلم.. ما بدي شي بتقدر تروح..

صعدت إلى الغرفة التي سأنام فيها،غرفة ذات أثاث بسيط قديم..توجّهت نحو النافذة وفتحتُها لأسمح للستائر الربيعية بالتراقص، فإنساب صوت شاطئ البحر كأغنيةٍ هاربةٍ من تحت غيمة مرحبةٍ بي.

أخرجت ملابسي من الحقيبة، وخرجت نحو الشاطئ لأطوي مسافات البعد فيما بيننا..جلست لساعات أمامه علّني أسرق منه الأفكار، ولكن عبثاً كانت الأفكار كأمواج مدّ وجزرٍ تقترب مني ثم تبتعد ..هكذا حتّى أَعلنت الأورواق فشلي لمرة أخرى.

وبترتُ عشرين يوما من المهلة، دون أن تشرب أوراقي البيضاء أحرفي، ربما لخلوّها من عطره هذه المرة … لا ..لا.. يبدو أنها النهاية .

إنه اليوم الثالث والعشرون والساعة الآن الواحدة ليلا، ولا شيء يخطر في بالي أغلقتُ التّلفاز وصعدت إلى غرفتي، ونظرت إلى السقف لأستقيم بهزائمي فوقع انتباهي على أعلى الدولاب، حيث يوجد صندوق  كبير، دفعني الفضول في مرماه وأنزلت الصندوق وفتحته لأجد بداخله صوراً ورسائل قديمة ومذياع، أخذت المذياع وبدأت أنظفه مما علق به من غبار، ولحسن حظي وجدت بطارية جديدة في الصندوق قمت بوضعها فيه، جلست على سريري محاولة تحريك مؤشره ليعمل…فبدأت الموجات تتداخل حتى استقرت حنجرة المذياع على أغنية لأم كلثوم: يا فؤادي لا تسل أين الهوى كان صرحاً من خيالٍ فهوى..وفجأة اختفى صوت أم كلثوم بتداخل موجات أخرى..عاودت تحريك المؤشر ليستقر عند الموجة 105.5، كان صوتها الباكي الممتلئ بالوجع يستجديه بأن لا يغلق الهاتف..”أرجوك اسمعني أنا بحبك، لا تتركني”، ولكن أتاها صوته الساخر دون اكتراث ” كل شيء انتهى..ما في شيء بينا”.

بصوتها الباكي عاودت محاولتها معه لتخبره أنه عندما يموت حبهم سيقرأ خبر وفاتها وسيجد جثّتها على تلك الصخرة التي كانت شاهدة على حبهم .

وثَقبَت ضحكاته وبكاءها روحي، كم هو أناني بلا قلب، وكم هي ساذجة حتى تُنهي حياتها من أجله.

حاولت أن أُسقط النوم على عيناي، لكن صوتها جذبني نحو شاطئ البحر كمغناطيس..نهضتُ من سريري مسرعة، واتجهت نحو الصخرة لعلي أمنعها من ارتكابها أية حماقة.

جلستُ طويلاً انتظر والنسمات الباردة تصفع مخاوفي، تقلّص الليل أمامي…فسحب الصباح ثوبه عن الشمس…

جيلان : آآآه ..يبدو أنني نمت هنا على الشاطئ.. نهضتُ مستغربة “ماذا أفعل في غرفتي …أنا لا أتذكّر أنّني عُدت من الشاطئ..وما هذا الجرح في جبهتي…ما الذي حدث يا ترى؟!، أنا لا أتذكر أيّ شيء…فقرّرتُ أن أتوجه نحو الشاطئ لربما أتذكّر ما تبخّر من ذاكرتي، فالتقيت برجلٍ نصحني بأن أعود للمنزل، لأنهم وجدوا جثة رجل مُلقاةً على الصخور ، وكان يحمل بيده قلادةً من نصف قلب .

مسّتني قشعريرة حينها، وسياط حيرتي تجلدُني،ما الذي حدث، هل قتلته؟! إنها قلادتي، عُدتُ إلى غرفتي، وأغلقت النوافذ مختبئة في زاوية الغرفة محاولة أن أتذكر لكن دون جدوى، وعاد الليل ليُقحِمني بطقوس الساعة الواحدة ليلاً، فنظرت للمذياع موجهة اللوم له “أنت السبب لو لم يقتلني الفضول نحوك لكنت الآن بألف خير” .

لم أشعر بنفسي إلا وأنا أعيد الكرّة مرة أخرى، فتناولت المذياع وضبطت المؤشر نحو الموجة  105.5 ، ليأتيني صوتها مرة أخرى، وكأّن المشهد يتكرّر، فبدأت ذاكرتي تعود لأتذكّر تفاصيل ليلة الأمس..

“نعم بالأمس عندما غفوت أطاحت بي الأحلام في خيبتي الأخيرة ليعود المشهد المفقود لما مرّ بي… لم أجد نفسي إلا وأنا أقف على تلك الصخرة محاولة أن أقفز للأسفل، ولكنه حاول منعي فصرختُ في وجهه…”إنّها حياتي، ملكي أنا ما دخلك بيا..” فصفعني بقوة..وبصوته الغاضب خاطبني ”  أنت غبية؟ شو يلي بتسويه في نفسك…إرجعي لعقلك ..حياتك أغلى من إنك تنهيها لأي سبب كان”.

ومازال الصوت يطاردها “هذه الصخرة اللعينة شهدت دموع الكثيرين، والتهمت جميع اليائسين والمحطمين، فهي لن تمنع من نحبهم من ارتكاب تلك الحماقة..اذهبي ياسيدتي..اركضي بعيدا..”

ركضتُ مسرعة نحو البيت، ودخلت غرفتي، وأغلقت آذان الباب كي لا يسمع الأصوات التي تطاردني، فتقيأت الوجع بتذكري ما دار بيني وبين تلك الصخرة..ومع انسياب كلمات الأغنية :”ربّمـا تجمعـنـا أقـدارنـا…ذات يوم بعد ما عزّ اللِقـاء فـإذا أنكـر خــلّ خـلـّه… وتلاقينـا لقـاء الغـربـاء…ومضى كـلٌ إلـى غايتـه …لا تقل شئنا فـإنّ الحظ شاء” .. وثقل وزن ذاكرتي عندما تذكرت أن غدا هو موعد انتهاء المهلة الممنوحة لي من السيّد مجدي، وعلى بساط اللامبالاة حَملتُ ابتسامتي..

“لا يهم.. سيصرخُ كعادته.. ويهدّد وينتهي الأمر..وأغمضت عيناي، وذهبت في نومٍ عميق ليوقظني صوت أعرفه…ممتاز جيلان أنه نصُ رائع …” 105.5 علينا.. والبكاء عليكِ”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى