الناتو.. حصار روسيا..أم دفاعا عن أوكرانيا..؟

سليم يونس

في الوقت الذي حاول فيه المسؤولون الأوكرانيين خفض حدة الترويع التي أصر المسؤولون في واشنطن وبروكسل ولندن بالتناغم مع آلة إعلامهم على تحديد  ساعة الاجتياح الروسي العسكري إلى أوكرانيا، حتى بدا وكأنهم جزء من هيئة أركان الجيش الروسي التي حددت ساعة الصفر المزعومة. نفت في حينها جهات أوكرانية عديدة أي مؤشرات ميدانية على ذلك، فوزارة الدفاع الأوكرانية مثلا نفت الأحد 20 يناير/كانون ثاني وجود تعزيزات عسكرية “ضاربة” (تؤشر للاجتياح) لموسكو على حدودها. هذا الضخ الإعلامي والسياسي عن الغزو والاجتياح، جعل المسؤولين الروس يوصِّفون هذه الحملة الغربية بـ”الهستيرية” وأنها “إرهاب إعلامي”.

أين المشكلة الحقيقية..؟

ومع كل هذا التهويل السياسي والإعلامي والتهديد الغربي لروسيا، من اجتياح أوكرانيا تجاهل سياسيوهم وإعلامهم، ما يجري في إقليمي لوغانيسك ودونيتسك اللذين  بدا وكأنهما جوهر المشكلة ولو بكلمة واحدة. في حين أن ما يجري يتعدى ليس هاذين الإقليمين بل وأوكرانيا في حد ذاتها، مع الإقرار بأن هناك مشكلة في أوكرانيا، لكنها تمثل قنطرة للولايات المتحدة والناتو وأوروبا، لما هو أبعد من مشكلة أوكرانيا، أي إلى توظيف الجغرافيا الأوكرانية كي تحاصر الولايات المتحدة من خلالها روسيا عندما يقف حلف الناتو على حدودها مباشرة، وإزاحة عقبة إطلاق يدها في الفضاء الأوراسي التي تعتبره روسيا المجال الحيوي لها، غير أنه في الوقت الذي كانت فيه واشنطن والناتو ولندن يحددون لروسيا ساعة الصفر وفق سيناريو يعكس رغباتهم في توريط روسيا في تدخل مباشر غير محسوب في أوكرانيا، جاءت مفاجأة روسيا بالاعتراف بالجمهوريتين لوغانيسك ودونيتسك والتعهد بحمايتهما ومن ثم مرت الساعات التي حددتها الولايات المتحدة ولندن، دون  حدوث الغزو الروسي.

تجاهل مصالح روسيا

هذه الخطوة الروسية  التي جاءت وفق حسابات روسية مدروسة، أكدت من خلالها روسيا أن مشكلتها مع الغرب تسبق ظهور موضوع أوكرانيا، وهي تتعلق بأمن روسيا ومصالحها وتجاهل الغرب المتعمد ما تضمنته وثيقة اسطنبول” و”إعلان أستانا” اللتان وقعتا في قمتي منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في اسطنبول في نوفمبر عام 1999 وفي أستانا في ديسمبر عام 2010. مبدأ الأمن المتساوي وغير القابل للتجزئة الذي يمنع أي دولة من تعزيز أمنها على حساب أمن دول أخرى، بل استمر الناتو في التمدد شرقا حتى باتت روسيا محاصرة بحلف الناتو ومهددة بالصواريخ التي نشرتها في الدول القريبة منها، بل إن موسكو ستكون على بعد دقائق منها إذا ما ضم الناتو أوكرانيا إلى عضويته، بما يعنيه ذلك من تهديد وجودي لها.

وقرار الاعتراف بالكيانين الجديدين المنشقين عن أوكرانيا، هي رسالة روسية قوية مفادها أن المسألة تتعدى أوكرانيا إلى تجاهل الدولة المهيمنة والناتو مصالح روسيا الحيوية وأمنها القومي، وهي مسألة تتعلق بجوهر سياسية الولايات المتحدة وأداتها العسكرية الناتو، وملحقها أوروبا، تلك السياسة التي هي انعكاس للفكر والثقافة الغربية تجاه الشعب الروسي.

تلك الثقافة والأفكار المسبقة التي تعني ذهنا عصيا على الحرية، عبر عنها تصريح وزيرة الخارجية البريطانية، إليزابيث تراس، التي تجزم أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين سيخوض حروبا مع دول الجوار لإنشاء “روسيا العظمى”، في حال “لم يتم منعه” راهنا من “غزو أوكرانيا”.

ونقلت صحيفة “ديلي ميل” أن تراس قالت في حديث لها إن هجوم بوتين على أوكرانيا سيكون مقدمة لاستخدام روسيا القوة لضم مزيد من الجمهوريات السوفييتية السابقة.

وصرحت تراس، حسب الصحيفة: “علينا وقف بوتين لأنه لن يكتفي بأوكرانيا. إنه أكد بوضوح أن طموحه لا يقود فقط إلى السيطرة على أوكرانيا لأنه يريد إعادة الزمن إلى الوراء، إلى أواسط تسعينيات القرن الـ20 أو حتى أبعد”.

تابعت: “دول البلطيق في خطر… وغرب البلقان في خطر أيضا… بوتين تحدث عن كل ذلك علنا، مؤكدا أنه يريد إنشاء روسيا العظمى والعودة إلى الأوضاع التي كانت موجودة سابقا حينما سيطرت روسيا على مساحات ضخمة من شرق أوروبا”.

 وأردفت: “لهذا السبب من بالغ الأهمية أن نقاوم نحن وحلفاؤنا بوتين، الأسبوع المقبل يمكن أن تكون أوكرانيا، لكن ما هي الدولة التي ستليها؟”.

إن حديث الوزيرة البريطانية، يكشف حقيقة هدف الغرب تجاه روسيا المتمثل في حصارها وتطويقها بشكل مباشر وغير مباشر لمواجهة ما يسميه الغرب عدوانية روسيا المتأصلة، ويأتي في مقدمة ذلك ضم أوكرانيا لحلف الناتو الذي هو خط أحمر بالنسبة إلى روسيا، وكان الناتو قد اندفع إلى توقيع اتفاقيات “الشراكة من أجل السلام” مع الفضاء السوفياتي القديم تطويقاً لروسيا، إذ مهدت تلك الاتفاقيات لانضمام جمهوريات سوفياتية لـ”الناتو” من ضمنها دول البلطيق الـ3 (لاتفيا وإستونيا وليتوانيا)، وما يجري اليوم في أوكرانيا هو استكمال لهذه السياسة بالتحديد.

ثقافة وفكر الاستعلاء..!

هذا الفكر السياسي المحمل بكل الإرث الاستعماري الغربي، يعمل على أن تكون دول العالم على مثاله وتدور في فلكه كدول تابعة،  ولذلك فهو ينكر على أي دولة تنشد الاستقلال بعيدا عن التبعية،على أن تراعي كل الدول مصالحه في حين أنه يتجاهل أن هذه الدول أيضا لها مصالح، قد تتناقض مع مصالحة، وتبدو الصين وإيران من تلك الدول التي يعمل الغرب على شيطنتها، كون مصالحها تتناقض مع مصالح الغرب. وضمن هذا السياق السياسي والفكري تمارس الدول الغربية سياستها تجاه روسيا الآن.

وضمن هذه الثقافة التي توصِّف الدول بين أعداء وأصدقاء، تدار الآن المواجهة السياسية والإعلامية بين الغرب وروسيا التي يستحضر فيها الغرب صورة الاتحاد السوفيتي وهو يتعامل مع روسيا مع أن النموذج الذي مثله الاتحاد السوفيتي لم يعد قائما،  لكن المسألة تتعلق بالطموح الروسي الذي يسعى للعب دور يتوافق مع قدراته وإمكانياته الموضوعية وموقعه الجيوسياسي كقوة عظمى عالمية، ضمن عالم متعدد الأقطاب، بما يعنيه ذلك من ميزان قوى جديد يرسم ملامح العقود القادمة، وهذا الأمر ترفضه الولايات المتحدة والدول التابعة لها في أوروبا.

نذر حرب باردة..

وعلى ضوء المتغير الذي يبدو اشتباكا سياسيا حتى الآن، تلوح في الأفق نذر حرب باردة جديدة لم تتبلور أطرافها باستثناء الطرف الملحق بالولايات المتحدة، وهذا الاشتباك يبدو مفصليا، كون روسيا ترى أنها مستهدفة في وجودها، ويمكن القول أن ما قبل 22 فبراير شباط 2022 ليس كما بعدة، وعلى ضوء نتائجه سترسم الخريطة الجيوسياسية وتحدد مصالح الأطراف سواء الغرب أو روسيا. وولادة هذا الجديد على ضوء هذه المتغيرات هو ما ترفضه الولايات المتحدة ومن يدور في فلكها. وهو ما عبرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين التي أكدت أن من شأن هذه التطورات تغيير النظام العالمي الحالي جذريا.

إذا المسالة تتعدى أوكرانيا إلى الهيمنة الأمريكية عبر ما تسميه أورسولا فون دير  النظام العالمي الذي يعني التسليم بالقطب الواحد وهو موقف أمريكي سبق أن أعلنه الرئيس الأمريكي بوش الأب بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، وهو يقوم على أساس توسيع مفاهيم العولمة والليبرالية وفرض منطق الهيمنة الأمريكية على العالم، الذي كان  من حصاده تدمير يوغسلافيا والعراق وأفغانستان، مع أن العالم شهد تغيرا كبيرا خلال العقود الماضية بتنامي حضور العديد من الدول التي امتلكت ممكنات القوة الاقتصادية والعلمية والعسكرية، بما يعنيه ذلك من تشكل الشروط الموضوعية لميزان قوى جديد، سيحل بالتأكيد محل نظام القطب الأمريكي الواحد وهو ما تحاول الولايات وأوروبا  مقاومة حدوثه ولو بالقوة عبر أداتها الناتو بجر روسيا إلى مستنقع أوكراني سيعد لها.

استفاقة روسية

ويبدو أن الولايات المتحدة وأوروبا عكست رغباتها الذاتية في علاقتها مع روسيا أكثر من الوعي أن هناك واقعا موضوعيا جديدا تمثله روسيا القرن الحادي والعشرين بعد أن استفاقت من صدمة انهيار الاتحاد السوفيتي، والدور الذي أرادات الدول الغربية أن تشرنقها فيه بعد أن هيئ لها  لفترة من الزمن أنها وهي تتبرأ من البعد الأيديولوجي للاتحاد السوفيتي في تجلياته الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، يمكن التعامل معها كند وشريك بصدق ونزاهة، ولذلك تعاطت روسيا مع خصوم الاتحاد السوفيتي السابقين حتى أوائل هذا القرن، على أساس من النوايا الطيبة والثقة في سياسات الغرب، دون أن تقرأ من خلال التجربة التاريخية التي تحتشد ضمن ثقافته وعقله السياسي بسلوك العجرفة والتعالي في نظرته إلى روسيا، وهو أن على روسيا أن تخدم المصالح الغربية في سلوكها وسياساتها ومواقفها، ومن الأمثلة الصارخة لنظرة الغرب إلى روسيا هي حالة الإنكار التي واجه بها اكتشاف العلماء الروس لعلاج “كوفيد-19” ، وانطلاقا من كل ذلك لم تأخذ بالحسبان مصالح روسيا الموضوعية، وإنما تعاملت معها كظل للاتحاد السوفيتي السابق العدو الأيديولوجي على قاعدة أنها دولة مهزومة جراء انهيار وتفكك اتحاد السوفيتي، وقد وصف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري مدفيديف، في 21/2/2022 تلك النظرة وذلك السلوك الغربي نحو روسيا بأن “حلف الناتو لم يتعلم الدرس من اعتراف روسيا، بأوسيتيا عام 2008 واستمر في الاقتراب بشكل ساخر ومتعجرف من حدود روسيا، بتوسيع دائرة الأعضاء المحتملين في الحلف”.

دفاعا عن الأحادية القطبية

إن نظرة الاستخفاف والاستعلاء والعجرفة الغربية إلى روسيا هي مكون أساسي في بنية الغرب الثقافية والسياسة، وصل حد الاستهانة بالروس، مع أن روسيا ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي قد تبنت الرأسمالية كنمط حياة ومنهج اقتصادي، لكن ذلك لم يشفع لها نظرا لمقدراتها كدولة نووية تملك قدرات عسكرية هائلة ومساحة شاسعة وثروات طبيعية وكتلة سكانية وازنة كانت كل المؤشرات تشير إلى أنها بصدد الاستفاقة من صدمة تفكك الاتحاد السوفيتي واستعادة دورها كقوى عظمى إلى جانب الصين ودول أخري في عالم متعدد الأقطاب، كتجلي لميزان قوى عالمي جديد، وهذا بالتأكيد على حساب استمرار الولايات  المتحدة قطبا وحيدا، وهو ما تسعى الولايات المتحدة وملحقاتها من الدول الغربية وكندا واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا لمنعة بكل الوسائل متجاهلة أن تعدد الأقطاب هو نتاج واقع موضوعي ليس له علاقة برغبة أو إرادة الولايات وملحقاتها من الدول، إلا إذا قررت عدم حدوث ذلك  عبر جر العالم لحرب عالمية ثالثة.. وإذا ما حدث ذلك ..فهو الجنون بعينه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى