“بعد انتقام بكين القاسي”.. سيناريو خطير قد تصل إليه الأزمة بين الصين وأوروبا
وبدأت الأزمة بين أوروبا والصين، عندما فرض الاتحاد الأوروبي، يوم الإثنين 22 مارس/آذار 2021، عقوبات على أربعة مسؤولين صينيين وكيان واحد بسبب انتهاكات حقوق الإنسان في منطقة شينجيانغ بشمال غرب الصين، كما قام الاتحاد الأوروبي بتجميد أي أصول أوروبية تخص مكتب الأمن العام التابع لفيلق الإنتاج والتشييد في شينجيانغ، وهي منظمة شبه عسكرية تهيمن على اقتصاد المنطقة.
ومن بين من تستهدفهم العقوبات الأوروبية مسؤول يوصف بأنه “مهندس” برنامج “مراقبة واحتجاز وتلقين عقائدي واسع النطاق” ضد الإيغور، في ظل اتهام أوروبي للصين بإنشاء “قوة عاملة قسرية، لاسيما في حقول القطن بالإقليم” إضافة إلى “الاحتجاز التعسفي والمعاملة المهينة”، وتستند عقوبات الاتحاد الأوروبي إلى “مجموعات أدلة” سرية.
كانت هذه الخطوة جزءاً من عمل منسق ضد بكين من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، بما في ذلك المملكة المتحدة وكندا.
والعقوبات هي الأولى التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على الصين منذ حملة بكين عام 1989 على حركة ميدان تيانانمين المطالبة بالديمقراطية.
رد فعل بكين كان مفاجئاً
ولكن الصين فاجأت الاتحاد الأوروبي بعقوبات مضادة على مسؤولين أوروبيين، حيث أعلنت عن قائمتها السوداء الخاصة التي تضم عشرة أفراد -بما في ذلك مشرعون أوروبيون- وأربعة كيانات أوروبية.
تشمل العقوبات الصينية المضادة خمسة أعضاء بارزين في البرلمان الأوروبي، واللجنة الفرعية البرلمانية لحقوق الإنسان، وكبار الأكاديميين الأوروبيين الذين يغطون الشأن الصيني.
وهو أمر يؤشر إلى تخلي بكين عن سياستها الحذرة، واستعدادها للتضحية بالمنافع الاقتصادية في مواجهة الغرب.
كما تؤشر الأزمة بين أوروبا والصين إلى أن العقوبات والعقوبات المضادة قد تخرج عن السيطرة، بعد تهديدات برلمانيين أوروبيين بعدم التصديق على اتفاق التجارة والاستثمار مع الصين، بعد إعلانها فرض عقوبات على أعضاء بالبرلمان الأوروبي.
أوروبا لم تعد الشريك الودود للصين.. فما الذي تغير؟
نظرت الصين إلى أوروبا كشريك ودود، حيث قاوم قادة القارة الانجرار إلى صراعات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مع بكين بشأن التجارة والتكنولوجيا وحقوق الإنسان.
وفي أواخر العام الماضي، تسابق كبار قادة أوروبا مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتأمين اتفاق مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، على أمل أن يجعل الحياة أسهل للمستثمرين الرئيسيين في الاتحاد الأوروبي في الصين، مثل شركات صناعة السيارات الأوروبية.
ولكن يوم الإثنين، تحطمت تلك الصورة عندما انضم الاتحاد الأوروبي إلى واشنطن وبريطانيا وكندا، في فرض عقوبات على المسؤولين الصينيين بسبب اتهامات بالإساءة للأقليات العرقية. وردت بكين بإعلانها أنها ستعاقب مؤسسات وشخصيات أوروبية.
وحذت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا حذوها بنفس الأسماء، أو أسماء ذات الصلة، ما أظهر جبهةً غربيةً موحدةً نادراً ما شوهدت في الفترة الأخيرة لولاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ومرحلة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
ويسلط القرار الأوروبي الضوء على التعاون بين الولايات المتحدة وأوروبا في تحجيم الصين، خاصة أنه جاء بعد شهرين من وصول الرئيس الأمريكي جو بايدن للحكم، مؤكداً عزمه على تعزيز التحالف مع أوروبا عبر الأطلسي، بعد أن كان ترامب قد استهزأ بهذا التحالف.
ولكن في المقابل، تشير الأزمة بين أوروبا والصين، وخاصة التحرك الأوروبي ومواقف بريطانيا وكندا وبايدن من الصين، إلى أن إرث ترامب المعادي للصين يتمدد في الغرب، بعد رحيله.
المفارقة أنه في عهد ترامب رفض زعماء أوروبيون من بينهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التكتيكات الأمريكية، بعد أن شنّ ترامب حرباً جمركية مع الصين في عام 2017. كما قاوموا الجهود الصينية لتجنيدهم كحلفاء ضد واشنطن.
الأزمة بين أوروبا والصين نكسة دبلوماسية جديدة لبكين
تأثير العقوبات على الجانبين محدود، لكن الأزمة بين أوروبا والصين تمثل نكسة دبلوماسية لبكين.
إذ تعكس الأزمة بين أوروبا والصين انخفاضاً في مستوى علاقات بكين مع الغرب إلى جانب دول الجوار الآسيوي، بما في ذلك الهند، وهو أمر يعزوه منتقدو بكين إلى أن حكومة الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ سياسات تجارية واستراتيجية أكثر حزماً وهجومية.
وفي بيان مشترك صدر أمس الأول الإثنين، زعم وزراء خارجية أمريكا وكندا والمملكة المتحدة أن “برنامج القمع الصيني الواسع يشمل قيوداً صارمة على الحريات الدينية، واستخدام السخرة، والاعتقال الجماعي في معسكرات الاعتقال، والتعقيم القسري، والتدمير المنسق لتراث الإيغور”.
ونفت الصين مراراً تهم العمل القسري، وزعمت أن المعسكرات عبارة عن معسكرات إعادة تثقيف لاستئصال التطرف وتعليم الناس مهارات وظيفية جديدة.
الأهم أن هناك مخاوف أوروبية لا علاقة لها بالإيغور
ولطالما كان يُنظر إلى أوروبا على أنها أكثر ترحيباً بالاستثمارات الصينية مقابل رفض الولايات المتحدة لعدد من عمليات الاستحواذ المقترحة لأسباب أمنية.
وأنفق المستثمرون الصينيون مليارات الدولارات لشراء شركة كوكا الألمانية لصناعة الروبوتات، وعملاق الكيماويات الزراعية السويسرية سينجينتا، وأصول صناعية أخرى.
ومع ذلك، بدأ هذا يتغير بعد شكاوى من أن الدول الأوروبية تفقد تكنولوجيا مهمة، في حين أن معظم المؤسسات في الصين محظورة على المشترين الأجانب.
أدى ذلك إلى فرض قادة بريطانيا وألمانيا والاتحاد الأوروبي قيوداً، على عمليات الاستحواذ الصينية لشركاتهم الوطنية أو على الأقل أوصوا بمثل هذه القيود.
خلافات أوروبية داخلية حول العلاقة مع الصين
وتعقد جهود الاتحاد الأوروبي لصياغة سياسة مشتركة مع الصين المصالح المتضاربة لأعضائه السبعة والعشرين، حيث كانت المجر واليونان قد رفضت المقترحات السابقة لانتقاد سجل الصين في مجال حقوق الإنسان، ربما لتجنب تعطيل العلاقات التجارية والاستثمارية.
وكانت المجر الدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي رفضت العقوبات الأخيرة، وحذرت من تداعيات الأزمة بين أوروبا والصين.
ولم تستخدم المجر حق النقض (الفيتو) ضد هذه الإجراءات، لكن وزير الخارجية المجري بيتر سزيجارتو قال للصحافة المجرية في بروكسل، يوم الإثنين، إن عقوبات الاتحاد الأوروبي “لا معنى لها، واستعراضية، ومضرة”.
وأضاف أنه من الممكن أن “يسمموا” العلاقات التجارية بين الاتحاد الأوروبي والصين، وأن “مثل هذا القرار الاستراتيجي كان ينبغي على الأقل مناقشته في قمة الاتحاد الأوروبي التي تجمع الزعماء الأوروبيين”.
في المقابل، أعربت ألمانيا وفرنسا عن عدم ارتياحهما لأن بكين ربما تحاول تقسيم الكتلة من خلال تشكيل مجموعة تضم أفقر أعضائها من شرق ووسط أوروبا. خاصة أن الرئيس الصيني وعد”بالتعاون في مجال اللقاح” خلال اجتماع بالفيديو، في يناير/كانون الثاني مع قادةعدد من الدول الأوروبية.
كما باتت الحكومات الأوروبية تشارك بشكل متزايد في الجهود المبذولة لتحدي مطالبات بكين بمعظم بحر الصين الجنوبي، عن طريق إرسال سفن حربية عبر المياه المتنازع عليها لتأكيد “حرية الملاحة”.
ففي فبراير/شباط 2021، أرسلت فرنسا غواصة نووية إلى بحر الصين الجنوبي. وتقول بريطانيا إن قوة مهام متعددة الجنسيات مع حاملة الطائرات الملكة إليزابيث ستزور المنطقة هذا العام. ومن المقرر أن تبحر سفينة حربية ألمانية عبر المنطقة في أغسطس/آب القادم.
بكين تهدد بالتصعيد
وهدد موقع The Global Times الناطق بلسان النظام الصيني بتصعيد الأزمة بين أوروبا والصين.
إذ قال”باتباع حذو الولايات المتحدة، فقد نسي الاتحاد الأوروبي شيئاً واحداً: أن النتائج المحتملة للمنافسة المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة ستجعل العالم يرتجف من عواقبها”، حسبما نقل الموقع عن أكاديمي صيني يدعى كوي هونغ جيان.
وأمس الثلاثاء، انضم وزير الخارجية الصيني إلى نظيره الروسي في إدانة العقوبات الغربية المنسقة، حيث رفض الوزيران انتقاد الغرب لأنظمتهما الاستبدادية، واتهما الولايات المتحدة بالتدخل في شؤون الدول الأخرى.
ولم تذكر وزارة الخارجية الصينية أي تفاصيل بشأن عقوبات بكين المفروضة على الأوروبيين، لكن العقوبات السابقة على المسؤولين الأجانب منعتهم من دخول الصين أو هونغ كونغ أو ماكاو، كما أن الشركات المرتبطة بهم ممنوعة من ممارسة الأعمال التجارية في الصين.
وقالت بكين في بيان إن نائب وزير خارجيتها تشين قانغ استدعى نيكولا تشابويس سفير الاتحاد الأوروبي لدى الصين، مساء الإثنين، احتجاجاً على عقوبات الاتحاد الأوروبي.
وحذر البيان الاتحاد الأوروبي من زيادة تدهور العلاقات بين أوروبا والصين.
ولكن اللافت في العقوبات الصينية أنها طالت “اللجنة السياسية والأمنية لمجلس الاتحاد الأوروبي” (التي تتألف من 27 سفيراً في بروكسل)، و”اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان التابعة للبرلمان الأوروبي”، من بين مؤسسات وشخصيات أوروبية أخرى.
ومن المحتمل أن تضم اللجنتان العشرات من مسؤولي ودبلوماسيي الاتحاد الأوروبي، لكن لا يزال من غير الواضح ما إذا كان المبعوثون أنفسهم قد تأثروا. كما وقعت المؤسسات الفكرية التي كثيراً ما يستشيرها المسؤولون الأوروبيون ضحية للعقوبات.
لكن سفارة الصين في الاتحاد الأوروبي رفضت توضيح ما إذا كان هؤلاء الأشخاص وعائلاتهم قد تعرضوا للعقوبات أيضاً، عندما سألها موقع EUobserver.
بالنسبة للمشرعين في البرلمان الأوروبي كانت تصرفات الصين بمثابة كسر للصفقة التجارية التي تم التوصل إليها بين، وكانت العقوبات بمثابة تصعيد غير متوقع في الأزمة بين أوروبا والصين، وقد تفضي إلى مزيد من التدهور في العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي.
“لن نصمت”.. رد الفعل الصيني عقّد الأزمة
ويبدو أن العقوبات على أعضاء بالبرلمان الأوروبي تحديداً قد عقدت الأزمة بين أوروبا والصين.
فبسبب غضبهم من استهدافهم شخصياً بالعقوبات الصينية، هدَّد برلمانيون أوروبيون بارزون بعدم التصديق على اتفاقية الاستثمار بين الاتحاد الأوروبي والصين، المبرمة في ديسمبر/كانون الأول 2020.
وكتب راينهارد بوتيكوفر، عضو البرلمان الأوروبي الذي أدرج على القائمة الصينية السوداء، على تويتر “لقد أبلغتني القيادة الصينية أنه لن يُسمح لي بزيارة البر الرئيسي أو هونغ كونغ أو ماكاو”.
وأضاف أن التصديق على الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي والصين “لم يصبح أكثر احتمالاً”، بعد أن فرضت بكين عقوبات “لمعاقبة” حرية التعبير.
وقال شورد شوردسما، النائب الهولندي المدرج على القائمة السوداء للصين: “ما دامت الإبادة الجماعية مستمرة بحق الإيغور فلن أصمت”.
وقالت ماري بيير فيدرين، الناشطة في صفقة الاتحاد الأوروبي والصين: “يبدو أنه من غير المعقول أن يفكر البرلمان الأوروبي في التصديق على اتفاقية بينما يخضع أعضاؤه وإحدى لجانه للعقوبات”.
وسبق أن قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في ديسمبر/كانون الأول 2020، إن المفاوضات استغرقت سبع سنوات، وإن الاتفاق، في حالة التصديق عليه، سيسمح للمستثمرين الأوروبيين “بوصول غير مسبوق” إلى السوق الصيني.
ومن المقرر أن يصوت البرلمان الأوروبي على اتفاق الاستثمار بين الاتحاد الأوروبي والصين في أوائل عام 2022.
صفقة مثيرة للجدل ورد فعل صيني مبالغ به
لكن حتى قبل العقوبات الانتقامية يوم الإثنين، أثار بعض المشرعين الأوروبيين ثلاثة مخاوف كبيرة بشأن الصفقة، مما يشكك في احتمال إقرارها.
وأثارت الصفقة غضباً أمريكياً وشكاوى من أن أوروبا كانت تقوض تحالفها مع الولايات المتحدة من خلال منح بكين انتصاراً دبلوماسياً في وقت تحاول واشنطن احتواء بكين. ودعا منتقدون الزعماء الأوروبيين إلى رفض الصفقة.
وبينما وصفت الولايات المتحدة انتهاكات بكين ضد الأويغور بأنها إبادة جماعية وفرضت حظراً تجارياً، اتخذ الاتحاد الأوروبي موقفاً أقل تصادمية، وجاءت العقوبات الأوروبية محدودة.
وبالنظر إلى هذا النهج الأوروبي الذي يبدو متحفظاً، جاء رد بكين المضاد الفوري بمثابة صدمة، ويؤشر إلى أن بكين أرادت عبر تصعيد الأزمة بين أوروبا والصين إلى جعل الاتحاد الأوروبي عبرة للآخرين.
وقال رئيس البرلمان الأوروبي ديفيد ساسولي لصحيفة “Politico ” الأمريكية يوم الثلاثاء إن أوروبا ليست “كيس ملاكمة” للصين (في إشارة إلى أن أوروبا لن تقبل استخدام الصين لها أداة لتخويف الآخرين)، وتعهد بالانتقام من هذه العقوبات القاسية غير متوقعة على الاتحاد الأوروبي.
لكن ساسولي رفض الإفصاح عما إذا كانت الرد الأوروبي قد يشمل إلغاء اتفاقية الاستثمار بين الاتحاد الأوروبي والصين، كما يطالب بعض أعضاء البرلمان الأوروبي.
وقال ساسولي “أعتقد أن فحص البرلمان سيكون شاملا للغاية للصفقة”. “ولكن كما أظهرنا هذا العام أيضاً، فإننا نعقد صفقات تجارية تعتمد على احترام قيمنا الأساسية، وسيتم ذلك أيضاً مع الصين.”
وجاءت نبرة ساسولي التحذيرية في الوقت الذي قال فيه حزب الشعب الأوروبي من يمين الوسط، وهو أكبر حزب سياسي في البرلمان الأوروبي، يوم الثلاثاء إنه لا يزال يتوقع التصويت على التصديق على اتفاق التجارة بين الاتحاد الأوروبي والصين.
ولكن كاثلين فان برمبت، عضوة مجموعة الاشتراكيين والديمقراطيين اليسارية التي تعد ثاني أكبر كتلة بالبرلمان الأوروبي قالت: “إن رفع العقوبات عن أعضاء البرلمان الأوروبي هو شرط مسبق لنا للدخول في محادثات مع الحكومة الصينية بشأن صفقة الاستثمار”.