تركيا العدالة والتنمية.. حضور البراجماتية.. تراجع الأيديولوجيا

بقلم : سليم يونس

قد يبدو الموقف التركي الداعي لطي صفحة التناقضات التي وصلت في مرحلة معينة حد التدخل الخشن والناعم في شؤون بعض دول المنطقة لإحداث تغيير سياسي في تلك الدول لبعض لمراقبين لأول وهلة أمرا مستغربا، وهو استغراب يأتي ارتباطا بشخصية الرئيس أردوغان الحادة والانفعالية والشديد الاعتداد بنفسه، لكن هناك بُعد آخر في شخصية أردوغان لا يجب تجاهله وهو أنه يتمتع بسلوك براجماتي عال رغم انتماءاته العقائدية طوال تاريخه.

هذه البراجماتية قد لا تُلحظ بسهولة ارتباطا بشخصية الرجل الانفعالية من جانب، وكونه هو صاحب القرار الأول والأخير فيما يتعلق بالسياسة التركية، رغم وجود حزب العدالة الإسلامي الذي يحكم عبر التحالف مع الحركة القومية.

ولعل في واقعة تاريخية حول علاقة حزب العدالة والتنمية الإسلامي الذي يرأسه أردوغان بالكيان الصهيوني، بل وتطور هذه العلاقة  بشكل لافت في السنوات الأولى لوصول الحزب إلى سدة الحكم في تركيا عام 2002، ما يكشف البعد البراجماتي في شخصية أردوغان، وأن البعد العقائدي للرئيس التركي ليس مطلقا، فهو يتقدم ويتأخر حسب المصالح، إذا ما رأينا كيف غطت المصلحة والبراجماتية على الأيديولوجيا حتى نفتها، وذلك في واقعة زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان عام 2005 للكيان الصهيوني ولقائه رئيس وزرائه أرييل شارون، وقيامه بوضع إكليل من الزهور على قبر الصهيوني ثيودور هرتزل، أب الحركة الصهيونية.

ومن ثم فإن التطور الدرماتيكي لموقف أردوعان من العلاقة مع الدول التي سبق أن فجرت سياسيات أردوغان العلاقات معها، ونقلتها إلى مستويات الخطر الشديد، عندما هدد الرئيس المصري من أن سرت الجفرة (خط أحمر)، ردا على التهديد التركي بالاستيلاء على المنطقة، وربما وصولا إلى بنغازي في ليبيا، بما يعنيه ذلك لدي السيسي وصول الوجود المباشر لتركيا إلى  حدود مصر الغربية بكل التهديد الذي  يمثله في نظر القاهرة، في الوقت الذي تحتضن أنقرة جماعة الإخوان المسلمين المصرية التي تعمل على استرداد الحكم في مصر، إنما يكشف الأبعاد الخطرة التي وصلت إليها الأمور بين أنقرة وبعض دول الإقليم، شارفت تخوم الاشتباك المسلح.

ولفهم هذا التحول التركي الفجائي، أي الانتقال من تغليب الأيديولوجيا في سياستها طيلة سنوات ما بعد حراك 2011، إلى البحث عن تسكين التناقضات، والعودة إلى نظرية منظر حزب العدالة والتنمية أحمد داوود أوغلو ورئيس الوزراء التركي السابق حول تصفير المشاكل بين تركيا ودول الجوار، ومن ثم فإنه  من المهم الإشارة أولا إلى أن تركيا ورئيسها تحديدا قد نقلا تركيا من حالة “صفر مشاكل” إلى ما يمكن القول، أنها حالة ” صفر أصدقاء”، وبالطبع مع استثناءات محدودة، ومن ثم فإنه  ليس هناك والحال هذه من تفسير موضوعي لفهم ذلك، سوى ما يمكن القول أنه خطل رهان تركيا على رعاية أجندة إقليمية لصالحها عبر وكلائها الأيديولوجيين وغيرهم من أولئك الذي يجري توظيفهم بـ”القطعة”، بل وانتقال المبادرة إلى أيدي خصومها وفق المشهد الراهن لسير الأحداث التي تجري في المنطقة، وهذا بالتأكيد جعل تركيا تستشعر أنها إذا ما استمرت في سياساتها الراهنة، فإن نتيجة ذلك أنها ستجد نفسها خارج دائرة الفعل السياسي والاستفادة اقتصادية في المنطقة،  وربما تصبح على هامش الأحداث وبالنتيجة تكريس عزلتها جراء استمرار سياساتها الراهنة.

ولهذا السبب كان لافتا أن المسؤولين الأتراك بدءا من الرئيس ووزير الدفاع والخارجية وغيرهم وكأنهم قد اكتشفوا الآن، أهمية تصويب العلاقات مع دول الاشتباك السياسي وأبرزها القاهرة، أي مع السيسي نفسه المتهم من قبل أردوغان وحزب العدالة الإسلامي أنه قام بانقلاب على حكم الإخوان المسلمين في مصر، بل وتبني تركيا وأردوغان شخصيا مهمة التنظير لإسقاط الحكم في مصر وعودة حكم الإخوان، واحتضانه المجموعات الإخوانية الهاربة من مصر، وجعل تركيا منصة لوسائل إعلامها ومنحها حرية العمل والحركة ضد القاهرة، عبر توفير الدعم المادي واللوجستي لها لتحقيق هذا الهدف، غير أنها فشلت في ذلك وبات الاستمرار في ذات السلوك بمثابة خسارة صافية لتركيا في ظل المتغيرات الاستراتيجية التي حدثت شرق المتوسط من اكتشافات هائلة للنفط والغاز، وتأسيس منتدى غاز شرق المتوسط من 6 دول هي (مصر، وفلسطين، والأردن، وقبرص، والكيان الصهيوني، واليونان) مستبعدة تركيا. بل  وفرض الاتحاد الأوروبي حزمة من العقوبات عليها لمواصلتها ما سماها أنشطة التنقيب غير المشروعة عن النفط والغاز في شرق المتوسط، كان آخرها في ديسمبر2020، لتجد تركيا نفسها رغم أي مكابرة، تتجه نحو العزلة، بكل الآثار الاقتصادية التي لحقت الاقتصاد التركي، وهي العزلة التي ستستمر إذا ما واصلت أنقرة ذات السياسة عندما غلبت في  مرحلة ها التناقض على المصالح المشتركة في سياستها الخارجية، عبر استحضار الأيديولوجيا كناظم لعلاقتها مع دول الجوار، والإرث العثماني كحق تاريخي يجب استعادته.

لكن هذا البعد الأيديولوجي التاريخي العاطفي في السياسة التركية الخارجية عجز عن تحقيق ما تصبو إليه أنقرة، من دور قيادي وحضور جيوسياسي ومنافع اقتصادية، بل خلق تناقضات حادة حتى داخل مكونات المجتمع التركي وصلت إلى حزب العدالة والتنمية نفسه عبر تآكل تدريجي في بنيته ومؤيديه وصل إلى قياداته التاريخية مثل أحمد داوود أوغلو المنظر السياسي ورئيس الوزراء الأسبق وعلي باباجان مهندس الطفرة الاقتصادية في تركيا، اللذين شكلا حزبين مناهضين لحزب العدالة والتنمية، إضافة إلى استمرار سياسية الكي الداخلي لأي صوت معارض خاصة حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، وهذا بالطبع هو أحد الأوجه وراء سياسة التحول،  ولكن هناك جانبا مهما مباشرا  آخر يقف وراء هذا التحول كما نعتقد، وهو الذي  يتعلق بالبعد الاقتصادي، بعد أن شهد الاقتصادي التركي تدهورا لافتا في الفترة الأخيرة.

ومن تجليات هذا التدهور الاقتصادي التي تقف وراء هذا التحول  في السياسة التركية الخارجية، هو ما أظهرته التقارير التركية، من أن معدل التضخم سجل ارتفاعا بلغ 15.6% في فبراير 2021، فيما واصلت الليرة التركية التراجع أمام الدولار، إضافة إلى تسجيل الناتج المحلي الإجمالي نموًا ضعيفًا في 2020 بنسبة 1.8%، رافق ذلك أن معدل البطالة بلغ 13.2%، بحسب معهد الإحصاء التركي.

يضاف إلى ذلك وفق معهد الإحصاء التركي تراجع حجم التبادل التجاري بين تركيا ودول المنطقة في عام 2020 إلى 51.6 مليار دولار مقارنة بـ63.8 مليار دولار في 2012، بسبب تدهور علاقات أنقرة مع دول المنطقة، مما فاقم معاناة الاقتصاد التركي ، وهو أمر من شأنه أن يخلق حالة غضب وتذمر داخلي، من المتوقع أن تؤثر إذا ما استمر تدهور الوضع الاقتصادي على حظوظ حزب العدالة والتنمية والرئيس التركي في أي انتخابات مقبلة، في ظل وجود خصوم سياسيين أقوياء كانوا حتى وقت قريب من أعمدة النظام في أبعاده الأيديولوجية والسياسية. والاقتصادية.

 وكان من الطبيعي أن تبدأ أنقرة سياسة التراجع من القاهرة لثقل دور مصر في المنطقة، وحضورها الفاعل في شرق المتوسط ومحاولتها تطويق تركيا عبر الشراكة اليونانية القبرصية، لهذا جاء موقف تركيا الإيعاز لقنوات المعارضة المصرية التي تبث من الأراضي التركية بمثابة رسالة إلى مصر عن نوايا أنقرة العملية لجم هذه  المجموعات بما يطمئن القاهرة إلى أن أنقرة جادة في نواياها تجاه تحسين علاقتها مع القاهرة بالأفعال وليس فقط بالأقوال، كما طالب بذلك وزير الخارجية المصري.

هذا التطور والمبادرة من قبل  أنقرة نحو القاهرة وغيرها من الدول يعكس مؤشرات مقاربه جديدة نحو تلك الدول، ومن ثم فإن قراءة هذا التوجه المفاجئ من قبل أنقرة نحو خصوم أمس القريب،  تشير إلى تسليم الرئيس التركي بأن الأيديولوجيا والرغبات الشخصية قد يجري استخدامها لبعض الوقت، لكنه مستعد إذا عجزت الأيديولوجيا أن تكون رافعة يمكن  توظيفها في خدمة المصالح السياسية والاقتصادية والحضور الجيو سياسي التركي، وعوض ذلك انعكست سلبا على واقع تركيا الداخلي وعلاقاتها الخارجية، فإنه مستعد للتراجع ليس خطوتين للخلف، بل إلى ما هو أكثر من ذلك، نحو براجماتية عملية، قد تُظهر ما يقوم به وكأنه انقلاب على مواقفه التي تغيرت بين ليلة وضحاها، ولكنها في الحقيقة تكشف وجه الرئيس التركي البراجماتي بامتياز.. حيث المصالح وحدها هي الدائمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى