تضييق جديد.. هكذا يسعى ماكرون لإعادة تشكيل هوية المسلمين في فرنسا
“الإسلام ديانة تعيش أزمة في كل مكان في العالم”، كان هذا التصريح الذي عبر عنه الرئيس الفرنسي ماكرون في خطابه بباريس، يوم الجمعة 3 أكتوبر/تشرين الأول 2020، على هامش تقديم مشروع قانون محاربة “النزعات الانفصالية” أو ما يعرف بالنزعة الإسلامية المتطرفة، والذي يعد بلا شك نقطة تحول في التعامل مع الجالية المسلمة بفرنسا البالغ عددها أكثر من 6 ملايين نسمة. فهذا مشروع القانون سيعرض على مجلس الوزراء في بداية ديسمبر/كانون الأول سيُناقَش في البرلمان في النصف الأول من عام 2021 أي قُبَيْل الانتخابات الرئاسية المُزمع تنظيمها سنة 2022.
وتهدف مبادرة ماكرون هذه إلى التصدي الى كل المبادرات الخاصة والجمعوية الهادفة إلى الحفاظ على هوية أطفال الجالية المسلمة وعائلاتهم على المستوى العقائدي والثقافي والرياضي. وذلك، حسب زعمه، لحماية الجمهورية من إقامة نظام موازٍ يتنكر للمبادئ والثوابت العلمانية.
إن خارطة ماكرون لمحاربة ما يسميه بالنزعة الإسلامية الراديكالية الانفصالية تعتمد على 6 تدابير مركزية:
ـ إجبارية الدراسة بالمدرسة ابتداء من سن الثالثة.
ـ تقوية سلطات المحافظ أمام قرارات العمدة.
ـ التضييق على تعليم اللغات الأجنبية ومن ضمنها اللغة العربية.
ـ تشديد المراقبة على تمويل المساجد والجمعيات الإسلامية.
ـ إقرار المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية CFCM كمخاطِب رسمي أوحد للسلطات العمومية.
ـ توسيع حظر ارتداء الحجاب إلى القطاع الخاص.
وفيما يلي تفصيل أكثر لفهم لخارطة ماكرون هذه:
1- إجبارية التعليم بالمدرسة ابتداء من سن الثالثة
من القرارات الجديدة التي ينص عليها مشروع قانون محاربة النزعات الانفصالية إجبارية التعليم الحضوري ابتداء من سن الثالثة. والهدف من هذه المبادرة هو التضييق على توجه العائلات المسلمة بفرنسا في إمكانية اختيار التعليم بالمنزل ابتداء من سن الثالثة للحفاظ على هويتهم الدينية وتعلم اللغة العربية. فمشروع القانون الجديد لا يسمح بالتعليم بالمنزل إلا في حالات استثنائية للأطفال ذوي الإكراهات الصحية التي تحول دون ذهابهم إلى المدرسة. ويوازي تقنين التمدرس بالبيت تشديد المراقبة على المدارس الدينية الخاصة.
مبادرة ماكرون هي رد فعل على الانتشار الكبير بين أفراد الجالية المسلمة للتعليم بالمنزل، حيث تشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 50 ألف طفل اختارت عائلاتهم متابعة الدراسة بالمنزل عوض المدرسة العمومية.
قرار الرئيس الفرنسي يعتبر من القرارات المفصلية في تاريخ التعليم بالمقارنة مع قرار 1882 الذي أقر إجبارية التعليم وقانون الاختلاط بالمدارس الذي اتخذ سنة 1969.
اختيار المدرسة كبداية لمحاربة تشبث المسلمين بفرنسا بالدين واللغة العربية ينبع من قناعة ماكرون من كون المدرسة هي نقطة بداية تربية النشء على قيم الجمهورية والعلمانية.
2- تقوية سلطات المحافظ أمام قرارات العمدة
نظراً لاعتبارات انتخابية، وتودداً للجالية المسلمة، بادر العديد من العمداء بفرنسا إلى السماح بتوفير أكل حلال بالمقاصف التزاماً بمبادئ الذبح الموافقة للشريعة الإسلامية كما هو الحال بمناطق سان دونيز ونورموندي. فبدخول القانون الجديد حيز التنفيذ، ستُخول للمحافظ سلطة إلغاء أي تصريح عمدة مدينة يقضي بتوفير أكل حلال وفقاً للتعاليم الإسلامية بالمقاصف المدرسية. والأمر نفسه، ينطبق على قرارات تنظيم دخول المسابح التي تسمح بتخصيص أوقات للنساء وأخرى للرجال بدل الاختلاط الدارج.
لحد الآن، العديد من العائلات كانت ترفض الاختلاط بالمسابح خاصة المدرسية لذلك كانت تلجأ للحصول على تقارير طبية لأطفالها أن لديهم حساسية من مادة الكلور.
نفس الاتجاه لوحظ بسماح العديد من عمداء بعض المناطق والمدن بفتح نوادٍ رياضية للجالية المسلمة في فنون القتال وكرة القدم. انتشار هذه النوادي ذات الخلفية الدينية اعتبرها العديد من الأطياف السياسية حضن التطرف الديني والحركات الراديكالية.
3- التضييق على تعليم اللغات الأجنبية ومن ضمنها اللغة العربية
سمح نظام تعليم اللغات والثقافة الأم ـELCOـ في سبعينيات القرن الماضي، للآباء المهاجرين من الحفاظ على الروابط اللغوية والثقافية بين أطفالهم ولغتهم الأم، حيث كان بالإمكان توفير دروس تعلم لغات مختلفة كالعربية والتركية والإسبانية والإيطالية بالمدارس العمومية لأطفال المهاجرين. وكانت رواتب موظفي هيئة التدريس المكلفة بتعليم هذه اللغات تحصل على التمويل من البلدان المعنية بالحفاظ على هوية جاليتها ولغتها بالخارج. مشروع القانون الجديد سيضع نهايةً لنظام تعليم اللغات والثقافة الأم مع إمكانية السماح بتعليم اللغات الأجنبية ومن ضمنها اللغة العربية بالمدرسة في رياض الأطفال ولكن وفق ضوابط جديدة ومراقبة عن كثب.
العديد من الأصوات اليمينية وإن تقبل بتعلم اللغة العربية، فإنها تطالب بأن تكون الهيئة المكلفة بالتدريس تضم فقط أساتذة فرنسيين يتقنون اللغة وليس مدرسين مستقدمين من دول كالمغرب، الجزائر وتونس. قلق النخب السياسية من تعلم اللغة العربية مقترن من خوفهم أن تعلم اللغة يكون عبر حفظ القرآن، وبالتالي خطر نشر ما يعتبرونه فكراً متطرفاً بين الأطفال منذ صغرهم عبر حفظ الآيات القرآنية المخالفة لثوابت الجمهورية والعلمانية.
4- تشديد المراقبة على تمويل المساجد والجمعيات الإسلامية
خصص مشروع قانون التصدي للانفصالية الدينية وخاصة الإسلامية جزءاً مهماً من فصوله لتشديد المراقبة على المراكز الدينية وخاصة تمويل المساجد. فمشروع القانون هذا سيدفع الجمعيات الإسلامية التي دأبت على العمل طبقاً لقانون 1901 المتعلق بتنظيم العمل الجمعوي إلى التحول إلى جمعيات تعمل تحت نظام قانون 1905 الذي يتميز بمراقبة محاسباتية أكثر صرامة من قانون 1901. وسيصبح هذا التحول فرصة لتشديد المراقبة المالية والمحاسباتية على الجمعيات المكلفة بتدبير مساجد الجاليات المسلمة وجمعياتها بفرنسا. ومن جهة أخرى، تشكل هذه المبادرة حسب الرئيس ماكرون وسيلة ناجعة لمنع ما يسميه “انقلابات المتشددين” في تسيير المساجد والجمعيات الدينية الشيء الذي يؤدي، حسب زعمه، إلى تقوية الاتجاهات الراديكالية المنافية لمبادئ العلمانية والجمهورية.
التضييق على تمويل جمعيات الجالية المسلمة يندرج كذلك في إطار محاربة فرنسا التدخل الأجنبي، نظراً لتعدد التمويلات الخارجية من دول المغرب العربي وتركيا ودول الخليج للعديد من الجمعيات الدينية.
تجدر الإشارة إلى أن مشروع القانون سيسمح إذا ما تم تطبيقه من حل الجمعيات الإسلامية في حالة انتهاك كرامة الأشخاص أو في حالة تعرضهم للضغوط النفسية. إضافة إلى ذلك، ستجبر مختلف جمعيات الجالية المسلمة من توقيع ميثاق احترام العلمانية للتمكن من الاستفادة من التمويل العمومي. في حالة ثبوت أي مخالفة قانونية، ستكون الجمعية من إعادة كل الأموال التي توصلت بها في إطار الدعم العمومي.
5- المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية.. المحاور الرسمي والأوحد للسلطات العمومية
سعياً للحد من ديناميكية نمو جمعيات الجالية المسلمة بفرنسا، ينص مشروع القانون الجديد على تقوية دور المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية باعتباره المحاور الرسمي والأوحد للسلطات العمومية في كل ما يتعلق بالشؤون الإسلامية.
وخلال الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفرنسي يوم الجمعة 3 أكتوبر/تشرين الأول 2020، حث المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية على الإسراع في مشروع تكوين الأئمة وتأهيلهم بفرنسا بشكل يتوافق مع ثوابت الجمهورية والعلمانية. تقوية هيمنة هذا المجلس على ملفات الجالية المسلمة يهدف إلى التضييق على مبادرات بعض الدول كالمغرب والجزائر وتركيا التي ترسل أئمة المساجد إلى فرنسا، بلغ عددهم 300 إمام مكلفين بإمامة الصلاة وتعليم القرآن واللغة العربية والمبادئ الإسلامية، وجمع الزكاة.
وبالتوازي مع تقوية دور هذا المجلس، قرر الرئيس ماكرون تخصيص ميزانية 10 ملايين يورو لتمويل مجهودات مؤسسة إسلام فرنسا للتعريف بالثقافة الإسلامية عبر إنشاء المركز العلمي للدراسات الإسلامية.
6- توسيع حظر ارتداء الحجاب إلى القطاع الخاص
يتصدر ملف الحجاب والرموز الدينية أولويات مشروع القانون الجديد. فقد أعلن الرئيس في خطابه أنه سيتم توسيع الحظر على الرموز الدينية كالحجاب ليشمل هذه المرة موظفي القطاع الخاص الذين يقدمون خدمات عامة. فالحظر الذي يفرضه مشروع القانون على الشعارات الدينية ليس جديداً، غير أنه يرسخ ويشدد هذا التضييق.
الأسابيع الماضية كانت مسرحاً لتجدد النقاش حول الحجاب بعد انسحاب بعض النواب بسبب مشاركة مريم بوجيتو كممثلة طلابية مسلمة بالحجاب للمنظمة UNEF في اجتماع للبرلمان للاستماع لآراء الفاعلين الجمعويين حول آثار فيروس كورونا على الشباب. هذا الحادث فسرته النساء البرلمانيات المنسحبات بكون الحجاب يتنافى مع النظام الداخلي للبرلمان باعتباره علامة إثنية تتنافى مع مبادئ العلمانية والجمهورية.
في النهاية، فإن مبادرة الرئيس ماكرون الجديدة عبر مشروع هذا القانون ستفرز مزيداً من “الإسلاموفوبيا” والتخوف لدى الجالية المسلمة بفرنسا، نظراً لارتفاع حدة الأصوات داخل اليمين المتطرف وطيف واسع من الطبقة السياسية الفرنسية الرافضة لكل أشكال الحفاظ على الهوية العقائدية واللغوية لدى مسلمي فرنسا.
كما أن آفاق التضييق على المسلمين بفرنسا سترتفع لا محالة سنة 2020 و2021 على اعتبار أنها سنوات انتخابات محلية ورئاسية تستوجب تعبئة الرأي العام لحصد أكبر قدر من الأصوات عبر الاستفادة من تنامي الخوف من العمليات الإرهابية وتداعيات الأزمة الاقتصادية الناتجة عن فيروس كورونا.