تهدئة السنة والشيعة.. سر عودة “الصدر” المفاجئة بالعراق
بين مطالبة أنصاره بعدم مغادرة العراق ودعوته للتهدئة بين السنة والشيعة، بات توقيت الظهور المفاجئ للزعيم مقتدى الصدر مرة أخرى مثيرا.
دعوة جديدة أطلقها زعيم التيار الصدري في العراق، مقتدى الصدر، لحوار يهدف لإنهاء الخلاف حول صحابة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، مؤكدا أن “الاختلاف المذهبي البناء والحوار الهادف وخصوصا بما يخص تفضيل أهل البيت على الصحابة لا بد أن يستمر بأدب واحترام”.
وضرب الزعيم مقتدى الصدر مثالا بما يقوم به “بعض السادة والمشايخ الأجلاء على سبيل المثال في العراق أو مصر أو تونس أو الخليج العربي وما شاكل ذلك، وإنني أرى من المصلحة الملحة فتح حوار جاد وهادف وبجلسات مستمرة لإنهاء الخلاف بما يخص الصحابة”.
حراك جديد شغله مقتدى الصدر عبر مواقع التواصل الاجتماعي بعد دعوة سابقة وجهها لمسؤولي تياره لعدم مغادرة العراق، خلال شهر رمضان، لينهي فترة صمته السياسية الممتدة على مدار خمسة شهور.
وبين تنافس واضح للصدريين والإطار التنسيقي، ومع صدارة الأخير للمشهد، ربما يكون الظهور المفاجئ لـ”مقتدى” خلال مارس/آذار الجاري محاولة لإجهاض قانون الانتخابات المطروح أو حجز موطئ قدم على خريطة التسويات الإقليمية الجارية.
سر التوقيت
استمالة السنة والشيعة، على حد سواء، حتى وإن بدت دعوة إقليمية إلا أن الصدر يستهدف بها “الداخل العراقي” بالدرجة الأولى في وقت حرج يمر به هذا البلد العربي مع محاولات برلمانية لتمرير قانون “سانت ليغو”.
واليوم السبت، يصوت البرلمان العراقي على قانون انتخابات “جديد-قديم”، يتعلق بعودة العمل بنظام “سانت ليغو” الانتخابي المعدل بنسبة 1.9.
نظامٌ انتخابي حال إقراره من قبل البرلمان، سيعود إلى العمل بنظام دائرة انتخابية واحدة لكل محافظة، كما أنه سيلغي صيغة الدوائر المتعددة المعتمدة في القانون الحالي، والذي كان التيار الصدري أبرز المستفيدين منه حتى وقت قريب.
ففي العشرين من مارس/آذار الجاري، صوت مجلس النواب العراقي على أكثر من نصف المواد المقترحة في مشروع قانون الانتخابات الجديد، بينها اعتماد الفرز الإلكتروني للأصوات، وإلزام المرشحين بالتقدم نحو المنافسة بالحصول على أقل تقدير على شهادة البكالوريوس.
تصويت برلماني امتد لإقرار أن يكون المرشح غير محكوم عليه بجناية أو جنحة مخلة بالشرف، بما فيها قضايا الفساد الإداري والمالي المنصوص عليها في 8 مواد من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل، بحكم قضائي بات، سواء كان مشمولا بالعفو عنها من عدمه.
وعلى وقع التحرك نحو تعديل قانون الانتخابات، شهدت البلاد مظاهرات واسعة احتجاجاً على العودة للنظام الانتخابي “سانت ليغو” والدائرة الانتخابية الواحدة.
انقسام داخلي
تورتة الانتخابات العراقية يتنازع عليها فريقان بـ”سكين التعديلات”، فالتكتل السياسي “الإطار التنسيقي”، الذي ينحدر منه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني يدفع بقوة نحو العودة إلى قانون “سانت ليغو”.
وفي المقابل، يقف فريق آخر يضم القوى السياسية المستقلة والمدنية كحجر عثرة في وجه “التنسيقيين” في وجه العودة إلى القانون الانتخابي ما قبل خريف 2019؛ حيث يرون أنه عودة إلى “ديكتاتورية الأحزاب الكبيرة”.
ويضم الإطار كتلا شيعية أبرزها كتلة الفتح الممثلة لفصائل الحشد الشعبي الموالي لإيران، ودولة القانون بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي.
وكان الإطار قد تعرض لخسارة فادحة في الانتخابات الماضي، قبل أن يستحوذ على غالبية مقاعد البرلمان، جراء استقالة نواب الكتلة الصدرية، العام الماضي.
ومنتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي، رفض الزعيم الشيعي مقتدى الصدر مشاركة أعضاء تياره في الحكومة العراقية برئاسة السوداني، في أول إشارة إلى عودة الأزمة السياسية في البلاد للمربع الأول.
حينها اختير محمد شياع السوداني مرشح الإطار التنسيقي (التكتل الشيعي المقرب من إيران) رئيسا للحكومة العراقية، وهو ما وقف له الصدريون بالمرصاد باعتباره اختيارا جاء معززا بأسباب لا يبدو معها التوافق ممكنا إذ وصف الزعيم الشيعي حينها حكومته بأنها حكومة “تبعية مليشياوية مجربة”، قاطعا بأنها لن تلبي طموحات الشعب العراقي.
ويعزو معسكر الاعتراضات على تقسيمات “سانت ليغو”، إلى أنه يسمح بمصادرة أصوات القوى الصغيرة وتقزيمها مقابل تضخيم الأصوات التي تحصدها القوى الكبيرة، ما جعلها في حالة من التمكن والوصول إلى المقاعد النيابية بأرقام كبيرة.
وللمرة الأولى في تاريخ العراق الديمقراطي جرت انتخابات 2021 التشريعية وفق قانون انتخابي جديد ألغى بموجبه نظام “سانت ليغو” وتقسيم العراق إلى دوائر انتخابية متعددة.
ودفعت الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي عمت محافظات الوسط والجنوب في أكتوبر/تشرين الأول 2019، إلى قيام السلطة التشريعية بإقرار قانون انتخابات جديد استجابة للإرادة الجماهيرية.
مقتدى الصدر في سطور
ينحدر الصدر من سلالة رجال دين شيعة، وورث شعبيته الكبيرة من والده محمد صادق الصدر، أبرز رجال الدين المعارضين للرئيس الأسبق صدام حسين، الذي قتله مع اثنين من أبنائه في عام 1999.
منح هذا النسب المرموق دفعا شعبيا لمقتدى الصدر، فكان أحد أبرز الشخصيات التي لعبت دوراً أساسياً في إعادة بناء النظام السياسي بعد سقوط صدام حسين في العام 2003، وقاد إحدى أكثر الحركات الشيعية نفوذاً وشعبية في البلاد.
بدأت مسيرته بمعارك ضارية مع القوات الأمريكية التي اجتاحت العراق في 2003، وصولا إلى نزاع حاد مع رئيس الوزراء الشيعي نوري المالكي الذي حكم البلاد بين العامين 2006 و2014.
حلّ بعد ذلك مليشيات “جيش المهدي” المؤلفة من 60 ألف مقاتل، لكنه أعاد تفعيلها بعد اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني مطلع العام 2020 في ضربة عسكرية أمريكية في بغداد.
وفي حين تبنى في أعقاب احتجاجات العام 2019 خطاً قريباً من الحشد الشعبي الموالي لإيران، بات بعد ذلك يدافع عن خط أكثر “وطنية”. ويقر الجميع، حتى معارضو الصدر، بأنه لا يزال يحتفظ بقاعدة شعبية قوية تستجيب له.
وقبل أشهر قليلة، أعلن اعتزاله الحياة السياسية، في خضم أزمة كبرى، لكن بعد سلسلة من المكاسب السياسية حققها تحالفه العراقي الناشئ (إنقاذ وطن) أمام موالين لإيران، ينخرطون في ائتلاف “الإطار التنسيقي”.
ورغم مساعي الصدر للبقاء في موقع يتجاوز معترك السياسات التحزبية، ورغم إحجامه عن السعي لاقتناص منصب لنفسه، ظل قوة حاسمة في العراق طوال العقدين الماضيين منذ الغزو الأمريكي والإطاحة بالرئيس الراحل صدام حسين.
وبالإضافة إلى ما حققه من سطوة في صندوق الاقتراع عبر جحافل الناخبين الصدريين، تمكن من إدخال مساعديه في وزارات مهمة ووظائف حكومية عليا أخرى، بما يضمن له إحكام قبضته على جانب كبير من مفاصل الدولة العراقية.
وحتى قبل الانتخابات في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، انضم أنصاره إلى احتجاجات مناهضة للفساد عام 2019، أطاحت بحكومة قادتها أحزاب متحالفة مع إيران، وتعزز النفوذ بتفوق مؤيديه على تلك الأحزاب في الانتخابات البرلمانية.
فور اعتزاله أصدر مكتب زعيم التيار الصدري، 3 توجيهات، وهي منع كل من: التدخل باسم التيار الصدري في جميع الأمور السياسية والحكومية، رفع الشعارات والأعلام والهتافات السياسية وغيرها باسم التيار، حظر المكتب استعمال اسم التيار في وسائل الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي، لكنه عاد خلال الأسابيع الماضية بنشاط مكثف.
ففي عام 2014، أعلن الصدر بشكل مفاجئ أيضا انسحابه من العملية السياسية وحل تياره وغلق جميع مكاتبه، والتخلي عن الوزراء التابعين له في الحكومة، وحتى أعضاء البرلمان من حزبه.
وبين 2014 و2022، كثيرا ما أعلن الصدر الانسحاب، وترك الاشتغال بالعمل السياسي، لكنه سرعان ما يعود وبقوة أكبر للساحة السياسية، ممارسا دوره القيادي، لشعبيته الجارفة في العراق، وهو ما بدا واضحا أيضًا هذه المرة.