“حارس سطح العالم”.. الإبداع والرقابة في خيال بثينة العيسى

تخطف الكاتبة الكويتية بثينة العيسى قارئ روايتها الجديدة لعالم بملامح كافكاوية من السطر الأول، الذي يُذكر بورطة بطل رواية فرانز كافكا “المسخ” الذي استيقظ صباح يوم بعد أحلام مزعجة ووجد نفسه قد تحول إلى حشرة، ولكن بطل بثينة العيسى استيقظ من نومه ذات صباح ليجد نفسه قد تحول إلى قارئ ممتلئ بكلمات الآخرين وهو الموكل له مهمة رقابة الكتب ومصادرتها، وهذا كان كابوسه.

تتسع رواية بثينة العيسى الصادرة أخيرا “حارس سطح العالم”، عن الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات تكوين، لحقول شاسعة من التجريب الفني والسردي، وذلك في سبيلها لخلق عمل روائي يتلاقى مع فكرة جدلية حرية الإبداع في مقابل مصادرة الخيال، فابتكرت إطارًا فانتازيًا للسياق الأدبي، يقود بطلها رقيب الكتب لمتاهة يعيد فيها اكتشاف نفسه مع كل مرة يتورط في الانفعال بأبطال الكتب التي من صميم عمله أن يقمعها، لأنها تنافي المنطق وتنحاز للخيال، وهي حسب كتالوج هيئة الرقابة بمدينته مواد ضارة بالصحة العقلية يجب التخلص منها، وظل يتلقى في بدايات عمله في الرقابة التدريب على عدم الغوص في اللغة “اللغة كلها سطح.. ليس فيها تضاريس، وإذا ما حافظنا على سطحية اللغة، أصبحنا قادرين على مراقبتها” هكذا يردد وراء الرقيب الأول وكبير الرقباء.

ولأن تأثير الخيال خارق “يعثر دائما على مسام صغيرة جدا في بشرة الحقيقة الرقيقة، وأنه يجد طريقه للظهور ببساطة”، فقد تم اختراق رقيب الكتب عبر مُخيلته، فعشق شخصية زوربا اليوناني، ولم يستطع أن يوصي بحظر روايته، فقد تسلل البطل الروائي الأشهر وترك من أثره الكثير في مخيلة رقيب الكتب “عليه أن يعترف أن أشياء كثيرة تغيرت في حياته منذ ذلك الكتاب. أشياء لا يجرؤ على ذكرها أمام أحد، فآخر شيء يحتاجه رقيب الكتب هو أن يعترف بفضائل خصمه”.

وعلى مدار الرواية، التي تقع في 244 صفحة، يُذكر الرقيب نفسه بهؤلاء الخصوم، الذين يكمنون في الأعماق، وحشايا الكلمات، والإفراط في التأويل، وفورة الخيال، وزاد من حدة هذا التهديد انسياق ابنته الصغيرة مع مُخيلتها الجامحة، فتشغلها ملابس الأميرات، وغُبار الجنيات، وحكايات الذئاب، هذا الاستغراق الذي قاد الطفلة ووالدها الرقيب لمصير يُرعب والدها ويزيد من ورطته المُشتتة بين الرقابة وشغفه بتتبع شخصيات رواياته.

تنتقل الكاتبة الكويتية ببطلها من مرحلة لأخرى عبر خمسة فصول، جعلت لكل منها محاولة لمحاورة أعمال خالدة في تاريخ الأدب الكلاسيكي، وهي “زوربا” و”أليس في بلاد العجائب”، و”جمهورية الأخ الكبير” و”بيونوكيو”، و”451 فهرنهايت”، وإحالات أخرى لأعمال أدبية أخرى تزيد من تورط الرقيب في محبة الكتب، في مدينة مُتخيلة لم يعد بها مكان للخيال ولا الحكايات وذلك حماية للبشرية من آثارهم الجانبية المميتة “الكل يتساءل إذا كان قادرا على العودة من ذلك الكتاب دون أضرار. آثار الكلمات التي قرأها تبدو واضحة على وجهه، كدمات ورضوض غير مرئية، لكنها مؤلمة”.

على مدار الرواية لا تُفارق الأرانب رحلة رقيب الكتب في اكتشاف ذاته، ويعد حضور الأرانب من مفاتيح الرواية الرمزية، بما تؤول له من استعارات، وظل الرقيب يردد كلمة حارسي الرقابة “اتبع الأرنب الأبيض” وكأن ذلك هو طوق النجاة، وهو يتمزق بين التفتيش عن ذاته بين صفحات كل ما قرأ، وكل ما خاض من معارك، هل الكتب ضحايا أم أنه هو ضحية القمع والتفتيش وحرق الكتب، يتساءل في لحظة تقرير مصير عن وجهته وما طرأ على تكوينه “لو لم يقرأ زوربا في الأصل، فلن يكن بهذا التقلب، رقيب كتب، قارئ، حارس السطح، مفتش المكتبات، سرطان، بطل قومي.. لو كان يعرف من هو. لو أن الكتب تمنحه شيئا غير الأسئلة. لو أنه لم يتورط في التأويل.. ماذا ستفعل الآن؟”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى