حكاية تشبه كلّ الحكايات

محمد بلال ..
كاتب فلسطيني.. سورية
ولد ذاك الفتى الحائر بأمره و في فمه كسرةُ خبز صُلبة تمرّس في كسرها، تعلّم منها كيف يميت الجوع أمام ولائم الشوك القاسية , كان يعتقد أنّ الحياةَ مجرّد ألم يقوده إلى ألم آخر و معارك قاسية تقوده إلى نصر محقّق, معارك عليه أن يواجهها بعناد متسلّحاً بكلّ عتاد الرجولة التي داهمها قبل أوانها , أدمَنَ الهمَّ و التّعب منذ صرخته الأولى , فكانت الطفولة بالنسبة إليه قوقعة تعيق حروبه الملحّة و تجَرّدهُ من كلّ أسلحته التي تعينه على مجاهدة الحياة, لذلك ضاق ذرعاً بها ، قرّر أن يغادرها قبل أن يعيشها، فلا سرير حرير يفقد دفئه، و لا ألعابَ جميلة تغادر حضنه .
تفتّحت عيناه في أزّقة محكومة بالفوضى و الشّقاء , و كان أوّل ما رآه ثوباً سُرق من شظف الصحراء مجسّداً بخيمة تتراقص مع الريح الباردة و تذبل أمام لهيب الشمس الحارقة ، و في الحالتين كلتيهما كانت تلك الخيمة اللعينة تكثّف لؤم الطبيعة لتصلي أكوام اللحم المكدّسة تحتها بوابل لا يرحم من القرّ و الحرّ.
لم يكن ذلك الفتى يدري بأنّ طفولةً “ما” كان يجب أن يعيشها، أن يتلذّذ بها، ربّما نسي أن يخطفها من حضن الزمن الراكض دون هوادة أمام طفل كُتبَ عليه أن يعيش النزوح و اللجوء و هو ما يزال في بطن أمّه.
كلّ ما يتذكّره من ذاك الزمن خيمة متهالكة و الكثير من الحروب القدَريّة التي خاضها دون سلاح إلّا من جسده الضعيف و شيء من فطرة التحدّي في مواجهة اصطفاء الطبيعة حفاظاً على البقاء، فطرة وُلِدت معه، جينات توارثها لا دخل له بها, جاءته نتيجة تراكمات طويلة بدأت مع أجداده الأوائل في قاع الزمن منذ أن كانوا يقارعون الطبيعة أملاً بالنجاة من كوارثها و غدرها.
أخذ منهم روح التحدّي فبدأ معاركه و هو لمّا يغادر عتبة الطفولة، تقمّص دور العامل و الفلّاح، رفَعَ موادّ البناء على ظهره الطريّ ، حفَرَ الأرض بيديه الغضّتين مقابل أجر بخس كان يراه ثروة قد تعين أسرته الكبيرة في شراء بعض الخبز أو فتات لحمٍ نادراً ما كان يراها على وليمته البائسة ، كانت سيرورته في تلك المعارك مجرّد تراكم خبرات تعدّه لمعارك قادمة أقسى و أمرّ.
ذات يوم نهض الفتى من طفولته المنسيّة عندما استرق بعضُ زملائه النظر إليه و هم يبتسمون بينما كان أستاذ اللغة العربيّة يقرأ:
(عمل غسّان كنفاني في بيع أكياس الورق في دمشق) ، يومها شعر أنّ مارداً استفاق في أعماقه و حطّم قمقمه المتكلّس بعد غفوة عميقة أهمل خلالها ذاته أمام هذا الصراع غير المتكافئ في مواجهات سرمديّة , لذلك لم يكن يهتمّ كثيراً بتفاهة الأناقة و هو الفارس المنكوب بكلّ مفردات العناء
شعر الفتى بخجل أمام أقرانه، بعد أن فهم أنّ مهنة بيع الأكياس معيبة لمن هم في سنّه، لماذا ؟لا يعلم, لكنّه قرّر بينه و بين نفسه أن يتخلّص من هذا العار الذي داهمه فجأة دون مقدّمات.
بدأ الفتى العمل في مهنته العائليّة هذه منذ أن كان في الصفّ الخامس، و منذ ذلك الوقت و هو يدور في دوّامة تبدأ و لا تنتهي، تشرع بطحنه منذ لحظات الفجر الأولى حين كانت أمّه توقظه مع أخيه الذي يصغره سنّاً، يحمل كلّ منهما ربطات الأكياس المخصّصة له على كتفيه ، و يتوجّهان بها إلى السوق لبيعها لتجّار الخضار القادمين من الأرياف.
كثيراً ما كان يحزنه في تلك الصباحات المكرّرة حال أخيه الذي يكاد يغفو و هو يمشي مترنّحاً و قد أخذ به النعاس و التعب كلّ مأخذ وسط طريق المخيّم الترابيّ الموصل إلى سوق درعا و الّذي ترفده أزّقة المخيّم الضيّقة لدرجة الاختناق.
– غازي أوعى تنام.
كان أخوه يكتفي بالصّمت و في داخله زحمة من الأمنيات لعلّ أقلّها أن يكون الآن ما يزال في فراشه و لو كان بارداً.
أصوات متداخلة, سعال, قرآن مرتّل بصوت عبد الله الخيّاط, شتائم, ضجيج , كلّ هذه المشاهد السمعيّة الصباحيّة المتراكمة على جانبي الطريق كانت تتنافر لتشكّل صورة واقعيّة عن التداخل بين المعاناة و الأمل وبين الإيمان و التذمّر الرافض للواقع المٌثقل بصديد البؤس و التشرّد.
كانت رحلة قاسية تبدأ ولا تنتهي ، يبيعان ما يمكن بيعه في الصباح ثمّ يعودان إلى البيت (الخيمة) أو كوخ اللبن لاحقاً، ليجهّزا نفسيهما سريعاً للذهاب إلى المدرسة، و بعدها يعودان إلى السوق ثانية ليبيعا ما فشلا في بيعه في صباح ذلك اليوم، ثمّ تبدأ رحلة مسائيّة تتّسع فيها المسافات بحثاً أكياس الإسمنت الفارغة في أحياء درعا لإعادة تدويرها و تحويلها إلى أكياس ورقيّة , عرائس تُلقى في ساحة الدّار لتتحوّل إلى قروش تسدّ ما يمكن سدّه من رمقٍ متعنّتٍ ، وهكذا كانت تدور الحياة بهما دون توقّف، أُقنعا خلالها أنّ الاستسلام للتعب أو حتّى الشّعور به أمرٌ معيب على الرجال.
– يمّا أنا كبرتُ و لن أعمل في بيع الأكياس بعد اليوم.
أخذت الأمّ هذا القول بنوع من السخرية و الاستخفاف، فثمّة أكثر من لاعب احتياط في البيت مرشّح للعب هذا الدور و تسلّم الراية.
– يعني صرت زلمة يا مقلعط! بعدك ما فقست من البيضة.
في قاموسها الوجوديّ لا مفردات للمهادنة مع قسوة الحياة، و لا معاني تُفهم في سياقات لِذّات النفس و حقوقها، لذلك تجدها في حركة دائمة كنوّاس ساعة لا يهدأ طوال الوقت، فقبل أن تبدأ رحلتها في إيقاظ الجميع تكون قد ملأت (سطل) الماء من الحنفيّات الجماعيّة المنتشرة في المخيّم, و نظّفت ما يجب تنظيفه , غسلت و نشرت, و جهزّت إبريق الشاي على ببّور الكاز و إلى جانبه رفيق الصباحات و المساءات صحن لبن يتيم, و ثفال الخبز الملفوف جيّداً ببطانيّة الوكالة للحفاظ على نضارته.
تمادى الفتى الهارب من طفولته ، و أراد أن يتقمّص دور الفارس في سنّه المبكرة تلك، ربّما كان ذلك انتقاماً من الواقع و قيوده التي هشّمت طفولته و صهرته في بوتقة الألم الّذي طالما أخفاه كعورة يداري سوءتها عن عيون الناس.
– شباب ما رأيكم أن نهرب إلى لبنان في الصيفيّة و نصير فدائييّن؟
تحمّس بعضهم للفكرة, و اتفّقوا على التنفيذ في صباح اليوم التالي للفحص الأخير ، و كان حينها لمّا يزل في الصف الثامن.