حماس والسلطة.. صراع التمثيل
سليم الزريعي
ربما كان أسوأ ما يمكن أن يتعرض له الشعب الفلسطيني هو أن يضيف العدو الأمريكي الصهيوني إلى محرقة غزة التي راح ضحيتها عشرات الآلاف وتدمير البنية التحتية للقطاع المنكوب ، واقعا سياسيا هو الأسوأ على مدار عقود من الصراع مع مشروع الحركة الصهيونية في فلسطين وتجسيدها المادي الكيان الصهيوني، عبر شكل من أشكال الوصاية أو التبعية التي تصادر الإرادة التي سبق أن مارستها القوى الإمبريالية مع الشعوب والدول التي تكون محلا لهزيمة عسكرية تعيد إلى الذهن حقب الاستعمار البائدة مطلع القرن العشرين وبعد الحرب العالمية الثانية .
إن جملة الأفكار التي تعدها الولايات المتحدة والكيان الصهيوني ضمن ما يسميانه ترتيبات ما بعد الحرب في غزةـ هي محاولة لاستحضار ذلك التاريخ الأسود التي هي أفكار نظرية على الأقل حتى الآن، كونها تستبق نتائج الحرب على غزة التي هي مكنة غير محققة، لأنها رهن بتحقيق الكيان الصهيوني وأمريكا نصرا عسكريا يتطابق وأهداف الحرب على غزة، هذا من جانب، ومن الجانب الآخر وجود طرف فلسطيني يقبل أن يكون محلا للوصاية أو التبعية، وفي الأساس وقبل كل شيء أن يقيل الشعب الفلسطيني الممتد على مساحة الجغرافيا الفلسطينية وفي الشتات، انطلاقا من كونه هو مصدر المقاومة قي بعديها الكفاحي والسياسي تلك الترتيبات إضافة إلى أنه هو في كليته من يمنح الشرعية من عدمها، لأي مكون سياسي في الظروف الطبيعية، ليكون السؤال هو: من الذي سيمنح أي مكون سياسي تنصبه القوى المعادية الشرعية الشعبية ناهيك عن الشرعية القانونية والسياسية وحق الولاية بالمعنى الدستوري حق الولاية؟
ويبدو واضحا لأي متابع أن سوء النية هو الذي يحكم سلوك ومواقف الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وهما يبحثان مستقبل غزة بعد المحرقة، ويتجلى ذلك في التعامل مع قطاع غزة باعتباره كيانا قائما بذاته وليس جزءا أساسيا من الدولة الفلسطينية، بالمعني الدستوري والقانوني، وكأن سيطرة حماس عليه بالقوة المسلحة في 14 يونيو 2007، التي لم يجري الاعتراف بها من أي مؤسسة تشريعية فلسطينية ، ومن منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها، التي تعامل بعضها مع حماس في غزة كسلطة أمر واقع فقط. مبررا للتعامل مع قطاع غزة كإقليم قائم بذاته وليس جزءا من الكيان الفلسطيني الذي يتشكل من الضفة الغربية وقطاع غزة بصرف النظر عن الحالة الاستثنائية التي عاشها عندما كان تحت سلطة حماس.
وإذا كان الوضع الاستثنائي لم يسقط ولاية السلطة الوطنية الفلسطينية أو منظمة التحرير عن القطاع، التي استمرت في تمويل الخدمات الأساسية في القطاع من ميزانية دولة فلسطين حتى في ظل سيطرة حماس، فهو لن يمنح القوى المعادية الولايات المتحدة والكيان الصهيوني حق تكييف وضع القطاع القانوني بعيدا عن وضعة الطبيعي كجزء أساس من إقليم الكيان الفلسطيني والدولة الفلسطينية. ولذلك يمكن القول إنه محظور وطنيا السماح بفكرة أن غزة إقليم مستقل بذاته ، يقرر مستقبله الكيان الصهيوني أو الولايات المتحدة، وهنا المسألة لا تتعلق بأشخاص السلطة ومنظمة التحرير التي تعاني من فساد وترهل وانعدام الكفاءة والروح الحزبية الضيقة وعقلية النفي للآخر المختلف ، وإنما بصفتها مؤسسات اعتبارية تكتسب مشروعيتها التمثيلية من الشعب على أساس القانون الأساسي الفلسطيني ، لكن تلك المؤسسات تفتقد إلى الوحدة الوطنية الجامعة التي يمكن أن تؤسس لوحدة القيادة والقرار التي يدفع الشعب الفلسطيني ثمن غيابها الآن في غزة والضفة وتتحمله فتح وحماس وكل الفصائل الأخرى، التي شكلت مواقفها البيئة المناسبة لاستمرار وضع الانقسام وغياب الوحدة حتى حصول المحرقة.
إن مواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني في غزة والضفة وكل فلسطين يجب أن يبدأ بمواجهة الذات الفلسطينية عبر تصويب هذا الشذوذ الذي مثله وما يزال الانقسام الجغرافي والسياسي، وحالات تضخيم الذات الفكرية والسياسية والحزبية، التي جعلت البعض يعتقد ويمارس على أساس أن الشعب الفلسطيني يجب أن يكون قي خدمة وفداء تنظيمه، وأنه هو وحدة من يملك اليقين السياسي والفكري، وأن خياراته هي الحقيقة المطلقة، وهذا الذهن المسكون بهذا الفكر، هو الذي أسس ويؤسس لهذا الواقع الفلسطيني المريض، الذي هو وصفة ليس للتدخل الأمريكي الصهيوني وحسب ، وإنما لكل من لا يريد خيرا للقضية الفلسطينية.
لكن يبدو أن هذا الذهن الذي أنتح هذا الشذوذ في المشهد الفلسطيني ما يزال يعيش حالة انقصام فكري وسياسي، هي التي تحكم سلوك كل من السلطة الوطنية وحماس وكأن صدمة محرقة غزة بكل بنتائجها الكارثية لم تكن ذات أثر على سلوكهما الذي هو فيما نعتقد، ترجمة صادقة للنوايا الحقيقية ، فمثلا بدل أن يتوجه حسين الشيخ أمير سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية للأمريكيين بأن يرفعوا يدهم عن غزة وأهلها اتهم “حماس أنها أدارت ظهرها لكل مطالب الإجماع على برنامج سياسي وآلية نضالية واحدة ، محملا حماس مسؤولية ما يجري وأن الفلسطينيين يدفعون اليوم ” ثمن كبير مقابل ذلك”. ودعا الشيخ حماس إلى
الاعتراف ببرنامج منظمة التحرير الفلسطينية والجلوس في مربع الشرعية الدولية والقانون الدولي، لحماية المشروع الفلسطيني”، ومن حهة أخرى وفي سياق غياب الوعي بالتناقض الذي يحكم الصراع مع الكيان الصهيوني ككيان كولنيالي إحلالي لمستجلبين من عشرات الإثنيات، وأن القضية الفلسطينية هي معركة تحرر وطني بامتياز وفق القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، هناك من وجه بوصلة حزبه نحو معركة ليس لها علاقة بالمشروع الوطني الفلسطيني وما استقر عليه النضال الفلسطيني منذ ما قبل النكبة، عبر تفكير مفارق برهن القضية الفلسطينية لجوهر مشروع الإخوان المسلمين، من خلال دعوة فتحي حماد عضو المكتب السياسي لحماس، ووزير داخليتها الأسبق، الذي طالب الشعب الفلسطيني بالاستعداد لحمل ما سماها راية الخلافة ، وأنه كما قال: يجب التخلص من أسباب العمالة والخيانة لليهود والنصارى. عندما وصف الرئيس الفلسطيني بالخيانة، وأنه ” لا يجوز للرئيس “الخائن” عباس أن يتحكم في القرار”، ومن الواضح أن دعوة عضو المكتب السياسي لحماس تعكس تقييما فكريا وسياسيا للسلطة ورئيسها ولمنظمة التحرير وهذا ما نجد تجلياته بوضوح في الدعوة التي قدمها إسماعيل هنية رئيس حركة حماس للأمريكيين كأصحاب قرار باعتباره طرفا موازيا لمنظمة التحرير؛ إن لم يكن هو الطرف المقرر وهو أن حركته ” منفتحة على نقاش أي أفكار أو مبادرات يمكن أن … تفتح الباب على ترتيب البيت الفلسطيني على مستوى الضفة والقطاع، وصولا إلى المسار السياسي الذي يؤمن حق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة وعاصمتها القدس “.
هذه التصريحات لقطبي الانقسام الفلسطيني تكشف مدى البؤس الذي يعيشه المشهد الفلسطيني ، الذي تحضر فيه الأجندات الحزبية للفصائل على حساب دم وأرواح عشرات الآلاف من أهل غزة إضافة إلى ما يجري في الضفة.
وبدل أن يجري استدراك مخاطر الانقسام يحاول كل طرف أن يقدم نفسه للأمريكيين وغيرهم على أنه؛ هو من يستطيع أن يبرم اتفاقا سياسيا مع الكيان الصهيوني بترتيب أمريكي وربما عربي دائما وموثوقا، وكأن كل طرف يقدم أوراق اعتماده، حتى على حساب دم عشرات آلاف الضحايا في هذه المعركة، وعلى امتداد النضال الفلسطيني المتواصل طوال قرن من الزمان، الذي لم يبدأ بالتأكيد في 7 أكتوبر/تشرين الأول2023.
وهنا يجب التذكير أن التضامن من قبل شعوب العالم ودوله في أغلبيته الساحقة هو مع القضية الفلسطينية وشعبها وانتصارا لضحايا المحرقة، تحت علم فلسطين وصور الضحايا، وليس مع أي كيان حزبي فلسطيني. فيما كل من السلطة وحماس تقدمان أوراق اعتمادهما إلى العدو الأساس أمريكا على أنه، هو الأجدر بالثقة.