رواية “حلم”.. عندما ترتدي الحقيقة قناعا

يضع الكاتب النمساوي أرتور شنيتسلر في روايته القصيرة “حلم” كلا من بطليه “فريدولين” وزوجته “ألبرتينه” في مواجهة مؤرقة مع ذاتيهما، قبل أن يضعهما في مواجهة قاسية مع بعضهما.

يفتتح الكاتب النوفيلا بمشهد عائلي حميم يجمع الزوجين بطفلتهما الصغيرة، وهي تتأهب للخلود للنوم، وهما يتمنيان لها ليلة سعيدة، ولكن هذه الصورة الحالمة للعائلة السعيدة لا تلبث أن تتبدل مع بدايات السرد، حيث يتورط الزوجان في نقاش يبدو عابرا وعابثا، ولكنه استطاع أن يُلقي ببذور قلق وتوتر في أعماق كل منهما حول مدى متانة علاقتهما وعُمقها؛ “حاول كل منهما أن يحمل الآخر على البوح باعترافات، خائفين، اقتربا من بعضهما، وراح كل منهما يفتش في داخله عن أي حقيقة، مهما كانت هينة، يفتش عن حدث، مهما كان تافها، يصلح لأن يعبر عما لا يُقال، لعل الاعتراف الصادق يُحررهما من توتر وشك كادا يصبحان، مع مرور الوقت، فوق قدرتهما على الاحتمال”.

تعتبر “حلم” واحدة من أبرز الروايات العالمية القصيرة، وصدرت ترجمتها للعربية أخيرا عن دار “الكرمة” للنشر والتوزيع بالقاهرة، في ترجمة هي الأولى من اللغة الألمانية مباشرة أنجزها المترجم المصري سمير جريس.

في الرواية، التي تقع في 160 صفحة، تتداخل الأحلام مع واقع بطليها، وتكاد تُمزق علاقتهما تماما، فتتوالى اعترافات صغيرة لكل منهما حتى تصير ككرة ثلج.

يؤجج الأزمة حلم تراه “ألبرتينه” يشعر بعدها زوجها “فريديلين” من معانيه القاسية برغبتها الصارخة في الانتقام منه حتى وإن كان داخل عقلها الباطن وحسب.

يقود هذا الحلم الزوج إلى عالم مجنون غارق في الألغاز، ويتمرد على هدوء إيقاع حياته كطبيب صالح يمد دائما يد العون للآخرين، ويدعم هذا التمرد ظهور صديق قديم “ناختيجال” الذي تخلى عن الطب محبة في عزف البيانو حتى صار يُدعى للعزف في حفلات خاصة.

يُلح فريدولين لمُصاحبة ناختيجال لواحدة من تلك الحفلات الغامضة، مدفوعا بكثير من الفضول والرغبة في اكتشاف أشياء خارج دائرة حياته الرتيبة والهروب من حياته الزوجية، لا سيما بعد صدمته في مشاعر ألبرتينه حياله، ما جعله يعيش حالة تخبط كامل، فخاض مغامرة للحصول على زي تنكري وقناع أسود للدخول إلى تلك الحفلة السرية، التي يؤدي لها طريق طويل وشوارع جانبية مهجورة.

هناك يمر بمواقف مُريبة، تُطل سيدة تحصد تأمله رغم القناع الذي كانت ترتديه، ويخرج من الحفل قبل أن يتورط في أزمة كبيرة تُنقذه منها تلك السيدة، التي لا يلبث أن يجمع عنها أي خيوط بعد مغادرته الحفل، وتتداخل خلال رحلة بحثه عنها مسارات الخيال والأحلام من جديد، لتختلط لديه ملامح تلك السيدة بملامح زوجته “ألبرتينه” التي كانت طيلة هذا الوقت يهرب من مشاعره بالغضب الشديد تجاهها، ورغبته في أن “ينتقم من كل المرارات والإهانات التي سببتها له في أحد أحلامها”.

تدور أحداث النوفيلا في فيينا في بدايات القرن العشرين، ولكنها تُحاكي النفس البشرية في كل زمان ومكان، ما جعلها تنال نصيبا واسعا من الشهرة، وتُرجمت إلى عدة لغات، وقد اقتبس منها آخر أفلام المخرج الراحل ستانلي كوبريك “عيون مُغلقة على اتساعها” الذي تُوفي قبل عرضه.

يتأمل أرتور شنيتسلر في روايته القصيرة “حلم” فلسفته حول الحضور والغياب والأحلام من وجهة نظره، عبر سياق علاقة بطليه، فجعل بطله “فريدولين” قارئا في علم النفس، ويتحدث مثلا عن فكرة “الحياة المزدوجة” كوُجهة هروب وفرصة مُحتملة لحياة جديدة أكثر تحررا من اليأس والخذلان، وأيضا عن الأثر الذي تتركه الأحلام في النفس.

فيقول على لسان بطله: “ثمة حقا أحلام ينساها المرء كل النسيان، ولا يتبقى منها سوى حالة نفسية مبهمة، نوع من الدوار الغامض.أو أن المرء لا يتذكر إلا متأخرا متأخرا جدا، ولا يعود يعرف: هل عايش ذلك، أم أنه حلم فحسب؟ فحسب.. فحسب!”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى