روسيا تسبق أمريكا وإسرائيل إلى البحر الأحمر.. ما وراء إعلان موسكو إنشاء قاعدة عسكرية بالسودان؟
بات تدخُّل موسكو في الساحة السودانية والإقليمية أمراً واقعاً، بإعلانها الموافقة على إنشاء قاعدة عسكرية لوجيستية للقوات البحرية الروسية، على ساحل البحر الأحمر في السودان.
التحرك الروسي نحو السودان جاء بعد فترة وجيزة من إعلان الإدارة الأمريكية شروعها في رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ما فتح الباب واسعاً أمام التكهن بإمكانية إنشاء المركز الروسي على الأراضي السودانية.
ورغم الإعلان الروسي الرسمي، التزمت حكومة السودان صمتاً مطبقاً يشي بالكثير، لا سيما أن أطراف السلطة بالسودان بينهم خلافات كبيرة بشأن العلاقات الخارجية؛ مجلس السيادة، ومجلس الوزراء، وقوى إعلان الحرية والتغيير (الائتلاف الحاكم).
وفي رده على سؤال لوكالة الأناضول، بشأن ما تردد عن إنشاء المركز الروسي اللوجيستي، أجاب مدير مكتب المتحدث الرسمي للجيش السوداني، المقدم هشام عثمان حسين، باقتضاب: “ليس بعد”. ورغم أن الوكالة حاولت الاتصال بجهات سودانية عدة، للحصول على تصريح رسمي من المسؤولين بالحكومة الانتقالية المدنية، فإنهم التزموا الصمت أيضاً.
ما الهدف من إنشاء هذا المركز وما طبيعته؟
الإثنين، أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوماً، أعلن فيه تصديقه على مقترح حكومته توقيع اتفاق مع الخرطوم بشأن إنشاء مركز إمداد مادي فني لقوات الأسطول الحربي البحري الروسي في أراضي السودان، بحسب موقع “روسيا اليوم” المحلي.
وأوضح المرسوم، أن “إنشاء المركز (الروسي) يستجيب لأهداف دعم السلام والاستقرار في المنطقة، ويحمل طابعاً دفاعياً وليس موجَّهاً ضد أي دولة”.
وقبيل الإعلان عن الموافقة الروسية على مشروع القرار المذكور، أعلن رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين، موافقته على المشروع، بالتنسيق مع وزارتي الدفاع والخارجية.
من المتوقع أن يستوعب المركز 300 جندي وموظف، ويمكن أن يحتضن بشكل متزامن حتى 4 سفن عسكرية، بينها حاملة أجهزة طاقة نووية، مع الالتزام بمبادئ الأمن النووي والبيئي.
وترجع فكرة المركز اللوجيستي الروسي إلى عام 2017، إذ وقَّع السودان وروسيا خلال زيارة الرئيس المعزول عمر البشير، لموسكو، عدة اتفاقيات للتعاون العسكري، تتعلق بالتدريب، وتبادل الخبرات، ودخول السفن الحربية لموانئ البلدين.
وخلال زيارة البشير، تم بحث إنشاء قاعدة عسكرية بالبحر الأحمر، ولكن روسيا لم تتحمس كثيراً لهذا العرض، في حينها، قبل أن تعود مؤخراً إلى الإعلان عن نيتها تنفيذه.
ما دلالة توقيت الإعلان الروسي؟
عن التوقيت الروسي للإعلان عن المركز اللوجيستي في الوقت الراهن، يقول الخبير الإستراتيجي والمحلل السياسي اللواء ركن (متقاعد) أمين إسماعيل مجذوب، إنه “من الواضح أن تفعيل الاتفاقية من قِبل الروس تم في هذا الوقت لسببين”.. السبب الأول، وفق مجذوب في حديثه لـ”لأناضول”، هو “التغيير الذي حدث بسبب ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، أي بعد نحو 7 أشهر من توقيع الاتفاقية، ولم يتسنَّ وجود حكومة للتعامل معها لفترة طويلة”.
يؤيد هذا تزايد اللقاءات الرسمية بين الجانبين، ففي أكتوبر/تشرين الأول 2019، أعلن بوتين، لدى لقائه رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان، على هامش القمة الروسيةـالإفريقية بمدينة سوتشي، دعم السودان من أجل تطبيع الوضع السياسي الداخلي.
وفي سبتمبر/أيلول 2019، التقى رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، وزيرَ الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بمقر الأمم المتحدة، على هامش الدورة الـ74 للجمعية العامة في نيويورك. واتفق الجانبان حينها، على مواصلة التعاون بينهما، والتنسيق في جميع القضايا ذات الاهتمام المشترك، بحسب وكالة السودان للأنباء.
السبب الثاني، وفق مجذوب، هو “رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، والتطبيع مع إسرائيل باعتبار أن المستقبل سيشهد وجوداً إسرائيلياً وأمريكياً في السودان”.
من جهته، يرى الكاتب والمحلل السياسي محمد عبدالعزيز، أن “إنشاء المركز اللوجيستي على سواحل البحر الأحمر بالسودان يعتبر مناورة روسية، خاصةً أن السودان أصبح على تقارب مع واشنطن، ودول الغرب بصورة عامة، وأن البحر الأحمر يعتبر ممراً إستراتيجياً”.
ويوضح عبدالعزيز لـ”الأناضول”، أن أي “تقارب بين روسيا والسودان في المرحلة الحالية يشكل مصدر قلق بالنسبة لحلفاء السودان في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي”.
روسيا تستبق أمريكا وإسرائيل
ولقطع الطريق أمام أمريكا وإسرائيل، يرى المجذوب أن “روسيا استبقت الطرفين (إسرائيل وأمريكا)، بالقدوم إلى السودان والوجود على البحر الأحمر، بإقامة المركز اللوجيستي الذي سيتحول لقاعدة بحرية شبيهة بقاعدة طرطوس، أو اللاذقية في سوريا”.
وعن أسباب تأخر إعلان الحكومة الانتقالية بالسودان عن الاتفاقية، يقول المجذوب: “يرجع الأمر إلى عدم وجود ناطق رسمي عسكري يتحدث باسم القوات المسلحة حتى الآن، لاعتبارات بعد إعفاء المتحدث العسكري السابق، رغم وجود ترشيحات”.
والأمر الآخر هو بسبب “المفاجأة التي أحدثها قرار الحكومة الروسية، بالموافقة على الاتفاقية ورفعها إلى الرئيس بوتين للموافقة عليها، وهي مفاجأة تحتاج وقتاً حتى تستعيد الخرطوم توازنها وترد على الأمر سواء بالموافقة أو أي رد آخر”.
ما الموقف الداخلي في السودان من إنشاء المركز الروسي؟
بحسب مراقبين، فإن هذه القضية ستفجر الخلاف ذاته الذي نشأ مؤخراً بشأن قضية التطبيع مع إسرائيل، إذ إن قوى سياسية مدعومة من مجلس الوزراء، ستكون رافضة للمضي في اتفاقيات النظام السابق (نظام عمر البشير 1989-2019).
وحتى لو كانت رغبة بعض العسكريين الموجودين بالسلطة هي المضي في الاتفاق الروسي، فإن ذلك ليس كافياً لتمرير قضية كهذه، مع تأكيدات الخرطوم رغبتها في تعاون أكبر مع أمريكا والمجتمع الدولي والعمل على علاقات خارجية متوازنة، وفق المراقبين.
يضاف إلى ذلك، أن خطوة كهذه في هذا التوقيت قد تدفع الإدارة الأمريكية إلى التلكُّؤ في إزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، باعتبار أن هذه الخطوة تعزز العلاقات مع روسيا على حساب المصالح الأمريكية في المنطقة.
تنافس دولي في البحر الأحمر
وعن أسباب إنشاء المركز، يرى المجذوب أنه “يدخل في إطار التنافس الدولي بالبحر الأحمر، باعتباره أكبر ممر لنقل البترول من منطقة الخليج إلى مناطق العالم المختلفة والدول الصناعية في جنوب شرقي آسيا”.
ويتابع أن “التحرك الروسي يأتي باعتبار أن هناك وجوداً أمريكياً وصينياً وفرنسياً في جيبوتي، وترغب روسيا في البقاء بهذه المنطقة؛ نظراً إلى التطورات الأمنية الموجودة باليمن، الذي يوجد به تحالف عاصفة الحزم، وإيران، ومعلومٌ أن إيران لها علاقات مع روسيا”.
ويضيف: “هناك أيضاً ما يُعرف بحرب الموانئ، كالحرب الخاصة بتقديم خدمات الموانئ للسفن، يتصارع عدد من القوى الإقليمية على الساحل السوداني؛ في محاولة لاستئجار الموانئ السودانية، مثلما تم استئجار موانئ عصب ومصوع وعدة موانئ في الصومال وجيبوتي”.
وفي مايو/أيار 2019، تم تفعيل اتفاقية دخول السفن الحربية لموانئ البلدين، رغم عزل البشير، الذي بدأ انفتاحه على روسيا خلال السنوات الأخيرة من حكمه (1989-2019).
ما المقابل الذي سيحصل عليه السودان؟
يعتقد المجذوب أن “السودان يستفيد بالحصول على صفقة من الأسلحة الدفاعية وأنواع أخرى من الطائرات، مثلما جاء في تصريحات رئيس الحكومة الروسية بمنح الحكومة أسلحة دفاع جوي متطورة لتأمين المركز اللوجيستي وتأمين الساحل السوداني”.
ويشير إلى أن “الموقع المقترح هو على ساحل البحر الأحمر، شمال مدينة بورتسودان ويمتد حتى منطقة حلايب وشلاتين، ولكن لم يتم تحديد نقطة بعينها”.
وفي 11 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، تسلَّم السودان سفينة تدريب حربية مهداة من روسيا، في إطار التعاون العسكري بين الخرطوم وموسكو.
وذكرت وكالة أنباء السودان الرسمية، أن قيادة القوات البحرية السودانية تسلمت بقاعدة بورتسودان البحرية “فلامنجو” سفينة التدريب الحربية المهداة من جمهورية روسيا الاتحادية. وأوضحت أن “الخطوة تأتي في إطار التعاون العسكري المتطور بين الخرطوم وموسكو”.
توسيع النفوذ الروسي في إفريقيا
من جهته، يقول الكاتب والمحلل السياسي عبدالله رزق: “هناك توجه روسي لتوسيع نفوذ موسكو في إفريقيا، ويبدأ بالمعاهدات، وصفقات السلاح، وبالتعاون العسكري وإنشاء قواعد عسكرية”.
ويضيف رزق، لـ”الأناضول”: “ربما كانت إفريقيا الوسطى التي سبقت السودان في هذا المجال، آخر حلقة بسلسلة طويلة من البلدان الإفريقية، التي وطدت صِلاتها بموسكو”.
ويتابع: “كانت استضافة السودان مفاوضات سلام بين فرقاء الصراع المحتدم في إفريقيا الوسطى، بمبادرة روسية، أول إشارة إلى التقارب الجاري بين الخرطوم وموسكو، وهي المبادرة التي أثارت غضب فرنسا، التي رأت في التمدد الروسي الذي شمل مستعمرتها السابقة، تحدياً لها”.
ويستطرد: “خلال ثورة ديسمبر/كانون الأول (2018)، شوهدت سيارات تتبع لشركة أمنية تراقب التظاهرات، كان ذلك مؤشراً على تعاون أمني بين الطرفين، على مستوى التدريب، على الأقل”.
ويعتبر أن “زيارة عمر البشير لموسكو (2017)، ولقاءه بوتين، كشفا عمق توجهات السودان تجاه موسكو، إذ نُقل عن البشير أنه طلب من بوتين حمايته من أمريكا ومخططاتها”.
ويزيد: “ربما تكون تلك هي المرة الأولى التي يستضيف فيها أو يسمح السودان باستضافة قاعدة عسكرية، منذ مؤتمر باندونغ (1955) الذي شارك فيه السودان، قبيل استقلاله، وهو المؤتمر الذي كرَّس سياسة عدم الانحياز والحياد بين المعسكرين، الغربي الرأسمالي، والشرقي الشيوعي، ومناهضة قيام القواعد العسكرية والأحلاف، التي يتبناها المعسكران”.
لذلك فإن القبول باستضافة قواعد عسكرية، أياً كانت جنسيتها، وفق رزق، “خروج عن أحد ثوابت السياسة السودانية، ومن شأن مثل هذه الارتباطات، التي قد تنتهك السيادة الوطنية، أن تورط السودان في نزاعات خارجية ليست له مصلحة فيها”.
ويلفت رزق إلى أنه “يُلاحَظ أن هذه السياسات الماسة بالاستقلال والسيادة الوطنية يتم اتخاذها، بليلٍ، ومن دون وضوح بشأن تفاصيلها، بعيداً عن مشاورة الشعب، وفي غياب مجالس نيابية تمثله، وتعبر عن إرادته”.