سر تراجع إثيوبيا عن إكمال الملء الثاني للسد.. فشل هندسي أم لتجنب الحرب، وهل يعني ذلك نهاية الأزمة؟

جاء إعلان إثيوبيا عدم استكمال الملء الثاني لسد النهضة كاملاً كما كان مقرراً من قبل ليثير تساؤلات حول هذا القرار وهل جاء لأسباب فنية، أم استجابة للضغوط الأمريكية والقلق من رد الفعل المصري، أم مجرد مناورة.

كان وزير الرى الإثيوبى سيليشى بيكيلي قد أعلن مؤخراً أن بلاده لن تتمكن من تعلية الممر الأوسط لسد النهضة إلى ارتفاع 595 متراً، وأنه جار العمل على رفع هذا الممر إلى ارتفاع 573 متراً فقط.

وقال الوزير الإثيوبي إن مصر لن تتضرر من الملء الثاني لنجاحها في تخزين 130 مليار متر مكعب من المياه خلف السد العالي، مشيراً إلى أنه من المقرر الانتهاء من سد النهضة في العام 2023، ويمكن لإثيوبيا تشغيل أول توربينين لتوليد الطاقة في أغسطس/آب 2021.

وجاء قرار إثيوبيا عدم استكمال الملء الثاني لسد النهضة، بعد أيام من تنفيذ مصر والسودان مناورة باسم حماة النيل، شملت قوات جوية وبرية، وتضمنت إرسال مصر لقواتها إلى السودان عبر البحر؛ مما يشير إلى ضخامة أعداد القوات المشاركة في المناورة.

ويأتي القرار الإثيوبي أيضاً بعد نحو شهر من تهديد مصري لأديس أبابا منذ نشوب الأزمة قبل 10 سنوات، حينما قال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، في 30 من مارس/آذار الماضي، إن “مياه النيل خط أحمر، وأي مساس بمياه مصر سيكون له رد فعل يهدد استقرار المنطقة بالكامل”.

ويثير القرار الإثيوبي تساؤلات حول أسبابه، وتأثيره على موقف دولتي المصب، مصر والسودان.

ماذا يعني هذا القرار فنياً؟

“الملء الثاني لسد النهضة أصبح الآن جزئياً فقط وليس كاملاً”، حسبما قال أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، الدكتور عباس شراقي، لموقع “سكاي نيوز عربية”.

ووفق هذا التصور، فإن إجمالي المياه المخزنة تصل إلى تسعة مليارات متر مكعب تقريباً، بإضافة الملء الأول الذي حجز نحو أربعة مليارات متر مكعب، على أن يستكمل المستهدف العام المقبل؛ من خلال تخزين 10 مليارات متر مكعب سنوياً بعد ذلك، وتعلية الممر الأوسط إلى 595 متراً العام المقبل كما كان مستهدفاً هذا العام، وفقاً لشراقي.

وستمكن الأربعة مليارات متر مكعب من المياه التي سيتم تخزينها من تشغيل أول توربينين بالسد في شهر أغسطس/آب المقبل، حسب الخبير المصري.

وهذه الكمية يمكن تخزينها بسهولة خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من يوليو/تموز 2021، وتخزين 10 مليارات متر مكعب سنوياً خلال السنوات القادمة.

ويعني هذا أن كميات المياه التي ستحجزها إثيوبيا عن مصر والسودان ستكون أقل مما كان مقرراً في حالة الملء الكامل لسد النهضة.

ووفقاً لتصريحات وزير الري الإثيوبي فإن سعة التخزين خلال الملء الثانى للسد، ستكون عند حدود 4 مليارات متر مكعب من المياه بدلاً من 13.5 مليار متر مكعب كانت إثيوبيا تستهدف تخزينها خلال موسم الفيضان المقبل، وفق حسابات الخبراء.

أي أن هذا يعني زيادة في إيراد النيل عن المتوقع سابقاً بمقدار 9.5 مليار متر مكعب، وهذا خبر سعيد بخصوص السودان، الذي كان يتوقع أن يكون الأكثر تضرراً من الملء الثاني لسد النهضة؛ لأن مصر لديها احتياطات كبيرة خلف السد العالي.

أسباب عدم استكمال الملء الثاني لسد النهضة

يرى الدكتور عباس شراقي أن إثيوبيا فشلت في إتمام الإنشاءات الهندسية لتخزين 13.5 مليار متر مكعب؛ ولذا سوف تخزن 10 مليارات متر مكعب سنوياً خلال السنوات المقبلة، بدلاً من فعل ذلك في عام واحد.

ويشير إلى أن “الإنجازات في السد ضعيفة (الإنشاءات الهندسية) وكان من المتوقع ألا تستطيع إثيوبيا اللحاق بموعد الملء الثاني بشكل كامل”.

ولكن هذا لا يمنع من تسبب إثيوبيا لمشكلة جديدة مع  السودان عبر تفريغ سد تيكيزي على نهر عطبرة وهو رافد آخر للنيل.

وازداد حجم التفريغ في نهر عطبرة هذا العام نتيجة توقف سد تيكيزي عن توليد الكهرباء فترة اعتداء الجيش الفيدرالي على إقليم تيغراي الذي يضم منطقة السد وقصف محطة الكهرباء، ما أدى إلى زيادة مخزون البحيرة بالمقارنة بالعام الماضي، حسبما قال الدكتور عباس شراقي، خبير الموارد المائية وأستاذ الجيولوجيا بجامعة القاهرة.

هل تراجعت خوفاً من مصر والسودان؟

الدكتور محمد نصر علام، وزير الري المصري الأسبق قال إن “عدم استكمال الملء الثاني لسد النهضة ليس مفاجأة؛ لأنه السبيل الوحيد لاحتمال تجنب المواجهة مع مصر والسودان”.

وأضاف في منشور له على الفيسبوك قائلاً: “ويكفى التعلية في رأيي لمنسوب 565 متراً على الأكثر وبما يضمن تشغيل التوربينات المنخفضة”.

وقال عباس شراقيً: “الفشل في التخزين الكامل لن يغير من موقف مصر والسودان الرافض بشدة لأى تخزين بدون اتفاق حتى ولو كان مليار متر مكعب واحداً”.

وقال السفير إبراهيم الشويمي، مساعد وزير الخارجية الأسبق: “مصر لا تعول على إعلان إثيوبي بشأن الرفع لـ573 متراً فقط لأنها متضاربة ولم تُرسل لمصر في بيان رسمي”، حسبما نقلت عنه صحيفة أخبار اليوم المصرية في تقرير عنونته (دبلوماسيون: مصر أجبرت إثيوبيا على التراجع عن تعلية السد المضرة بدولتي المصب).

وقال محمد نصر علام في هذا التقرير إن أديس أبابا “لن تستطيع خداع مصر خاصة أن الأجهزة المعنية تراقب عن قرب جميع التحركات الإثيوبية على أرض الواقع”.

ويقول اللواء حاتم باشات، وكيل جهاز المخابرات العامة المصرية الأسبق، إن “التراجع الإثيوبي وتأجيل الملء الثاني لسد النهضة جاء نتيجة عدة عوامل، من بينها على ما اعتقد الضغوط الخارجية نتيجة التحركات الدبلوماسية المصرية في القرن الإفريقي، ومبعوثي مصر إلى الدول المجاورة لإطلاعهم على آخر التطورات في الأزمة، وعواقب استمرار أديس أبابا في طريقها وتعنتها”.

ويرى الدكتور هاني رسلان، مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أن عدم استكمال الملء الثاني لسد النهضة من قبل إثيوبيا قد يكون لأسباب تتصل بفشل فني أو إداري أو تمويلي، أو ربما يكون متفقاً عليه سلفاً مع الأمريكان أو مع أحد وكلائهم، مثل الطرف الذي يتحرك في هذا الملف بهمة ونشاط لافتين، وكأن أمنه أو وجوده متوقف على نجاحه في مساعدة إثيوبيا ودعمها في هذا الملف، حسب تعبيره.

وقال: “ما هو مؤكد أن إثيوبيا في حالة اضطراب وارتباك، وتغوص مع الوقت بشكل متزايد في أزمتها الداخلية التي وصلت إلى مرحلة التهديد العملي بتفكك البلاد في حالة استمرت التفاعلات القائمة على ذات النهج الحالي”، حسبما نقل عنه موقع البوابة.

ويرى أن إثيوبيا دولة خارجة على القانون، وأنها تحولت إلى مصدر عدم استقرار وتهديد للأمن والسلام في القرن الإفريقي والبحر الأحمر وشرق إفريقيا، والأمر ليس قاصراً على سياستها أو تحركاتها الخارجية بل إنها تتصرف بالنهج ذاته في الداخل الإثيوبي.

تحركات أمريكية مكثفة

اللافت أن قرار إثيوبيا عدم استكمال الملء الثاني لسد النهضة، يأتي عقب تحركات أمريكية مكثفة في ملف السد؛ إذ أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية، الأسبوع الماضي، قيام مبعوثها للقرن الإفريقي، جيفري فيلتمان، بجولة تشمل 3 دول خليجية وكينيا من أجل بحث الاستقرار في المنطقة ومناقشة أزمة سد النهضة.

ولكن إدارة بايدن رفضت التلويح بفرض عقوبات لمعالجة الملف، عكس إدارة ترامب التي فرضت عقوبات على أديس أبابا بعد تنصلها من الاتفاقات التي تم التوصل إليها في واشنطن بوساطة أمريكية.

فعندما سئلت جيرالدين جريفيث، المتحدثة الإقليمية باسم الخارجية الأمريكية عن إمكانية فرض الولايات المتحدة عقوبات على إثيوبيا بخصوص رفضها التفاوض حول ملف سد النهضة، على غرار العقوبات التي فرضتها عليها بشأن ملف إقليم تيغراي، قالت إن الولايات المتحدة تؤمن بقوة الدبلوماسية لمعالجة ملف سد النهضة، وستواصل جهودها للوصول إلى حل منصف.

عدم استكمال الملء الثاني لسد النهضة

ويقول اللواء حاتم باشات، وكيل جهاز المخابرات العامة المصرية الأسبق، لوكالة “سبوتنيك”، الروسية: “قد تكون التحركات الدبلوماسية من المجتمع الدولي والأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وبعد كل تلك التحركات طلب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي من الولايات المتحدة التدخل لحل الأزمة”، معتبراً أن هذه التحركات وضعت الجميع أمام الصورة الحقيقية؛ “حتى لا يتم توجيه أي لوم لمصر حال قامت باتخاذ تدابير للحفاظ على أمنها القومي”، حسب تعبيره.

ولكن وزير الخارجية المصري السابق نبيل فهمي قال إنه لا يمكن الاعتماد على الدول الكبرى في حل قضية سد النهضة، لأن حسابتها واحتياجاتها معقدة للغاية، مشيراً إلى أن موقف الإدارة الأمريكية السابقة كان أوضح من الحالية.

تراجع أم مساومة؟

من جانبه، قال الدكتور سمير غطاس، العضو السابق في مجلس النواب المصري، ورئيس منتدى الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية، ومدير مركز مقدس للدراسات: “حسب المعطيات لو كانت إثيوبيا تراجعت عن الملء الثاني لسد النهضة لصاحب ذلك رسالة مفادها، أنها غيرت استراتيجيتها وستعود إلى اتفاق ثلاثي مدون ومتفق عليه”.

وأضاف غطاس لـ”سبوتنيك”: “أعتقد أن الأمر متعلق بالمدة الزمنية اللازمة لبناء وسط السد، وأن إثيوبيا لم تتمكن من بنائها في الوقت القصير المتبقي على الموعد المحدد لتخزين 18 مليار متر مكعب خلف السد”.

وأكد أن إثيوبيا لديها مخططات أوسع من سد النهضة، ولديها بالفعل 4 سدود أخرى قيد العمل، وقال رئيس وزرائها أبي أحمد قال: “سنبني 100 سد آخر، وفي تقديري لا يزال المشروع  قائماً”.

ويقول وزير الموارد المائية والري المصري الأسبق في مصر، محمد نصر الدين علام، لموقع “سكاي نيوز عربية” إن الجانب الإثيوبي “سواء تمت التعلية إلى 573 متراً أو حتى 595 متراً ففي جميع الأحوال يعتبر ذلك الأمر مخالفاً لما تريده مصر والسودان، بشأن اتفاق ملزم قبل الملء”.

ولكن اللافت أنه بعد إعلان إثيوبيا عدم استكمال الملء الثاني لسد النهضة، خرج القائد العام للقوات الجوية الإثيوبية، الجنرال يلما مرداسا، أمس الأول الأحد، ليعلن أن القوات الإثيوبية تعزز وحداتها أكثر من أي وقت مضى، مشدداً على أنها “تقوم بحراسة دقيقة لسد النهضة”.

تجربة الملء الأول تقدم الإجابة

والمتابع لنهج إثيوبيا في التعامل مع سد النهضة سيلاحظ أن التصريحات المتضاربة ليست عشوائية في الأغلب، بل هي تكتيكات ضمن استراتيجية واسعة.

تبدأ أديس أبابا الأمور بتصريحات هادئة، تتيح لها الفرصة لبناء السد وفي المراحل الحاسمة والمثيرة للجدل يتم رفع سقف التصريحات والتوتر الذي يستدعي رداً مصرياً سودانياً كلامياً، يعقبه تراجع إثيوبي يؤدي إلى فقدان مواقف مصر والسودان لزخمهما ثم بعد ذلك تنفذ إثيوبيا هدفها.

حدث هذا مع الملء الأول لسد النهضة،  الذي انتهى في 21 يوليو/تموز 2020، والذي كان  يفترض أن يكون بمثابة خط أحمر لمصر والسودان، لا يسمحان لإثيوبيا بتجاوزه، ولكنها عبرته دون رد فعل مصري سوداني يذكر.

إذ نفذت أديس أبابا مناورة لتمريره، حيث أعلنت في يوليو/تموز 2020، عن ملء السد (الملء الأول)، ثم نفت ذلك، وبعد أن جاء رد الفعل السوداني والمصري ضعيفاً، بدأت عملية الملء، التي تحدثت عنها تقارير دولية رصدت صوراً للأقمار الاصطناعية، تظهر الملء، وأعقبتها تقارير مماثلة من قبل جهات الري في السودان، كل ذلك دون رد فعل حاد من القاهرة والخرطوم، على السواء، اللذين يبدو أنهما تقبلا النفي الإثيوبي.

وانتهى الأمر بإعلان رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد عن ملء السد بعد قمة افتراضية شارك فيها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، دون رد فعل يذكر من الأخير أو من المجلس العسكري الحاكم في السودان.

وبلغ الاستفزاز الإثيوبي ذروته عندما غرد وزير خارجية إثيوبيا عن الملء قائلاً: “النيل كان نهراً وأصبح بحيرة إثيوبية”.

تأجيل ساعة الحسم للجميع

فقرار إثيوبيا عدم استكمال الملء الثاني لسد النهضة، والاكتفاء بملء جزئي من الناحية الفنية يحمل إيجابيات كثيرة لمصر والسودان، كما خففت حدة التوتر، وأرجأ ساعة الحسم للجميع، وهدأ من التحفز المصري السوداني، لعملية الملء الكاملة للسد، والتي كانت بمثابة خط أحمر افتراضي يضغط على البلدين.

ولكن أياً ما كانت أسباب عدم استكمال الملء الثاني لسد النهضة سواء فنية أو سياسية، فإن القرار لم يغير من نهج معالجة القضية شيئاً وهو أن إثيوبيا ترفض أن تربط تصرفاتها المائية باتفاق ثلاثي يشمل مصر والسودان، بل إنها أكدت أنها لن تكتفي ببناء سد النهضة، وستسعى إلى بناء 100 سد.

وكأن لسان حالها أنه لن يكون هناك اتفاق، أما مسألة حجزنا للمياه وحجم هذا الحجز، فسوف تتوقف على قدراتنا الفنية، وأيضاً مدى الضغط العسكري والسياسي المصري السوداني والدولي.

لكن الأخطر أن العامل الأهم الذي قد يوجه سياسة إثيوبيا تجاه النيل وسد النهضة، هو الوضع الداخلي، فلقد صار النهر والسد أداة مزايدة في يد رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد الذي يعاني من مشكلات داخلية متفاقمة، بدءاً من تمرد التيغراي الذين قمعهم بقوة، وسخط الأورومو الذين يرونه لم ينصفهم، وأطماع الأمهريين الذين أجبروه على توسيع نفوذهم والاستيلاء على الأرض في تيغراي وأماكن أخرى.

ومع أن هذا التراجع قد يعني أن إثيوبيا قد تقرر أن تملأ السد على مدار عدة سنوات لتقليل الضرر على مصر والسودان، إلا أنه لو كانت هذه نية أديس أبابا لأعلنت عن ذلك، وكسبت جميلاً من مصر والسودان، ولكن إثيوبيا لا تريد تقديم أي مكسب قانوني للبلدين، وفي الوقت ذاته، فإنها تحاول دوماً تنفيس غضبهما في اللحظة الأخيرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى