سر حرص الصين على وقف هجوم إسرائيل على غزة.. أموالها أولاً وانتصار على أمريكا ثانياً
في ظل وقوف الولايات المتحدة منفردة كعقبة أمام إصدار بيان من مجلس الأمن لوقف هجوم إسرائيل على غزة، برز موقف الصين بصورة لافتة، لماذا هذه المرة؟
منذ أن أشعل رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو الأمور من خلال خطط تهجير عائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح، والاعتداءات المتكررة في القدس الشرقية والمسجد الأقصى طوال شهر رمضان، ورد المقاومة الفلسطينية بإطلاق الصواريخ من غزة، وقصف جيش الاحتلال للقطاع، بات واضحاً أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لا تمتلك الرغبة ولا الإرادة السياسية لممارسة دورها التقليدي كقوة عظمى صاحبة النفوذ الأكبر في الشرق الأوسط.
ثم جاء التدخل الأمريكي المتأخر منحازاً للطرف المعتدي وهو إسرائيل، في الوقت الذي كان العالم يشهد دعماً شعبياً جارفاً للفلسطينيين، خصوصاً مع تصعيد الاحتلال عدوانه في غزة، وسقوط مئات الشهداء من المدنيين، وبينهم عشرات الأطفال والنساء، واستهداف الجيش الإسرائيلي الأبراج السكنية، وخاصة برج الجلاء، الذي يضم مقرات وسائل إعلام عالمية من بينها وكالة أسوشيتد برس الأمريكية، والجزيرة القطرية.
الصين تمارس دور القيادة للمرة الأولى
في هذا السياق قال دبلوماسيون لرويترز إن الموقف الأمريكي في الأمم المتحدة فيما يتعلق بالجهود المبذولة لإنهاء الهجوم الإسرائيلي على غزة فتح الباب أمام الصين لإبراز مهاراتها القيادية، بعد بضعة أشهر فقط من إعلان جو بايدن أن “أمريكا عادت”.
فقد عارضت الولايات المتحدة مراراً وتكراراً إصدار بيان عن مجلس الأمن الدولي، المؤلف من 15 عضواً، بخصوص الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، ما دفع وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى اتهام واشنطن علناً “بعرقلة الجهود الدولية”.
وعبّر ريتشارد جوان، مدير قسم الأمم المتحدة في مجموعة الأزمات الدولية عن الموقف بقوله لرويترز، إن “موقف الولايات المتحدة هدية للصين بصراحة”، مضيفاً: “الولايات المتحدة تحاول الضغط على الصين لدعم تحرك الأمم المتحدة بخصوص مواقف مثل ميانمار، وتأتي واشنطن الآن وتمنع مجلس الأمن من التحدث بخصوص الشرق الأوسط… هذا أمر يضر بسمعة فريق بايدن في الأمم المتحدة، ويجعل الصين تبدو وكأنها القوة التي تتسم بالمسؤولية”.
وقال مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية لرويترز إن الحكومة الصينية “لا تهتم لا بإسرائيل ولا بغزة”، مضيفاً: “إنها تبحث عن كل فرصة لصرف الانتباه عن عمليات الإبادة الجماعية بحق الإيغور المسلمين في تشينجيانغ. الولايات المتحدة هي التي تضطلع بجهود دبلوماسية مكثفة مع الإسرائيليين والفلسطينيين وزعماء إقليميين آخرين لإنهاء العنف”.
بينما ردّت بعثة الصين للأمم المتحدة قائلة إن التصريحات الأمريكية “خاطئة وتهدف لصرف الانتباه”، وقال متحدث: “الصراع في غزة مستمر، وأعداد القتلى المدنيين تزيد مع كل يوم يمر. وأمام حقيقة كتلك، سيدعو كل صاحب ضمير حي لوقف القتال”.
التنافس بين الصين وأمريكا
وتسعى بكين لنفوذ عالمي أكبر في الأمم المتحدة في تحدٍّ للقيادة الأمريكية التقليدية، واستعرضت نفوذها على الساحة العالمية في وقت انسحب فيه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من منظمات دولية واتفاقيات للتركيز على سياسات “أمريكا أولاً”.
ومنذ توليه الرئاسة في يناير/كانون الثاني، شدّد بايدن على أهمية عودة الولايات المتحدة للعمل مع المنظمة الدولية التي تضم 193 دولة للوقوف في وجه الصين، لكن دبلوماسيين يقولون إن اعتراض الولايات المتحدة على بيان مجلس الأمن بخصوص إسرائيل وغزة، والذي صاغته الصين وتونس والنرويج، ترك الكثير من الدول في حالة إحباط.
وقال دبلوماسي ثانٍ في مجلس الأمن الدولي لرويترز، مشترطاً عدم نشر اسمه، “واضح أن الصين ترغب في الاستفادة من عزلة الولايات المتحدة بسبب غزة، وتضع نفسها في وضع قيادة غير متعادل بخصوص القضايا الفلسطينية”.
وقال متحدث باسم بعثة الصين لدى الأمم المتحدة لرويترز “معظم أعضاء مجلس الأمن يأملون في أن يروا المجلس يلعب دوراً في دعم وقف إطلاق النار وإنهاء العنف. يجب أن تفي الصين بمسؤوليتها بصفتها رئيساً للمجلس”.
وفي الآونة الأخيرة كان للصين موقف مغاير فيما يتعلق بعمل مجلس الأمن، عندما أبدت مع روسيا قلقاً من دخول المجلس في الصراع بمنطقة تيغراي الإثيوبية، وبعد عدة مناقشات خاصة اعترضت الولايات المتحدة على صمت المجلس، ووافقت في النهاية على إصدار بيان.
وتتركز تحركات بايدن فيما يتصل بالسياسة الخارجية إلى حد بعيد حتى الآن على الصين وروسيا وإيران، لكنه مضطر حالياً إلى التركيز على الصراع في الشرق الأوسط، وقال دبلوماسي آسيوي كبير، تحدّث بشرط عدم كشف هويته “الصين تلعب بشكل جيد، يتخذون وضع اللاعب البارز في الشرق الأوسط، يخدمهم في ذلك تقلص مساحة مشاركة آخرين”.
وقد سعت بكين لكسب صداقة الجميع في الشرق الأوسط، لكن كان عليها أن تتحسس خطاها، فهي تقيم علاقات وثيقة مع إسرائيل والفلسطينيين، وكذلك مع إيران والسعودية. وقد حاولت مراراً أن تقوم بدور وسيط السلام في صراعات الشرق الأوسط، ولكن بقدر محدود، إذ لا تحظى في المنطقة بنفس تأثير الأعضاء الدائمين الآخرين في مجلس الأمن الدولي: الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وروسيا.
لماذا الاهتمام بالحرب في غزة؟
لكن التنافس على قيادة العالم ليس الدافع الوحيد للصين وراء رغبتها المعلنة في وقف القصف الإسرائيلي على غزة، وهو ما يعني بطبيعة الحال توقف الفصائل الفلسطينية عن إطلاق الصواريخ نحو إسرائيل من القطاع، فالاستثمارات الصينية في الشرق الأوسط تمثل الدافع الأول، بحسب محللين.
وهذا ما عبر عنه لي غوفو، خبير الشرق الأوسط في معهد الصين للدراسات الدولية ببكين، حيث قال لموقع دويتش فيله الألماني: “إذا سألتني عن المصلحة القومية للصين في الشرق الأوسط، إجابتي هي ألا تكون هناك صراعات مسلحة ولا تصعيد في المنطقة”.
واستطرد الخبير في المعهد المقرب من الحكومة في بكين، أن الصين تحتاج لعالم مستقر تماماً كي تواصل مسيرتها التنموية: “لا يؤثر الصراع المسلح في الشرق الأوسط على شعوب المنطقة فحسب، بل يؤثر سلبياً على استقرار العالم أجمع، وبالتالي يضر ذلك بنمو الصين”.
فالشرق الأوسط يمثل حجر الزاوية في استراتيجية الصين الاقتصادية، ليس فقط بسبب الاستثمارات الضخمة في مشاريع البنية التحتية في غالبية دول المنطقة من خلال مبادرة الحزام والطريق، لكن أيضاً لأن بكين تستورد نحو نصف احتياجاتها من النفط والغاز من المنطقة، كما أن سفن الشحن العملاقة التي تحمل البضائع الصينية إلى أوروبا وأمريكا يمر أغلبها عبر قناة السويس.
وفي هذا الإطار تمتلك الصين علاقات متوازنة مع جميع الدول في الشرق الأوسط، حتى تلك التي توجد بينها صراعات مثل السعودية وإيران وإسرائيل وفلسطين المحتلة. وعقدت الصين اتفاقية شراكة استراتيجية مع إيران مؤخراً، دون أن يؤثر ذلك على علاقاتها مع السعودية. وتدعم بكين حل الدولتين في فلسطين، ولها علاقات قوية مع السلطة الفلسطينية، وفي الوقت نفسه تعتبر إسرائيل شريكاً تجاريا لبكين.
هذه الصورة تفسر اهتمام الصين بالسعي لإنهاء إسرائيل هجومها على قطاع غزة، منذ اشتعال الأزمة يوم الإثنين 10 مايو/أيار، خاصة أن بكين ترأس الدورة الحالية لمجلس الأمن، لكن واشنطن منعت صدور بيان عن المجلس يدعو لوقف إطلاق النار أربع مرات خلال أسبوع، لكن يبدو أن وقف إطلاق النار بات وشيكاً، في ظل الضغوط المتزايدة على واشنطن من المجتمع الدولي، وهو ما أجبر بايدن على أن يطلب من نتنياهو وقف إطلاق النار في اتصال عاصف بينهما، الأربعاء 19 مايو/أيار، لكن الأخير رفض.
وفي كل الأحوال، يبدو أن الصين على وشك تحقيق انتصار معنوي مهم على الولايات المتحدة في منطقة نفوذ واشنطن التقليدية، وهي الشرق الأوسط، بل وفي الملف الأهم في المنطقة، وهو الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، حتى وإن كان دافع بكين الأساسي الحفاظ على استثماراتها الضخمة في المنطقة.