سيناريوهات النيجر.. تدخل خارجي لدحر الانقلاب، حرب إفريقية واسعة أم قبول غربي ضمني به؟
هل تنشب حرب إفريقية واسعة تتورط فيها روسيا وأمريكا وفرنسا بسسب الخلاف حول انقلاب النيجر، أم ينتهي الأمر بقبول الغرب للاتقلاب، والتطبيع معه؟
في البداية، بدا انقلاب النيجر شبيهاً بغيره من الانقلابات التي عصفت بدول غرب إفريقيا في السنوات الأخيرة. إذ احتجز الجنود رئيس النيجر داخل منزله في العاصمة نيامي يوم الـ26 من يوليو/تموز. وأعلن الجنرالات الاستيلاء على السلطة بعدها بساعات، قبل أن تخرج القوى الأجنبية لتدين الانقلاب دون أن تفعل شيئاً.
ثم سلك الانقلاب مساراً آخر.
إذ هددت الولايات المتحدة وفرنسا بقطع العلاقات مع النيجر، ما قد يؤثر على المساعدات التي تبلغ قيمتها مئات الملايين من الدولارات. بينما تمكّن الرئيس المخلوع محمد بازوم -رغم احتجازه- من الحديث إلى زعماء العالم، واستقبال الزوار، ونشر رسائل العصيان على الشبكات الاجتماعية.
وهددت الدول المجاورة بالدخول في حرب. لكن بعضها يريد القتال لإحباط الانقلاب، بينما يريد البعض الآخر القتال لضمان نجاحه، حسبما ورد في تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
وأصدرت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) إنذاراً أخيراً إلى المجلس العسكري في الـ30 من يوليو/تموز. ونص الإنذار على إعادة بازوم للسلطة في غضون أسبوعٍ واحد، أو مواجهة التداعيات التي قد تتضمن التدخل العسكري.
وبعدها بفترةٍ وجيزة، تدخلت مالي وبوركينا فاسو للدفاع عن المجلس العسكري، وأعلنتا أن أي تحرك أجنبي ضد النيجر سيكون بمثابة “إعلان للحرب” ضدهما أيضاً.
وأصدر الاتحاد الإفريقي مهلة 15 يوماً للنيجر لإنهاء الانقلاب.
مهلة إيكواس انتهت والانقلابيون يطلبون دعم فاغنر
وانتهت، اليوم الأحد، المهلة التي وجهتها المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) للانقلابيين في النيجر، حيث أكدت المجموعة استعدادها للتدخل عسكرياً.
وأكدت الخارجية الفرنسية دعمها الشديد لجهود الإيكواس لدحر محاولة الانقلاب.
وفي الرابع من أغسطس/آب 2023، قال عبد الفتاح موسى مفوض الشؤون السياسية والسلام والأمن في المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، إن قادة الدفاع في دول غرب إفريقيا وضعوا خطة لتدخل عسكري محتمل في النيجر للتصدي للانقلاب، وإن الخطة تتضمن كيفية وموعد نشر القوات. وأضاف موسى أن المجموعة لن تكشف لمدبري الانقلاب متى وأين ستكون الضربة، مضيفاً أن القرار سيتخذه رؤساء الدول.
في المقابل، طلب المجلس العسكري الجديد في النيجر المساعدة من مجموعة “فاغنر” الروسية مع اقتراب الموعد النهائي للإفراج عن رئيس البلاد محمد بازوم أو مواجهة التدخل العسكري المحتمل من قبل الكتلة الإقليمية لدول غرب إفريقيا، بحسب أحد المحللين.
جاء الطلب خلال زيارة قام بها أحد قادة الانقلاب، وهو الجنرال ساليفو مودي، لمالي المجاورة، حيث تواصل مع شخص من فاغنر، وفقاً لما نقلته وكالة أسوشيتيد برس.
وصف رئيس مجموعة فاغنر، يفغيني بريغوجين، الانقلاب بأنه انتصار على الاستعمار الغربي، وعرض خدمات المتعاقدين العسكريين الخاصين على الجيش النيجيري.
وقال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، السبت 5 أغسطس/آب 2023، إن بلاده ترفض قطعاً أي تدخل عسكري في النيجر،
النيجر آخر معقل مهم للغرب بالمنطقة؟
إذا نجح الانقلاب، فستكون النيجر آخر قطع الدومينو المتساقطة في طابورٍ متصل من الدول، التي تمتد بطول إفريقيا من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر وتحكمها المجالس العسكرية.
ويتساقط الزعماء الذين انتُخِبوا بطريقة ديمقراطية كقطع البولينغ اليوم. إذ عاصرت ثلاث دول مجاورة للنيجر خمسة انقلابات منذ عام 2020، وهي دول مالي وبوركينا فاسو وغينيا.
لكنّ وضع النيجر بدا مختلفاً. فرغم تاريخها الطويل من الانقلابات، جاء انتخاب بازوم رئيساً عام 2021 وأحيا الآمال بأن النيجر ستسلك مساراً ديمقراطياً. حيث أعلن بازوم مناصرته للحداثة وروّج لتعليم الفتيات. وسعى إلى خفض معدل المواليد في النيجر، الذي كان الأعلى على مستوى العالم. كما أشرف على انتعاشة اقتصادية مذهلة أسفرت عن توقعات بنمو اقتصاد بلاده بنسبة 7% في العام الجاري، بعد سنوات من الركود.
ورأت الدول الغربية من جانبها في بازوم شخصيةً ودية وسط منطقة صعبة. حيث اعتمدت الولايات المتحدة وفرنسا على بازوم بشكلٍ مكثف منذ نشر مرتزقة فاغنر في مالي، العام الماضي.
ويتمركز في النيجر حالياً نحو 1100 جندي أمريكي و1500 جندي فرنسي، إضافة إلى عددٍ من قواعد الطائرات المسيّرة. بينما تصل قيمة المساعدات الخارجية إلى 2.2 مليار دولار، لتشكل 40% من الميزانية العامة للنيجر.
ولا شك في أن التحالف مع الغرب قد ساعد بازوم في جعل النيجر دولةً أكثر أماناً، وبناءً عليه، تراجعت أعداد الضحايا نتيجة العنف الإسلاموي بشكلٍ حاد في العام الماضي. لكن ذلك التحالف ربما تسبب في تأجيج التوترات داخل الجيش، ما أسهم في وقوع انقلاب الأسبوع الماضي.
هل بإمكان المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)؟ إيقاف الانقلاب؟
تُعَدُّ مجموعة إيكواس أقوى تجمُّع إقليمي في منطقة غرب إفريقيا، وتُمثل 15 دولة يصل عدد سكانها الإجمالي إلى نحو 400 مليون نسمة. وتأسست المجموعة بهدف دعم الاقتصادات الإقليمية، لكنها عادةً ما تتدخل في الصراعات الإقليمية أيضاً.
وكانت آخر مهام المجموعة في غامبيا عام 2017، عندما ساعد جنود المجموعة في منع الرئيس السابق، يحيى جامع، من قلب نتيجة الانتخابات التي خسرها.
ويريد البعض من المجموعة تكرار ذلك المثال في النيجر. إذ يقول الرئيس النيجيري بولا تينوبو، رئيس مجموعة إيكواس، إن منطقة غرب إفريقيا لم يعد بإمكانها احتمال مزيد من الانقلابات. وأردف أن المجموعة يجب أن تتوقف عن لعب دور “كلب البُولدوغ عديم الأسنان”.
بينما يقول رحماني إدريسا، الباحث بمركز الدراسات الإفريقية بجامعة ليدن الهولندية: “لقد أخذ تينوبو أزمة النيجر على محملٍ شخصي. ويبدو أن هذا الانقلاب كان القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة له ولمجموعة إيكواس”.
ورغم ذلك، يشكك العديدون في أن المجموعة ترغب في خوض حرب بسبب النيجر فعلياً. إذ تُعَدُّ غامبيا مثلاً أصغر دولة في بر إفريقيا الرئيسي، ولديها جيش ضعيف. في حين تمتلك النيجر مساحةً تعادل ضعف مساحة فرنسا، بينما تدرّب جيشها المخضرم في المعارك على يد القوات الخاصة الأمريكية والأوروبية.
لهذا يقول محلل الشؤون الإفريقية في مركز Center for Strategic and International Studies البحثي: “سنرى ما إذا كانت مجموعة إيكواس ستنجح في زيادة الضغط لفترةٍ أطول أم لا. لكنني أظن أن مناورتهم قد كُشِفَت”.
أين الرئيس؟
يبدو أن بازوم عالق في مأزق عويص.
إذ يُجبر الزعماء الذين أُطيح بهم في انقلاب على الفرار من البلاد عادةً، أو التوقيع على استقالةٍ رسمية. ولم يفعل السيد بازوم هذا أو ذاك، بل ظل في منزله وبدأ في إجراء المكالمات الهاتفية. حيث تحدث مع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، للمرة الثانية في يوم الأربعاء، 2 أغسطس/آب، وكذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
كما زاره الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي، يوم الأحد 30 يوليو/تموز، ثم نشر صورةً للرئيس الحبيس على الشبكات الاجتماعية في وقتٍ لاحق.
بينما ما يزال كبار الدبلوماسيين في النيجر يتحدثون عن بازوم باعتباره رئيسهم.
وقال كياري ليمان تينغيري، سفير النيجر لدى الولايات المتحدة، خلال مقابلةٍ أجراها: “سيكون نجاح هذا الانقلاب كارثة. كارثة على النيجر، وعلى المنطقة، وعلى العالم أجمع”. وطالب خلال المقابلة بتوفير دعم دولي لعكس مسار الاستيلاء على السلطة.
ومن ناحيته، أعلن زعيم الانقلاب الجنرال عبد الرحمن تشياني، أنه لن يرضخ للضغوط.
ويُمكن القول إن الجنرال تشياني، الذي قضى 12 عاماً في قيادة الحرس الرئاسي للنيجر، قد تحول من حامي حمى بازوم إلى سجّانه.
روسيا والمتشددون سيستفيدون من الفوضى
لا شك في أن مشاهدة أنصار الانقلاب يرفعون الأعلام الروسية في وسط نيامي، بينما يهتف بعضهم تأييداً لفلاديمير بوتين، قد أثارت الشكوك بأن الكرملين له يد في الانقلاب.
وليس هناك كثير من الأدلة التي تدعم تلك الفكرة في الواقع، بحسب الخبراء. لكن ذلك لم يمنع المسؤولين الروس من النظر إلى أزمة النيجر باعتبارها فرصة كبرى.
بينما عرض يفغيني بريغوجين خدماته على قادة انقلاب النيجر. يُذكر أن ميليشيات المرتزقة شبه العسكرية الخاصة بـ”فاغنر” توجد في مالي حالياً. وقد سافر أحد قادة انقلاب النيجر إلى باماكو يوم الأربعاء؛ وذلك من أجل لقاء زعماء مالي ومسؤولي فاغنر.
بينما يُعَدُّ المتشددون أحد المستفيدين المحتملين الآخرين من الانقلاب. إذ زادت هجمات المتشددين على المدنيين في مالي وبوركينا فاسو بعد الانقلابات التي جرت هناك، لكنها تراجعت داخل النيجر خلال الفترة نفسها، وهو اتجاه يخشى كثيرون أن ينعكس مساره اليوم.
وأوضح السفير تينغيري أن نجاح الانقلاب “قد يوفر قاعدةً كبيرة -وملاذاً- لـ”فاغنر” والجهاديين في قلب منطقة غرب إفريقيا”. وأردف: “هذا ليس مجرد انقلاب آخر”.
هل يوقف الغرب تعاونه مع النيجر؟
على الرغم من هذه الإشارات السلبية، فإن الانهيار الكامل لتعاون النيجر الأمني مع الغرب ليس حتمياً، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
كان انقلاب تشياني مدفوعاً بشكل أساسي بالطموح الشخصي وليس الأيديولوجية، وقد يؤدي اتباع موقف متشدد مناهض للغرب إلى رد فعل داخلي عنيف.
من المستبعد أن يسلك المجلس العسكري الجديد في النيجر مساراً متشدداً مناهضاً للغرب، على غرار ما فعلته الأنظمة العسكرية في مالي وبوركينا فاسو. وإذا لم يتبنَّ تشياني أجندةً مناهضةً للغرب أو يقبل بوجود عناصر فاغنر في بلاده؛ فمن المحتمل أن تستأنف فرنسا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تعاونها الأمني مع النيجر مستقبلاً.
إذ ترغب الولايات المتحدة في الحفاظ على قاعدتيها للطائرات المسيرة في النيجر، اللتين تسمحان لها بجمع المعلومات الاستخباراتية في دول الساحل وشرق إفريقيا. فضلاً عن أن التدريب والتعاون الأمني الأمريكي مع جيش النيجر في مجال مكافحة الإرهاب يضمنان بقاء تلك المنشآت. كما ينظر الاتحاد الأوروبي إلى عدم الاستقرار في النيجر باعتباره تهديداً لمصالحه، لأن النيجر كانت مركز عبور مهماً للمهاجرين الأفارقة المتجهين إلى أوروبا. أي إن التفاعل البراغماتي مع المجلس العسكري في النيجر من الممكن اعتباره أهون الشرين، وذلك عند مقارنته بالفراغ الأمني الذي يؤدي إلى صعود الجهادية وزيادة الهجرة غير الشرعية.
ومن المرجح ألا تحرك القوى الخارجية الأخرى ساكناً في النيجر، بغض النظر عن الطريقة التي ستتعامل بها فرنسا والولايات المتحدة مع المجلس العسكري في البلاد. إذ تُعَدُّ الصين ثاني أكبر مستثمر في اقتصاد النيجر بعد فرنسا، وقد اتخذت مؤخراً خطوات لتوسيع وجودها هناك. في حين أكّد تشانغ يونغ بينغ، خبير مركز Taihe للتحليلات في بكين، أن السيناريو الوحيد الذي يُمكن أن يُعجل برحيل الصينيين هو اندلاع حرب أهلية على غرار السودان. بينما أعرب عن ثقته بقدرة الشركات الصينية على احتمال الصراعات منخفضة الحدة.
موقف دول الشرق الأوسط من الانقلاب
ومن المرجح أيضاً أن تسلك القوى الإقليمية الشرق أوسطية نهجاً مماثلاً للصين في تعاملها مع انقلاب النيجر. إذ عمقت تركيا تعاونها الأمني مع النيجر منذ زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان لنيامي في يناير/كانون الثاني عام 2013. وفي يوليو/تموز عام 2020، وقع وزير الخارجية التركي الستبق مولود تشاووش أوغلو ،اتفاقية تعاونٍ عسكري مع الرئيس الأسبق محمد يوسفو، قبل تسليم النيجر ست مسيرات من طراز بيرقدار تي بي-2 وطائرة تدريب من طراز هوركوش أواخر 2021. علاوةً على أن تركيا لديها طموحات لبناء قاعدة جوية في النيجر من أجل استضافة معداتها العسكرية هناك.
أما بالنسبة لعلاقات النيجر مع العالم العربي، فسوف تصمد رغم الانقلاب على الأرجح. إذ وفرت مصر التدريب والتمويل لقوات النيجر المسلحة، في محاولةٍ منها لموازنة النفوذ التركي في منطقة الساحل. وفي الثامن من يوليو/تموز، أرسلت مصر إلى النيجر “شحنةً كبيرة” من المعدات العسكرية التي تضم مركبات الاستطلاع المدرعة بي آر دي إم-2، ومدافع هاوتزر إم-30. بينما تضاءل التعاون الأمني الإماراتي مع النيجر منذ أن قللت الأخيرة دعمها لزعيم الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر عام 2021. لكن موقع النيجر يتماشى مع الاستراتيجية التي تهدف إلى استثمار 19 مليار دولار في غرب إفريقيا، والتي كشفت عنها الإمارات عام 2014.
واستثمرت السعودية في مشروعات كبرى بالنيجر أيضاً، مثل سد كانداجي وإنشاء المدارس الابتدائية المحلية. وتأتي الاستثمارات السعودية بالتزامن مع سعيها لتقليص نطاق التعاون الاقتصادي للنيجر مع إيران. إذ انتشرت التكهنات حول مشتريات اليورانيوم الإيرانية من النيجر بسبب زيارة الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، لنيامي في أبريل/نيسان 2013، وبسبب قرار طهران بناء منجمين جديدين لليورانيوم في الفترة نفسها.
ويمكن القول إن الغموض يُخيم على المسار السياسي للنيجر في المدى القريب، لكنّ تفشي غياب الاستقرار سيهدد مصالح جميع الأطراف المعنية الخارجية الكبرى. ومن المحتمل أن تؤدي المصالح المالية والضرورات الأمنية إلى إقناع القوى الخارجية بإبرام صفقة مع المجلس العسكري في النيجر، مع الضغط على تشياني حتى يقبل بوضع إطار للانتقال إلى الحكم المدني. ويستطيع تشياني الآن الاختيار بين اتباع سياسة خارجية متعددة الاتجاهات للموازنة بين القوى المتنافسة، وسلك المسار الروسي الذي سبقه إليه قادة المجالس العسكرية في مالي وبوركينا فاسو.