ضحاياه يمتدون عبر العالم.. من هو ضابط الاستخبارات الإسرائيلي السابق صاحب إمبراطورية تقنيات التجسس؟
نلقي في “عربي بوست” نظرة على شخصيّة تال ديليان وطموحاته في اختراق صناعة برمجيات التجسس، وكيف ظهر اسم إمبراطوريته للعلن في عالم الاختراق، وما أهداف شركاته في تقديم خدماتها للاختراق لاستخبارات الدول والأنظمة الديكتاتورية في مناطق مختلفة حول العالم.
شاحنة التجسس الإسرائيلية تجول في قبرص
جاء الظهور العلني الأول لتال ديليان مع شاحنة التنصّت بما تمتلكه من معدّات تجسس يتباهى بها في مقابلةٍ له مع مجلة فوربس الأمريكية في الأيام الأولى من شهر أغسطس/آب 2019، وهي الشاحنة نفسها التي ستسبّب له ولشركته مشاكل جمّة مع الشرطة والمحاكم القبرصية.
تُكلّف الشاحنة ما بين 3.5 إلى 9 ملايين دولار، ويختلف السعر وفقاً لمقدار تكنولوجيا التجسس والمعدات التي يرغب بها العميل.
يمكن للمعدات، المجهزة بها الشاحنة، التنصّت على الأجهزة الإلكترونية الموجودة في دائرة 500 متر، وقرصنة أيّ جهاز هاتفي والتنصّت على المحادثات أيّاً ما كان مستوى ترميزها، أو مقدار الحماية التي تؤمنها التطبيقات، وفقاً لما ورد في فوربس.
لإثبات هذه المزاعم، طلب ديليان من زميل له الابتعاد إلى مسافةٍ تقارب 183 متراً عن الشاحنة، متفاخراً بأنه سيتمكّن من تعقّب جهاز هذا الزميل واعتراضه، ومن ثم إصابة الجهاز بأدوات التجسس.
ويظهر ديليان في المقابلة، وهو يجبر هاتف هذا الزميل -من نوع هاواوي- على الاتصال بمركز خدمة الواي فاي خاصته، ومن ثم يخترق الجهاز من هناك ويثبّت برنامج المراقبة بصمت.
نجح اختراق الهاتف دون أن يضغط الضحية على أيّ روابط، وخلال ثوانٍ ظهرت رسائل واتساب من جهاز الضحية على الشاشة أمام ديليان في شاحنة التجسس.
تحوي هذه الشاحنة مجموعة كبيرة من أدوات برامج التجسس التي يوفّرها ديليان ضمن خدمات شركته إينتيليكسا، التي بُنيت لتكون المتجر أو الترسانة الإلكترونية الشاملة لما يمكن أن تحتاجه الشرطة وأجهزة الاستخبارات في الميدان.
ويشمل ذلك أدوات القرصنة بنظام أندرويد، وتقنيات للتعرف على الوجوه أينما وُجدت، والاستماع إلى مكالمات المُستهدَفين، وتحديد مواقع جميع الهواتف في بلدٍ بأكمله في دقائق، ومعرفة مكان الشخص المستهدَف كل 15 دقيقة، وفقاً لما يدّعيه ديليان نفسه.
فضائح التجسس في قبرص واليونان وقائمة الدول الأخرى
لم تتلقَ الجهات المعنيّة في قبرص خبر وجود شاحنة التجسس على أراضيها بأيّ استحسان، وجاء التساؤل الأكبر من الحزب الاشتراكي المُعارض “أكيل أو حزب العمال التقدمي” عما ستفعله الحكومة إزاء هذه الشاحنة.
وهو ما دعا الشرطة القبرصية إلى مصادرة الشاحنة وفتح تحقيق في القضية في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، وإيقاف بعض عمّال تابعين للشركة ومن ثم سعي الشرطة لاستجواب تال ديليان بعد أشهرٍ من انتشار فيديو فوربس وتفاقم تداعيات القضية.
انتهى التحقيق إلى تغريم شركة ويسبير WiSpear، التي كانت الشاحنة مُقيّدة تحت اسمها آنذاك، ودفعت القضية ديليان إلى نقل شركته إلى موقعها الجديد في اليونان، ومن ثم تغيير اسمها لاحقاً.
تبعت هذه الفضيحة ملاحظة الصحفي اليوناني ثاناسيس كوكاكيس بأن هاتفه لا يعمل بالشكل الصحيح، إذ بدأت بطاريته تفرغ بسرعة والمحادثات تنقطع دون سبب، وهو ما شكّك الصحافي بخضوعه للمراقبة، لا سيما مع كتابته الانتقادية للسياسات الاقتصادية لرئيس الحكومة اليونانية.
وبالفعل، اكتشف معهد أبحاث سيتزين لاب أن كوكاكيس تعرّض لمحاولة اختراق من قبل برنامج التجسس بريداتور، من إنتاج شركة Cytrox التابعة لتال ديليان أيضاً، ولم يكن هذا البرنامج معروفاً قبل هذه الحادثة.
سرعان ما تلاحقت فضائح التجسس في اليونان، إذ اكتشف زعيم الحزب الاشتراكي اليوناني المعارض وعضو البرلمان الأوروبي نيكوس أندرولاكيس في يونيو/حزيران 2022 عن تعرّضه لمحاولة اختراق من قبل نفس برنامج التجسس، وذلك بعد إنشاء البرلمان الأوروبي خدمة خاصة؛ ليفحص أعضاء البرلمان أجهزتهم الهاتفية بعد اكتشاف فضائح برنامج بيغاسوس.
تسبب هذا الكشف بهزّ الساحة السياسية في اليونان، متسبباً بسلسلة من الاستقالات، كان أبرزها استقالة رئيس جهاز الاستخبارات اليوناني، وتشكيل لجنة تحقيق برلمانية خاصة في الأمر، ودعوة العشرات من الأكاديميين والصحفيين اليونانيين إلى التنبّه لما وصلت إليه “سيادة القانون في اليونان” ضمن عريضة عُنونت بـ”صفر ديمقراطية”.
لا تزال تداعيات برمجيات ديليان التجسسية وأدلّة جديدة تظهر في كلّ من قبرص واليونان.
وزاد على هذا السجلّ حديثاً ما كشفه التحقيق المنشور في صحيفة هآرتس، عن أن بنغلاديش ودولة عربية، لم يُفصح عن اسمها، من ضمن عملاء شركة إنتيليكسا، وأن الشركة – أو الشركات المرتبطة بها- قد مارست أنشطتها أيضاً في مصر وغانا، وربما تركيا.
بالإضافة إلى تقرير سابق لسيتزن لاب يظهر احتمالية عالية لوجود عملاء لبرنامج بريدتور في اليونان ومصر وإندونيسيا وعمان والسعودية، وربما أرمينيا ومدغشقر وصربيا.
من هو ديليان إذن؟
يُعرف ديليان نفسه في موقعه الشخصيّ بأنه “خبير استخبارات، وبانٍ مجتمعيّ، ورجل أعمال متسلسل”.
ويقول إنه يوظّف خبرته التي تزيد على 25 عاماً في وحدات النخبة في جيش الدفاع الإسرائيلي لتحسين ممارسات الاستخبارات للقطاعين العام والخاص، ويؤكد أن “نجاحه الهائل في تجارة التكنولوجيا الفائقة” لن ينسيه جذوره، وأنه يعمل على تحسين حياة “الشباب المحرومين في إسرائيل” عبر مبادراته الخيرية.
ويدرج موقعه عناوين نشاطاته التجارية التي تتراوح بين التكنولوجيا التي تخدم الاستخبارات والتقنيات الأمنية، وكذلك أنظمة الإنتاج للمصنّعين المختلفين، والعقاقير وأجهزة الطاقة الشمسية ومنتجات عناية البشرة، ومنظمات عاملة على تطوير مناطق النقب والجليل.
وفي المقابلة الوحيدة التي يظهر فيها ديليان للعلن، تصف فوربس رجل التجسس بأنه جزل بليغ في كلامه، ترتسم على وجه ابتسامة تتراوح بين الساحرة واللعوبة. عاش طفولته في القدس، حيث كان والدا ديليان فنانين ومعلمين في أكاديمية بتسلئيل الشهيرة للفنون في القدس.
بدأ حياته الاستخبارية في سنّ 18 عاماً، حيث أمضى قرابة ربع العقد -1979 إلى 2002- في جيش الدفاع الإسرائيلي، بدأها في وحدة قتالية خاصة، وترقى ليصبح قائداً رئيسياً للوحدة التكنولوجية في سلاح المخابرات في جيش الدفاع الإسرائيلي، المعروفة باسم الوحدة 81، وحصل على جائزة الدفاع لـ”مساهماته البارزة في أمن إسرائيل”.
وكان لديليان مسيرة عسكرية واعدة كان يمكن أن تنتهي برئاسة ديليان للمخابرات العسكرية الإسرائيلية، بيد أن فضيحة بسيطة تنطوي على مخالفات مالية في “الوحدة 81” أدت إلى تأجيل ترقيته وفي عام 2002 قرر ترك الجيش مع مرتبة الشرف.
وبعد ذلك، خرج ديليان إلى عالم التجارة والاستثمارات، وتنقل في مجالات عدة، إلى عام 2020 حين أسس شركة إنتيلكسا بالتعاون مع أفراهام شاحاك أفني، وأوز ليف، الذي ترأس الوحدة 81 قبل ديليان.
طموحات ديليان التكنولوجية
من بين نشاطات ديليان المُعلنة، تُعتبر إنتيليكسا المشروع الأهم لدى ديليان، ويزعم أنه وُضع لمكافحة الجريمة ومساعدة الاستخبارات على حماية المجتمعات عبر المراقبة والاختراق التقني، إلا أن الدلائل تُشير على أن هذا المشروع ليس سوى منظمة قرصنة كبيرة، وكان موقع إنتيلكسيا يتحدث في نسخةٍ سابقة بصراحة عن تقديم خدماته بالاعتراض التكتيكي.
وتعتبر إنتيليكسا علامة تسويقيّة تتوحد تحتها أسماء متعددة لمورّدي وصناع تقنيات تجسس مأجورة، وشركات وكيانات ما يزال يُحيط بها الغموض، بهدف خلق مركز تجاريّ شامل لكل العملاء الطامحين للتجسس.
تركز طموح ديليان على منافسة أكبر الأسماء في سوق صناعة التجسس الإسرائيلية، وتحديداً مجموعة NSO التي تشتهر ببرنامج بيغاسوس للتجسس على الهواتف المحمولة، الذي تمكّن معهد سيتزين لاب من تعقّب اختراقاته لهواتف صحفيين ونشطاء ومسؤولين وخلافه في 45 دولة مختلفة.
لا يزال برنامج بيغاسوس هو البرنامج الأشهر والأخطر عالمياً على صعيد التجسس، إذ يمكن لبرمجيّة بيغاسوس أن تفعل في الهاتف المُخترق أي شيء يمكن للمستخدم أن يقوم به، ورغم أن برنامج بريديتور يظهر أنه مقارب لإمكانيات تجسس بيغاسوس، إلا أنه يحتاج إلى أن يضغط الضحية على رابطٍ مُرسل للهاتف وفقاً لما تمّ اكتشافه من عمليات اختراق حتى الآن، بما في ذلك اختراق جهاز المعارض المصري أيمن نور الذي تمّ عبر تلقّي رابط عبر الواتس آب من رقم مصري.
ويبرز الفارق الآخر، بأن مجموعة NSO لا يزال عليها العمل وفقاً للقانون الإسرائيلي رغم سجّلها الطويل بالانتهاكات، بينما يمكن لإنتيليكسا أن تمتلك قاعدة عملاء أوسع لعدم التزامها لا بالقانون الإسرائيلي، ولا أيّ منظم آخر، وذلك وفقاً لما قاله مصدر في صناعة برامج التجسس الإسرائيلية لصحيفة هآرتس.