“عرين الأسود” وحدة الفكرة.. وتعدد الحوامل  

سليم يونس

قد يبدو المشهد في الضفة الغربية متناقضا، لجهة أن السلطة التي هي كبار متنفذي فتح، وكذلك أصحاب المصالح ممن ارتبطوا بالسلطة كمفهوم وحالة ضمن منظمة التحرير سواء قبل أوسلو أو بعدها، وقبلوا بالتنسيق الأمني الذي يعبر عن تشوه فكري وسياسي ووطني بذريعة منع الفوضى والفلتان الأمني هم في وادي، فيما يقف في الجهة المناقضة ( الوادي الآخر) شبان من مختلف مناطق الضفة رفضوا واقع الاستكانة للعدو الصهيوني، الذي وصلت حد الإذلال من خلال ممارسات جيشه وأجهزته الأمنية وقطعان مستوطنيه، فقرر هؤلاء الشباب  مواجهة هذه العدوانية بما يجب أن يكون عليه واجب مواجهة بلطجة احتلال الكيان الصهيوني، وذلك عبر استحضار الشكل الأرقى من النضال بالعنف الثوري في أرقى تجلياته ضمن محددات وشروط هم من أبدعها.

وهذه النقلة النوعية في مواجهة الاحتلال هي تطور موضوعي في سياق معركة الشعب الفلسطيني الطويلة والمعقدة ومتعددة المراجل على طريق كنس الاحتلال، من قبل شباب فلسطيني رفض أن يعيش كالسابق، أو يسمح للكيان الصهيوني أن يمارس عدوانيته دون مواجهته بالطريقة نفسها، ولكن بعيدا عن حسابات الفصائل التي يهم بعضها “البرواز الإعلامي”   وربما تكتفي برسائل المباركة بعد سقوط الشهداء، والإدانة لممارسات الاحتلال، عبر ملء الفضاء الإعلامي بوجودها في المشهد،  ولكن أي وجود؟!!

في حين أن ممارسات هؤلاء الشباب ترسم ملامح طريق آخر، من خلال أولوية الفعل بعيدا عن المباهاة المقيتة من أجل حسابات حزبية ضيقة، ضمن مفهوم أن خطوة عملية أفضل من ساعات من الجعجعة التي لا تنتج طحينا.

في مثل هذا المناخ المتناقض كان من الطبيعي أن تفرز الحالة الكفاحية الفلسطينية من رحمها هي؛ أدواتها التي تشبهها وتلبي شرطها الكفاحي بعيدا عن  نهج التواطؤ للبعض ومناضلي وسائل الإعلام للبعض الآخر، عبر “عرين الأسود” وأخواتها كمنتج فلسطيني في مواجهة تغول الكيان الصهيوني وقطعان مستوطنيه، ويمكن القول إن ميلاد هذه الظاهرة سحب البساط  جزئيا بصدقيته ونزاهته من تحت أقدام قوى الشعارات والتبريكات، وأيضا سلطة التنسيق الأمني كظاهرة فلسطينية جديدة فرضت نفسها على المشهد في فلسطين كفاعل موضوعي في مواجهة شرط الاحتلال.

ومغ أن ظاهرة عرين الأسود جديدة في تجلياتها العملية، إلا أنها بامتياز نتاج طبيعي لتجربة الشعب الفلسطيني الكفاحية الممتدة لعشرات العقود  في مواجهة الاحتلال البريطاني أولا ثم المشروع الصهيوني لاحقا، وكذلك لحالة الاشتباك التي مارسها أهل الضفة كنوع من أنواع الكفاح في مواجهة الاحتلال  الصهيوني وما تزال.

ومن ثم فإن عرين الأسود يمثل استجابة  كفاحية  لشرط وجود سلطة عاجزة إن لم يكن أكثر، وقوى فصائلية حشرت مسألة التصدي ومواجهة الاحتلال في صندوق مصالحها وراياتها ربما أحيانا قبل مصلحة فلسطين، وعلى النقيض من ذلك أتت عرين الأسود وكل الحالات المماثلة لها وفق مقاربة  “أننا مجهولون وأن عملنا هو الشاهد علينا وأن اللثام لا نميطه إلا عند الاستشهاد”، والثابت أن أولئك الشباب يعرفون تماما ما يريدون بعيدا عن سلوك الفصائل الإعلامي الدعائي، فهم قوى فعل وليسوا باعة كلام، لأنهم لا يبحثون عن الترويج الإعلامي وإنما عما يدمي العدو الصهيوني.

ولذلك فإن عرين الأسود يجب التعامل معها على أنها فكرة وفعل متجاوز للقوى والمناطق، وإنما هي لكل فلسطين، وأينما وُجد الاحتلال، وهي قادرة على تحديد اتجاه البوصلة، نحو هدفها المحدد، من خلال تأكيدها أنها ستسير على خطى الشهداء، فلن تقف المجموعة مكتوفة الأيدي ولن تترك البندقية وستقوم بسحق العملاء والخونة. وثانيا: البنادق لن تهدر رصاصة في الهواء، فالعدو هو الاحتلال الإسرائيلي، وثالثا: أعضاء الأجهزة الأمنية أخوة لنا، وسلاحنا لن يتوجه إليهم.

والتجربة المعاشة  تقول إن “عرين الأسود”.. مقاومة فلسطينية من الجيل الجديد، تجاوزت الفصائلية المعروفة لكنها لا تعاديها، وبهذا المعني فهي تمثل تطورا نوعيا مهما في معادلة القوة في الصراع مع الاحتلال، بفعلها وحالة الاستقطاب التي خلقها وجودها في الحالة الشعبية الفلسطينية كظاهرة يجب الالتفاف حولها وحمايتها، كونها وفق كل المؤشرات  قادرة على قلب الموازين في الضفة المحتلة والقدس بعد أن نجحت في تحويل البيئة الأمنية لجيش الاحتلال ومستوطنيه إلى حالة من غياب الأمن والشك في مكنة الاحتلال أن يحكم قبضته على الضفة كالسابق.

وقد أكدت ذلك في مواجهة حملة العدو على مدينة نابلس منذ بضعة أيام، عندما تمكنت من قراءة مخطط حملته العدو التي حشد لها خيرة قواته، وتعاملت معها وفق شرطها العملياتي فألحقت به خسائر تحدته أن يعرض الفيديو الذي يوثق تلك المواجهة المحسوبة من قبل شباب العرين، وكذبت ادعاءه بتحقيق أهداف عدوانه على نابلس.

وإذا كان مقاومي عرين الأسود متجاوزون للفصائلية بالمعنى التنظيمي وكمرجعيات عمل، فإنها تغرف من تلك الفصائل، ولكن وفق شرط بنيتها ورؤيتها وسلوكها  الكفاحي،  وهذا التجاوز  للفصائلية، وجعل فعلها هو الذي يعلن عن نفسه، خلق هذا الالتفاف الشعبي والسياسي والفكري حولها، باعتبارها  كظاهرة  حاجة فلسطينية جاءت في وقتها، يجب المحافظة عليها وحمايتها من العدو الصهيوني وغيره،  على قاعدة أن عرين الأسود كفكرة يجب أن تبقى وتنتقل لكل مدينة وقرية فلسطينية على طريق دحر الاحتلال ليس من الضفة وإنما من كل فلسطين. ولأنها فكرة ومثال فهي يمكن أن تتناسل على مستوى كل الوطن الفلسطيني، لتفوت على الكيان الصهيوني فرص حشد آلته العسكرية للنيل منها، لأن عرين الأسود الفكرة ستكون مجسدة ومنتشرة في فلسطين، وأينما كانت هناك حاجة لها. وصولا إلى أن تكون عرين الأسود بمثابة وحدة الفكرة مع تعدد الحوامل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى