“فتح” بين شيخوخة العقل السياسي والكفاحي.. وشرط مواجهة الاحتلال
سليم يونس
ربما تجيب ملحمة جنين الجديدة في مواجهة جيش الاحتلال بكل آلته العسكرية التي ارتقى فيها أربعة شهداء وعددا من الجرحى، على سؤال البعض الملغم بسوء النية، أين حركة فتح في المشهد الكفاحي الفلسطيني في بعده العنفي؟ ومن ثم قصر هذا الشكل من أشكال الصراع مع الاحتلال على بعض الفصائل وتغييب حركة فتح.
والمفارقة أن ذلك يبرز عندما تخاطب الآلة الإعلامية لبعض الفصائل والأحزاب التي تتخذ من غزة قاعدة لها، ثم تتحدث عن وحدة البندقية والساحات، لكنها تسقط دوما حركة فتح من خطابها وتعبئتها الإعلامية، كونها تريد ذلك بدوافع حزبية وفكرية وسياسية، لأن تلك القوى المتنفذة عسكريا، تعتقد سواء كان ذلك صحيحا أم لا، أن فتح فقدت إيقاعها الكفاحي في شكله المسلح سواء في الضفة أو غزةـ بعد أن أصبحت السلطة.
لكن مع أن هناك من عمل على وضع فتح داخل صندوق أوسلو وربما جزئيا إلى حين، إلا أن فتح بكل ثقلها المادي والمعنوي وتجربتها الكفاحية وإرثها تبقى أكبر من أن تدجن وسلبها وعيها بحقيقة التناقض الأساس ومع منْ؟ لكن من موقع المراقب، يمكن القول إن مشكلة فتح أن الرأس القيادي فيها يعاني من شيخوخة سياسية وفكرية، ولا يريد أن يقرأ المتغيرات التي حدثت في المشهد الفلسطيني وهو المتغير الذي يقف وراء تلك النظرة إلى حركة فتح، وربما بسوء نية تحميل هذه البنية لفتح أوزار أوسلو وخيارات قيادتها السياسية والكفاحية، ولأن هذا العقل السياسي الذي يقود فتح مُصِر مع كل هذه العدوانية الصهيونية على أن موقف فتح، هو كما أكد الرئيس محمود عباس أمام الجمعية العامة، وهو عدم اللجوء لما سماه: “ للسلاح والعنف.. هذه قاعدة لدينا.. لن نلجأ للإرهاب وسنحاربه معًا وسويًا..” هذا الموقف الذي يتقاطع فيه رئيس فتح مع بعض مواقف الكيان الصهيوني من المقاومة، هو سبب أكيد في الحد من أخذ فتح لدورها ارتباطا بثقلها الموضوعي وريادتها للكفاح المسلح.
ومن ثم فإن شيخوخة قيادة فتح التي تعتبر أن وجودها على رأس هرم التنظيم هو بحق الميراث، إنما ينعكس سلبا على الحركة ، ويجدر الإشارة هنا أن المقصود بالشيخوخة ليس شيخوخة الأعمار، ولكن شيخوخة الفكر والمقاربات السياسية، والفكرية في مواجهة الاحتلال، كون تلك القيادة استمرت لسنوات وحتى الآن، تراوغ ومصره على نهج تجاوزه الزمن في ظل صراع مع عدو أكد خطل مبررات طريق أوسلو البائس، الذي أنتج للأسف قوى متنفذة، في فتح وفي المشهد الفلسطيني، في حين أن فضاء تلك القوى هو حديقة فتح الخلفية وهؤلاء جميعا ليس لهم مصلحة في المراجعة السياسية، وتبني مشروعا وطنيا جامعا لمفهوم الكفاح بكل أشكاله وعلى رأسه الكفاح المسلح، الذي يجب الأخذ به في مواجهة الإجماع الصهيوني، بعد أن تبين أنه ما من حل سياسي مع الفلسطينيين ولا دولة حتى بمواصفات أوسلو.
وأستطيع أن أقول كمراقب إن المشكلة ليست في جسم فتح في مستوياته المتوسطة والقاعدية وربما بعض المستويات القيادية في هرم التنظيم، لكنها في العقل السياسي والفكري والعملي الذي يقود فتح، سواء كان شخصا أو أشخاص، وفي أولئك الذين من خارج فتح ويسعون إلى إزاحتها من المشهد في حين أن فتح وفق آخر انتخابات تشريعية كانت الثقل الشعبي الأكبر كأصوات في صناديق الاقتراع بصرف النظر عن النتائج التي قررها قانون الانتخابات. ومن ثم فإن كان هذا الثقل الوازن بحاجه إلى تفعيل، فمن غير المتوقع أن تستطيع ذلك قيادة عاجزة بالمعنى السياسي والفكري، ساهم سقفها المتدني سياسيا وكفاحيا في إضعاف فتح حتى وصل الأمر أن تأكل أبناءها.
إن ما يجري في الضفة من حضور لحركة فتح من خلال الاشتباك الشعبي والعسكري مع الاحتلال هو من فعل فتح الغاضبة التي يحدد بوصلتها حس أعضائها الوطني، وليس الخيارات السياسية لقيادتها العليا، ومع ذلك فإن وجود فتح في غزة الذي يمكن توصيه بـ” المراقب” على ضوء انقلاب حماس الدموي عام 2007، وتعامله معها كعدو محتمل، في حين أن مواجهة المشروع الصهيوني تتطلب وجود كل القوى الفاعلة وليس القوى المنصبة من هذا الطرف أو ذاك، دون وجود موضوعي كفاحي أو شعبي، سوى أنها أصوات إعلامية في حدائق بعض القوى الفلسطينية الأكبر.
إن وجود فتح في المشهد الكفاحي وفق برنامج ورؤية سياسية وكفاحية مسؤولة جادة وموضوعية لمشروع التحرير، هو هدف يجب العمل عليه من قبل القوى الحريصة على الوحدة أفعالا لا أقوالا ، لأننا لا نتصور أن مشروع وحدة فلسطينية تُغيّيب عنه فتح، هو مشروع كامل الوطنية، لأنه في مثل تلك الحالة يعكس نوايا مقصودة لا تريد مصلحة فلسطين بل مصلحتها ومصلحة داعمها الإقليمي.
إن وجود فتح بثقلها وتجربتها هو بمثابة وضع هرم فتح على قاعدته مجددا، شرط أن تواؤم العقل القائد مع الجسم، كي نكون أمام جبهة فلسطينية واحدة تضم الجميع دون استثناء، بدل الهبات الفصائلية التي تهدف لإثبات الذات فيما الشعب يدفع الثمن لإرضاء غرور هذا الفصيل أو ذلك، سعيا وراء “برواز” إعلامي مقابل ثمن فادح يدفعه الشعب. لأن هذه الوحدة هي السبيل لترجمة الأقوال إلى أفعال على طريق تحرير الأرض وإنجاز حق العودة.
ومن ثم فإن دور فتح الكفاحي في الضفة ، من شأنه أن يقول إن غياب دور فتح كفاعل في الضفة وغزة، هو عامل سلبي ويضع علامة استفهام حول صدقية وحدة المقاومة سواء في شكل سيف القدس أو وحدة الساحات أو أي عنوان آخر ، وإنه من ثم لتقدير خاطئ من البعض تغليب التناقض الداخلي على التناقض التناحري الرئيس، كتناقض مع مشروح الحركة الصهيونية في فلسطين، وهذا في تقديري يتطلب صياغة برنامج سياسي وكفاحي مشترك يستجيب لشرط اللحظة بعد أن ثبت أن الطريق الخاطئ الذي سار فيه فريق أوسلو ضيع الكثير من الأرض، وجعل الشعب الفلسطيني يدفع أثمانا باهظة جراء تلك السياسات، وأيضا جراء حماقات بعض الفصائل التي جعلت الشعب الفلسطيني أسير مصالحها السياسية والأيديولوجية.
وهذا بالتأكيد يتطلب القطع مع فكر أوسلو ومشتقاته بعد انكشاف وهم حل الدولتين، ومن ثم بناء ميزان قوى فلسطيني وفق شرط اللحظة في بعده الراهن والمستقبلي، لأنه هو العامل المقرر في الصراع مع هذا الكيان الإحلالي، ووعي أهمية وضرورة هذا العامل، هو بداية جدية للخروج من المأزق الذي يعيشه الواقع الفلسطيني.